

تمتلك مصر كنزًا استراتيجيًا هائلاً تحت رمال صحرائها الشاسعة التي تُشكل أكثر من 90% من مساحتها. هذا الكنز ليس مجرد ثروة طبيعية، بل هو فرصة تاريخية لتحقيق قفزة نوعية في الاقتصاد الوطني ووضع مصر في مصاف الدول العظمى. فالأحداث العالمية، مثل الحرب الأوكرانية الروسية، قد سلطت الضوء على الأهمية المتزايدة للمعادن النادرة، التي باتت تُشكّل عصب الصناعات الحديثة.
التحديات الحالية والفرص المتاحة
يُعد قطاع التعدين في مصر محورًا استراتيجيًا للتنمية. ففي الوقت الذي تعتمد فيه الصناعات التكنولوجية المتقدمة على معادن مثل التنتالوم، الذي تمتلك مصر ثالث أكبر احتياطي عالمي منه في منجم أبو دباب فبعد الاستمتاع بجمال مياه البحر الأحمر في مرسى علم، وعلى طريق القصير، تحديدًا عند الكيلو 100، يمتد الطريق نحو قلب الجبال، حيث يقع منجم أبو دباب، الذي تديره شركة "تنتالم إيجيبت" العربية الأسترالية، الحاصلة على حق الامتياز للتنقيب منذ عام 2007.
أهمية التنتالوم عالميًا
يُستخدم التنتالوم في:
صناعة المكثفات الإلكترونية (Tantalum Capacitors) التي تدخل في:
الهواتف الذكية
الحواسيب المحمولة
الأجهزة الطبية الدقيقة (مثل أجهزة تنظيم ضربات القلب)
السيارات الكهربائية
صناعة الطائرات الحربية والمحركات النفاثة لقدرته على تحمل درجات الحرارة العالية والتآكل.
الطاقة النووية وصناعات الفضاء.
صناعة السبائك المقاومة للحرارة والتآكل، خاصة في المعدات الكيميائية والطبية.
الطلب العالمي المتزايد:
مع التوسع في استخدام الأجهزة الإلكترونية والسيارات الكهربائية وتكنولوجيا الفضاء، يتزايد الطلب العالمي على التنتالوم بمعدلات سنوية مرتفعة تتراوح بين 7- 10%.
أسعار التنتالوم عالميًا
يراوح سعر التنتالوم الخام في السوق العالمي بين 250 إلى 400 دولار أمريكي للكيلوجرام الواحد، وقد يرتفع في حال زيادة الطلب أو اضطرابات في سلاسل التوريد.
يُصنف التنتالوم ضمن المعادن الاستراتيجية ذات السعر المرتفع، نظرًا لندرته وصعوبة استخراجه.
تُضيف عمليات التنقية والتصنيع قيمة مضافة ضخمة، حيث يُباع التنتالوم المعالج بأسعار تتجاوز 1000 دولار/كجم في بعض الصناعات الدقيقة.
الصناعات القائمة على التنتالوم في العالم
شركات الإلكترونيات الكبرى مثل: Apple، Samsung، Intel تعتمد بشكل مباشر على التنتالوم في تصنيع الدوائر الإلكترونية.
شركات تصنيع الطائرات مثل: Boeing، Lockheed Martin تستخدمه في محركات الطائرات.
شركات التكنولوجيا الطبية مثل: Medtronic وBoston Scientific في تصنيع الأجهزة المزروعة داخل جسم الإنسان.
شركات صناعة السيارات الكهربائية مثل Tesla وBYD تحتاج التنتالوم في البطاريات والدوائر الدقيقة.
ومع هذه الاستخدامات الحيوية، تُعد السيطرة على مناجم التنتالوم من عناصر القوة الجيوسياسية للدول.
حتمية إنشاء جامعة تعدينية متخصصة
إن الاستفادة الكاملة من هذه الثروات لا تقتصر على عمليات الاستخراج الأولية، بل تتعداها إلى مراحل التنقية والمعالجة والتصنيع التي تضيف قيمة اقتصادية هائلة. ولتحقيق ذلك، يجب أن يكون التعليم التعديني هو حجر الزاوية. تُعد فكرة إنشاء جامعة تعدينية متخصصة في مصر على غرار الجامعات التطبيقية في أمريكا وروسيا خطوة ضرورية وحاسمة.
لماذا جامعة تعدينية
تخصص دقيق: تختلف دراسة التعدين عن الهندسة التقليدية، فهي تتطلب تخصصًا عميقًا في الجيولوجيا، وهندسة المناجم، والمعالجة المعدنية، والاستشعار عن بعد، وتقنيات الحفر.
تطبيق عملي: يجب أن تركز هذه الجامعة على الجانب العملي من خلال توفير ورش عمل ومختبرات متقدمة تُمكّن الطلاب من التعامل مع أحدث التقنيات المستخدمة في الصناعة.
تدريب الكوادر: ستكون مهمتها الأساسية تخريج جيل من المهندسين والجيولوجيين والفنيين المؤهلين للعمل في قطاع التعدين، مع إمكانية توفير برامج تدريب مستمرة للعاملين في هذا المجال.
نموذج عالمي للنجاح
يمكن لمصر أن تستلهم تجربة الدول الرائدة في هذا المجال. ففي الولايات المتحدة، تُعتبر جامعات مثل Colorado School of Mines منارة للعلم التعديني. وفي روسيا، تُعد الجامعات المتخصصة في التعدين مصدرًا رئيسيًا للخبرات والبحوث التطبيقية التي تخدم القطاع الحيوي للاقتصاد الروسي.
هذه الجامعات لا تُقدّم فقط شهادات أكاديمية، بل تُشكّل مراكز للبحث والتطوير وتُبرم شراكات مع الشركات الكبرى في قطاع التعدين.
نحو مستقبل مستدام
يُعزّز إنشاء جامعة تعدينية من القدرة التنافسية لمصر على الصعيد الدولي، ليس فقط في استخراج الخامات، بل في تصنيع المنتجات النهائية ذات القيمة المضافة العالية، مثل المكثفات الإلكترونية المستخدمة في الهواتف الذكية. إن امتلاك المعرفة والخبرة في هذا المجال سيمكّن مصر من جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويُسهم في بناء صناعات تكنولوجية محلية.
إن الثروات المعدنية في مصر هي فرصة للتقدم والازدهار. ولكن هذه الفرصة لن تتحقق إلا من خلال الاستثمار في التعليم وتأهيل الكوادر البشرية القادرة على تحويل الثروات الكامنة إلى قيمة مضافة ومستقبل أكثر إشراقًا لمصر.

