أصبح من نافلة القول ما للإسلام منتأثير في إغناء اللغة العربية وتطويرها في المجالات كافة ، ومن ذلك الكتابة والنسخ، فقد كانت الكتابةإحدى الوسائل المهمة في نشر العلوم الإسلامية ، فبها تم تدوينالقرآن والسنة النبوية المشرفة ، وما نتج عنه منها من علوم ومعارف، وقدتطورت حرفة الكتابة والخط على مر التاريخ الإسلامي ، حتى برز أعلام نجباء في هذاالمجال ، من أمثال وابن مقلة ( ت : 328هـ ) و ابن البواب ( ت : 423 ) . وكان منهمأحد الأعلام المتأخرين في الخط ، والذي أُطلق عليه لقب كاتب الحرم النبوي الشريف ،ولقب خطاط مصر،ألا وهو الخطاط زهدي أفندي.
من هو هذا الخطاط البارع؟
هو عبد الله زهدي أفندي ابن عبد القادر أفندي النابلسي ، ويتصل نسبهبالصحابي الجليل تميم بن أوس الداري ( ت : 40 هـ ) ، ولذلك نجده يكتب أحياناً"من سلالة تميم الداري".
ويرجع أصل عبد الله زهدي أفندي إلى مدينة نابلسبفلسطين ، وقد هاجر منها أجداده إلى ا لشام ، ومن المرجح أن يكون قد ولد فيها ،وبعد ذلك هاجر مع والده سنة ( 1251 هـ / 1835 م ) إلى مدينة كُوتاهية التركية ، وهيمن المدن القديمة التي استوطنها العثمانيون في بداية تأسيس دولتهم . وفي العام نفسهرحل إلى مدينة إستانبول عاصمة دولة الخلافة العثمانية.
وقيل إنه ولد بالأستانة ونشأ فيها ، ولا يوجد دليل على ذلك . وهذاالقول يخالف ما ذكر أنه هاجر من الشام إلى تركيا مع أبيه ، لا أنه ولد بها ،ووتوجد عائلة التميمي في مدينة نابلسالفلسطينية وهي من أكبر العوائل ، ويشاركها في الاسم نفسه عائلة التميمي في مدينة الخليل في فلسطينأيضاً ، وأصل هاتين العائلتين واحد ، حيث يتصل نسبهما بالصحابي تميم الداري رضيالله عنه ، الذي أقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم مدينة الخليل.
والمصادر التي كتبت عنه - وهي قليلة - بتحديد سنة مولده ، وإن كان يمكن أن يستخلص بأن مولده كان قبل سنة 1251 هـ وهي تلك السنة التي هاجر فيها والده من الشام إلىتركيا.
مشواره مع الخط :
أما بدايته مع فن الخط ، فكانت بتشجيع منوالده عبد القادر أفندي ، ثم تتلمذ لكبار الخطاطين في عصره ، من أمثال راشد أفنديحارس ضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري ، الذي استشهد عند أسوار القسطنطينية، وكذلكقاضي العسكر ، الخطاط مصطفى عزت أفندي ، حيث تعلم منه خطي الثلث والنسخ،ولما حذق هذا الفن عين مدرساً للرسم والخط في مدرسة جامعة نور عثمانيةوالمهندسخانة البرية الملكية ( مهندسخانة برئ همايون).
وكانت بداية شهرتهعندما أراد السلطان العثماني عبد المجيد ( ت : 1255 هـ / 1839 م ) إعادة تعميرالمسجد النبوي الشريف وتوسعته بعد انهيار إحدى القباب فيه ، فطلب السلطان منالخطاطين الموجودين في تركيا تقديم نماذج من أفضل ما لديهم من خطوط ، ليتم اختيارالأفضل منهم وإسناد شرف الكتابة على جدران المسجد النبوي إليه، وشارك في هذهالمسابقة كبار الخطاطين الأتراك ، وكان من بينهم ذلك الشاب زهدي أفندي ، الذي لميكن مشهوراً قبل ذلك وقد أشرف على عملية اختيار الخطوط المناسبة السلطان عبدالمجيد نفسه ، إذ كان خطاطًا ماهراً ، درس فن الخط على كبار خطاطي عصره ، من أمثالطاهر أفندي ، وكان عبد المجيد يجيد الكتابة بخط الثلث ، ويعمل على تشجيع الخطاطينورعايتهم ؛ وكذلك كان والده السلطان محمود بن السلطان عبد الحميد ( ت : 1277هـ/1861م ) خطاطاً ماهراً ، وعند قيام السلطات بإلقاء نظرة فاحصة على اللوحات الخطيةالمعروضة ، استوقفه ما كتبه الخطاط عبد الله زهدي أفندي ، وكان حاضراً ، فقال له : أنت الذي كتبت هذا يا بني ؟ قال : نعم . فدعا له السلطان بالتوفيق والنجاح ، وأمربتخصيص معاش له مدى حياته قدره 7500 قرش ، ثم أمره بالتوجه إلى المدينة المنورةلكتابة خطوط المسجد النبوي الشريف.
اعتراضات كبار الخطاطين:
لكناختيار السلطان عبد المجيد لهذا الشاب للقيام بهذه المهمة الجليلة لم يرق لغيره منكبار الخطاطين في عصره ، ومنهم الخطاط الشيخ عبد الفتاح أفندي ، الذي كان يكبر زهديأفندي بعشرات السنوات ، فأبدى تذمره واعتراضه قائلاً : كيف يعين ولدًا صغيرًا مثلهذا للقيام بهذا العمل الجليل وأنا لا أزال على قيد الحياة ؟ ‍ إلا أن السلطان عبدالمجيد لم يأبه لهذه الاعتراضات ، وفعلاً توجه زهدي أفندي إلى المدينة المنورة ،للعمل في المسجد النبوي الشريف ، ومعه قرار التعيين من قبل السلطان ، والمتضمنالصلاحيات الممنوحة له في هذا الشأن.
