بقلم: أمل خيري


تركِّز التَّوجهاتُ الدوليَّة الحديثة - في مَجال التنميَّة المستديمة - على الإنسان، كمحور أساسيٍّ للتنمية، باعتباره المشاركَ الرئيس في تنفيذ الأنشطة التنمويَّة، وأيضًا باعتباره المستفيدَ الأوَّلَ منها؛ لذا ظهر مفهومُ التنمية البشرية المستديمة بهدف تَمكين البشر، وزيادة فرصتهم في التأثير في المجتمع.

وتلعب مُؤسساتُ المجتمعِ المدني دورًا فاعلاً في تنمية المجتمعات، اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وسياسيًّا وثقافيًّا، عَبْر تمكين الأفراد من خلال إشراكهم في تنفيذ خطط التنميَّة، ونتيجةً لهذا التوجُّه الدولي؛ انعكست عمليَّاتُ التغييرِ والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في فِلَسطين، على رُؤية وأهداف وأنشطة مُؤسسات المجتمع المدني، بضرورة تحويلها من مؤسسات إغاثة، أو مؤسسات إحسان، إلى مؤسسات تنمويَّة خدميَّة، تشارك بفاعلية في التنمية الشاملة للمجتمع الفلسطيني.

ومن هنا برزت إستراتيجيَّة تطوير الموارد البشريَّة وقدرات المؤسسات، كمدخل تنمويٍّ في كثير من المؤسسات الأهليَّة الفلسطينيَّة، ومن هذه المؤسسات التنموية مركز "بيسان" للبحوث والإنْماء، والذي تأسس منذ عام 1989، كمؤسسة أهلية فلسطينية غير هادفة للرِّبح، تسعى لتحقيق إستراتيجيَّة تنموية شاملة للمجتمع الفلسطيني، انطلاقًا من الدَّور الحيوي لتنمية الموارد البشريَّة المحليَّة من جهة، وتطوير وتقوية وتَمكين المُؤسسات المحليَّة من جهة أخرى؛ حتَّى يصبح الفلسطينيُّون قادرين على الاعتماد على أنفسهم، وتقليل التبعيَّة للخارج، ودمج الفئات المهمشة والضَّعيفة في العمليَّة التنمويَّة، وتعزيز قدرات المؤسسات المحلية؛ لكي تتمكن من الاستجابة لاحتياجات المجتمع الفلسطيني وأولوياته، من خلال تعزيز آليات التنمية المجتمعية الفعَّالة.

تفعيل الفئات المهمشة:
وقد نجح المركزُ بالفعل في استقطاب أفراد المجتمع المحلي والمدرَّبين والخبراء والنُّشطاء؛ لتنفيذ برامج مُختلفة في التدريب والتطوير المؤسسي، وسائر الأنشطة المتعلقة بالتنمية المجتمعيَّة.

ويستهدف المركزُ في الأساس الفئاتِ المهمَّشة في المجتمع، خاصَّة النِّساءَ والفُقراء والعاطلين عن العمل، وسكان الريف والمخيَّمات.

ويقوم المركزُ بتحقيق أهدافه من خلال التَّركيز على موضوعات التطوير المؤسسي، وتنمية الموارد البشرية؛ لكي تتمكن الأجيالُ المستقبليَّة القادمة من تنفيذ برامج تنموية، تستجيب لاحتياجات وأولويَّات المجتمع المحلي؛ اعتمادًا على الجهود الفرديَّة، وجهود اللجان المحليَّة، في القُرى والمخيَّمات والمؤسسات والمجموعات المحلية، ليس على مُستوى التنفيذ فقط، بل على مستوى التخطيط والتقييم للبرامج التنمويَّة أيضًا.

أمَّا مواردُ المركز، فتتمثل في مُحاولة الاستفادة من المصادر التنموية المتاحة لصالح جميع فئات المجتمع المحلي؛ لذا فقد تبنَّى المركز إستراتيجيَّة تنموية شاملة؛ من أجلِ تنفيذ هذه الرُّؤية التنموية عن طريق مُحاولة التأثير في القوانين والتَّشريعات، والإجراءات والسياسات العامَّة لصُنَّاع القرار، مع توعية المجتمع الفلسطيني بالموضوعات والقضايا ذات الصِّلة بالتنمية البشرية المستديمة، وآليَّات بناء مُجتمع مدني حيوي وفعَّال، مع تقوية وتمكين قُدرات المؤسسات الفلسطينية الرَّسمية والأهلية؛ سعيًا لتقديم خدمات اقتصاديَّة واجتماعيَّة مُلائمة لاحتياجات وأولويَّات المجتمع المحلي.

لذا كان اهتمامُ المركز بتعزيز التشبيك والتنسيق، والتعاوُن والتشاوُر بين المُؤسسات الأهليَّة الفلسطينيَّة من جهة، وبينها وبين مُكوِّنات المجتمع المدني من جهة أخرى، والذي تبلور في مُشاركة المركز في تأسيس شبكة المنظمات الأهليَّة الفلسطينيَّة، وشبكة المنظمات العربيَّة غير الحكوميَّة للتنمية.