وبدأ العمل في إعادة ترميم المسجدالنبوي الشريف وتوسعته ، وكانت الخطة الحكيمة أن يكون الترميم والبناء بالتدرج ،حيث يكون العمل في واحدة من جهات الحرم حتى لا يتعطل الناس عن أداء الصلاة في هذاالمسجد المبارك ، وكلما انتهى البناء في جهة ، انتقل العمل إلى جهة أخرى ، وهكذاحتى تم الترميم واكتملت التوسعة ، وكانت تلك التوسعة هي الأكبر من نوعها منذ إنشاءالمسجد النبوي الشريف حتى ذلك التاريخ ، وحيث بلغت مساحتها ( أي توسعة السلطان عبدالمجيد ) 9132 متراً مربعاً.
وبعد إتمام علمية البناء انتقل العملإلى الخطاطين والمزينين - وعلى رأسهم عبد الله زهدي أفندي - لكتابة الخطوط علىجدران المسجد ، بناءً على التكليف الذي كُلف به من قِبل السلطان عبد المجيد كماأسبق توضيحه،وظل عبد الله زهدي أفندي يمارس عمله في المدينة المنورة عدة سنواتحتى أنجز العمل على أحسن وجه وأكمله ، فكتب مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديثالنبوية الشريفة والأشعار التي قيلت في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقدساعده في ذلك مجموعة من المهندسين والفنانين، مثل الخطاط جُومر زاده محسن أفندي (ت 1304 هـ ) ، والمذهّب الحاج حسين أفندي وتلميذه الحاج أحمد أفندي . بل يقال : إنالسلطان عبد المجيد أرسل فرقة أناشيد إلى المدينة المنورة لإنشاد التواشيح الدينيةوالمدائح النبوية ، وذلك من أجل الترويح عن عبد الله زهدي ومن معه ، ولشحذ هممهموتشجيعهم على إتقان العمل وإتمامه على أكمل وجه وأفضل صورة.
وخلال عمل عبدالله زهدي أفندي وصله نبأ وفاة السلطان عبد المجيد ، وجاءه الأمر بعد ذلك مناستانبول بالتوقف هو ومن معه عن العمل في ترميم المسجد النبوي وتزيينه بالخطوط.
إخفاق:
وقد ساء هذا القرار المفاجئ عبد الله زهدي أفنديوالمسئولين عن تعمير المسجد النبوي الشريف ، فطلب المشرف العام على عملية التوسعةوالتعمير عرياني زاده أسد أفندي من زهدي أفندي التوجه إلى استانبول لإقناعالمسئولين هناك بالعدول عن قرارهم ، والاستمرار في عملية التعمير ، وفعلاً سافرزهدي أفندي إلى هناك ، ولكن مهمته باءت بالإخفاق ، بل إن الأمر تعدى ذلك حيث أبلغبانقطاع معاشه الذي كان قرره له السلطان عبد المجيد طول حياته، وبعد إخفاقعبد الله زهدي أفندي في مهمته ، عاد إلى المدينة المنورة لجمع المال من أهل الخيرلاستكمال ما تبقى من عملية التعمير ، حيث أكمل هذا الأمر على أحسن وجه ، وذلك سنة 1277 هـ ، فتكون إعادة تعمير المسجد النبوي قد استغرقت اثني عشر عاماً ، وقد بلغتنفقات هذه العمارة ثلاثة أرباع مليون من الجنيهات المجيدية،وإن الخطوط التيكتبها عبد الله زهدي أفندي ، والتي ما زال أكثرها باقياً إلى الآن في المسجد النبويالشريف ، ولتشهد بروعة هذا الفنان الملهم وعبقريته ، وقد ورد في كتاب فن الخط أنها " من حيث طولها تبرز لنا أن عبد الله زهدي هو صاحب أكبر قدر من كتابات خط الثلثالجلي ، بحيث لا يتعداه خطاط آخر في الدنيا ؛ إذ يزيد طول الشريط الكتابي الذي كتبهبالثلث الجلي عن 2000 متر ، منها 240 متراً على شكل ثلاثة أسطر فوق جدار القبلة ،و140متراً على رقبة القبة.
ويصف الخطاط محمد طاهر الكردي خطوط عبد اللهزهدي التي كتبها داخل المسجد النبوي الشريف بقوله : ( وقد وقفنا بأنفسنا على ماكتبه في الحرم المدني حينما زرنا المدينة سنة 1357هـ ، فقد كتب - رحمه الله تعالى - على الجدار القبلي من أوله إلى آخره على يمين الداخل من باب السلام أربعة أسطر ،كلها آيات قرآنية ما عدا السطر الأخير ، فهو أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ،والكتابة بالبوهية ( الدهان ) وغير بارزة ، أي غير محفورة ، أما الأسطر الثلاثةالفوقانية على المرمر ومضروبة باللون الأحمر ، وعرض قلمه نحو سنتمتر واحد ، وقد كتباسمه في آخر ما تنتهي الكتابة في الجدار القبلي ، وقد كتب على باب السلام من الخارجأربعة أسطر أيضاً ، ففي السطر الأول والثاني آيات قرآنية ، وفي السطر الثالث أبياتشعرية وفي الرابع أسماء سلاطين آل عثمان ، والحقيقة أن خط المذكور آية في الجملوحسن الذوق رحمه الله وحسّن مثواه.
وقد لخص هذا القول بلال عبد الوهابالرفاعي ؛ حيث قال في كتابه الخط العرب تاريخه وحاضره ص 133 : " عبدالله زهديأفندي كاتب الحرم النبوي الشريف ، والذي يعد بحق قمة في الفن والإبداع كما تشهدآثاره ".