ركن الجوار:
والتجربة التي بين أيدينا تُقدِّم أحدَ المشروعات العمليَّة، التي نفَّذها المركزُ في سبيل تحقيق غاياتِه وأهدافه، وهذه التَّجربة هي فِكْرة المركز المجتمعي، أو ما اصطلح على تسميته رُكنَ الجوار (Neighborhood Corner)، والفكرة ببساطة ترتكز على مبدأ: أنَّك إذا وفرت للناس مكانًا يجتمعون به، فسيبدؤون بتبادُل الأفكار، والتخطيط لأنشطة تُناسب احتياجاتِهم.

ولتنفيذ هذه الفكرة؛ قام مركز "بيسان" بإنشاء أكثر من 45 ركنَ جوارٍ في مُختلف أنحاء الضفة الغربية، منذ عام 1992، ويهدف مشروع ركن الجوار إلى المساهمة في بناء مُؤسسات مدنيَّة فلسطينية فاعلة، من خلال تعزيز قُدرة المُؤسسات العاملة في المخيمات الفلسطينية لتطوير أدائها وقُدرتها على الاستجابة لمختلف الاحتياجات.

ويتضمن مشروع ركنِ الجوار القيام بتنفيذ الأنشطة التالية:
- تجهيز البنيَة التحتيَّة للمراكز المجتمعيَّة، بما يشمل البناءَ والتَّرميم وإنشاء مكتبات وشراء أجهزة.
- توعية وتثقيف الفتاة الشَّابة، من خلال تنفيذ سلسلة من ورشِ العمل، حول موضوع الصِّحَّة الإنجابيَّة، مع دورات في اللياقة البدنيَّة.
- ورش عمل ترفيهية للأطفال.
- التشبيك عن طريق (الكمبيوتر)؛ حيثُ تَمَّ إنشاء ثلاثة مراكز (كمبيوتر، وإنترنت) في المؤسسات المحليَّة التابعة للمشروع.
- برنامج البناء المؤسسي الذي يشمل عددًا من النَّشاطات التدريبيَّة والاستشارية، بهدف تطوير الأنظمة المستخدمة في المراكز.

ومن ضمن المُؤسسات التي استضافت برنامجَ ركنِ الجوار، واستفادت من المشروع: مركز البرامج النسويَّة بمخيَّم عين بيت الماء، وبمخيم طولكرم، ونور الشمس، وجنين، والفارعة، ومركز شباب عسكر الاجتماعي.

القيادة من خلال الفن:
ومن داخل برنامج رُكنِ الجوار تَمَّ تنفيذ برنامج "القيادة الشابة"؛ أملاً في تحقيق أكثرَ من هدف من الأهداف الجُزئيَّة الخاصَّة بالمشروع؛ مثل: تعزيز مشاركة الشَّباب المجتمعيَّة، وزيادة قُدرة المجتمعات المحليَّة على التنظيم وحَلِّ المشكلات.

ويستهدف برنامج القيادات الشَّابة الشبابَ من الفئة العمرية 14- 25 سنة، من كلا الجنسين، وبالفعل تَمَّ تنفيذُ أكثرَ من 1500 ساعة تدريبيَّة؛ حيثُ تَمَّ اختيارُ المشاركين في التدريب من طلاب المدارس، بالتنسيق مع مُديري المدارس والهيئات الإداريَّة، والمراكز المحلية والأشخاص المؤثرين في المجتمع، وبالتنسيق مع الجامعات، ومراكز الطلبة، وأيضًا من خلال الزيارات المنزليَّة وشرح الفكرة للأهالي.

والوسيلة المستخدمة في تنفيذ البرنامج ما يسمَّى: "الفن التَّعبيري"، وهو فكرة جديدة نفَّذها مشروعُ "ركنِ الجوار" بكفاءة، وكان اختيارُ هذا الشَّكل بالذَّات، وهو التعبيرُ بالفنون؛ لما تقوم به الفنون كأداةِ تفريغٍ للطاقة النفسيَّة لدى الإنسان، وتطوير إحساسه وتذوُّقه الفني؛ لأنَّها تُمثل التعبير الحُرَّ عن الأفكار والمشاعر والأحاسيس؛ مِمَّا يعمق التواصل الوجداني بين المشاركين، ويُمهِّد السبيل لزيادة حجم ودرجة التعرُّف للذات والآخر.

إذ إنَّ القدراتِ الإبداعيَّةَ غالبًا ما تظهر بالتعاوُن مع باقي الأفراد، فالفنون التعبيريَّة تعزز وتُنمِّي القدرات والمؤثرات والاتجاهات الايجابيَّة؛ مثل: الثِّقة بالنَّفس؛ لاستمداد القُوَّة والدعم من أكثر من شخص داخل المجموعة، كما أنَّ تنمية القُدرة على التعاوُن والعمل المشترك يُنمي مَهارات تشكيل وتنظيم المجموعات، وزيادة القُدرة على قيادتها، كما يمنح الفَن التعبيري المشارك الدِّقَّةَ في التعبير عن النفس، والقُدرة على المرونة والعفويَّة بما يكسر الرُّوتين والجمود، وهذا ما كانت تفعله الألعاب الشَّعبية في التُّراث العربي سابقًا.

التعبير التبادلي:
لذا كان تركيز المشروع على أسلوب التَّعبير التبادُلي لتدريب القيادات الشابة، وهو الأسلوب الأكثر نجاحًا مع المجموعات، ويلعب المدرِّب الدَّورَ الفاعلَ في عمليَّة التدريب بدفع المشاركين إلى تحمُّل المسؤوليَّة، من خلال التعبير عن الذَّات مُباشرة؛ حيثُ يتم التدريب في ثلاثة مَحاور أساسية:
بناء المجموعة، التعرف على الذات، مهارات القيادة.

والهدف أنَّه كُلَّما كانت المجموعة مُتماسكة، استطاعت أنْ تحتضن كلَّ التناقضات والاختلافات، فتصبح قضايا الأفراد قضية مُشتركة للمجموعة، كما أنَّ التعرُّف على الذات يفجر الطاقات والقُوى الكامنة في النَّفس والعمل على الاستفادة منها، وصولاً إلى الغاية النهائيَّة بمهارات القيادة للتعرُّف على القائد التنموي وصفاته ومُتطلباته.

ويتمُّ التدريب على هذه المحاور من خلال مجموعة من الأنشطة والفنون التعبيريَّة المبتكرة؛ مثل: الألعاب، والرسم، والتشكيل بالصلصال، والمجسمات، والتمثيل، والاستكتشات المسرحيَّة، وجلسات الاسترخاء، والتمرينات الرِّياضية، والرَّحلات، من خلال برنامج تدريبي مُتكامل جيِّد التخطيط والإعداد، حيثُ يُوضع لكل نشاط هدفٌ ومجموعة من الوسائل، مع تقييم كل نشاط في نهايته.

ومن بين هذه الأنشطة - على سبيل المثال - للتَّدريب على بناء المجموعات، يتمُّ الاعتماد على التعارُف الحُرِّ والتَّعارُف المنظم، كما يتم استخدامُ لعبة الأمثال الشَّعبية، حيث تكتب مجموعة من الأمثال في أوراق، وتُقصُّ كلُّ ورقة جُزأين، ويتمُّ توزيعُ الأوراق على المشاركين، بحيث يبحث كلُّ مُشارك عن النِّصف الثاني من المثل، ويتَّفق مع المشارك الآخر على شرح لهذا المثل، وأيضًا يترك للمشاركين تبادُل رسائل مع بعضهم البعض، إضافةً إلى مجموعة من الأنشطة الأخرى، وعلى الجانب الثاني الخاص بالتعرُّف على الذات يتمُّ التدريب على كافَّة أشكال الفنون بشكل عفوي؛ للتعرُّف على مهارات كلِّ شخص، سواء في الرسم أو التجسيم، أو الشعر أو القصص أو التمثيل.

ولتطوير مهارات القيادة يَتِمُّ إعداد ورش عمل؛ مثل: ماذا تفعل لو كنت قائدًا لمؤسسة تنمويَّة؟ اكتب خطتك وأهدافك ومُقترحاتك، كوِّن فريقَ العمل، اكتب تقريرًا إعلاميًّا عن دور مؤسستك التنموي في المجتمع، تخيَّل نفسك في مُقابلة تليفزيونيَّة تتحدث فيها عن إنجازات مُؤسستك.

وفي نهاية التدريب يتم الزيارة الميدانيَّة لبعض المؤسسات التنموية والمراكز المجتمعية؛ للتعرُّف على طرق إدارة هذه المؤسسات والمراكز، مع إسناد المسؤوليَّة للمشاركين في إدارة الزِّيارة، وإعداد الأسئلة للحوار مع مسؤولي هذه المراكز والمؤسسات، وبعد انتهاء الزِّيارات الميدانيَّة يتم تقييمُ كلِّ زيارة على حِدَة.

وقد استطاعَ بالفعل أغلبُ المشاركين في هذه البرامج الوصولَ للمهارات المطلوبة لإدارة المؤسسات التنموية بكفاءة؛ مما شجَّع مركز بيسان على العمل على زيادة المراكز المجتمعيَّة المسماة "ركن الجوار"، في مناطق عديدة في فلسطين؛ كالضفة الغربية وبيت لحم.

المصادر:
"الدليل التدريبي للقيادات الشابة باستخدام الفن التعبيري"، مركز بيسان للبحوث والإنماء.
رابط النشر في الألوكة
ركن الجوار: الفن التعبيري في خدمة التنمية

لا تنس تسجيل إعجابك بصفحة غراس على الفيس بوك

غراس للتنمية المستدامة

ghiras

Amal Khairy researcher

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 649 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

127,340