آيات من القرآن الكريم وأسمائه صلى الله عليه وسلم
على الجدار القبلي داخل الحرم النبوي الشريف
وبعد أن أتم عبد الله زهدي أفندي عمله في المسجد النبوي الشريفعاد مرة ثانية إلى استانبول لاسترداد معاشه الذي قرر له ، ولكنه أخفق في مهمته تلك، وبعد ذلك توجه إلى مصر ، وكان صيته قد سبقه إلى تلك الديار ، فاستقبله حاكم مصرالخديوي إسماعيل ، وأطلق عليه لقب خطاط مصر ، وذلك سنة 1283 هـ ، وأوكل إليه مهمةكتابة خطوط المساجد والمدارس ودوائر الدولة ، وكذلك خطوط الأوراق النقدية المصرية، ثم كلفته الحكومة المصرية كتابة الآيات القرآنية وغير ذلك على كسوةالكعبة المشرفة ، فأبدع فيها أيما إبداع . حيث أن كسوة الكعبة كانت تصنعفي مصر في ذلك الوقت . ومما أوكل إليه أيضاً : كتابة الخط على سبيل أم عباسبالصليبية بالقاهرة ، وكذلك جامع الرفاعي . كما كان يدرس فن الخط العربي في المدرسةالخديوية والمدارس في تلك الديار عامة ، وقد تخرج على يديه الكثير من كبار الخطاطينفي مصر . وانفرد أحد المصادر التي ترجمت له - وهو كتاب قاموس الأعلام 4/ 3108 - بخبر عنه ، حيث ذكر أنه كتب بعض الخطوط في الحرم المكي الشريف ، ولا تأكيد على صحة ذلك,وإن ثبت ، فهل كان ذلك قبل عمله في كتابة المسجد النبوي الشريف ، أو بعد الفراغ منذلك ، أو أثناء العمل في إحدى زياراته لمكة المكرمة لأداء الحج أو العمرة ، أو أنما قام به من كتابة الآيات القرآنية على كسوة الكعبة وهو في مصر بناء على تكليفالحكومة المصرية كما ذكر؟
أضافة إلى ذلك أن عبد الله زهدي أفندي كان يتكسب بمهنة الخط ، حيثكتب نسخة من المصحف الشريف لأحد الوجهاء واسمه حسين باشا ، وذلك مقابل ثلاثين ألفقرش تركي ويقال : إنه لم يكتب مصحفاً غيره . إلا أنه كتب أكثر من نسخة منسورة الأنعام ومعها بعض سور القرآن والأدعية الشريفة ، وقصيدة البردة للبوصيري ،وقد طبعت إحدى هذه النسخ في المطابع العثمانية . وبعد حياة حافلة بالعطاء توفى خطاطالمسجد النبوي الشريف سنة 1296 هـ ( 1878م ).
ودفن بالقرب من ضريح الإمام الشافعيرحمه الله .

مات زهدي :

وقد رثاه أحد الشعراء مؤرخاً لوفاته علىطريقة حساب الجُمل بقوله :

مات رب الخطّ والأقلام قد نكست أعلامهاحزناً عليــــــــهوانثنت من حسرة قاماتها بعد أن كانت تباهي فييديـــــــه
ولهذا قلت في تأريخه مات زهدي رحمة اللهعليــــــه وعبارة "مات زهدي " تعني الرقم 1296 على طريقة حساب الجمل.
وهذا هو التاريخ المذكور في الكتب التي ترجمت لعبد الله زهدي ، ومنها كتابتراجم الخطاطين الأتراك ، إلا أنه ذكر في هذا الكتاب أنه وُجد في السجلات العثمانية 2/ 420 أن زهدي أفندي توفي في 15 صفر سنة 1268 هـ ، وكما ورد في كتاب قاموس الأعلاممن تأليف ش . سامي 4/ 3108 أن وفاته كانت سنة 1293هـ ، ولا ريب أن هذين التاريخينفيهما مجانبة للصواب ، بناء على المعطيات التي تقدم ذكرها في هذه المقالة

المصدر: المصدر من منتديات السبورة
  • Currently 251/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
82 تصويتات / 2957 مشاهدة
نشرت فى 18 يناير 2010 بواسطة gamalelkhatelarabie

ساحة النقاش

frarre
<p>الموضوع شيق ولكن يحتاج الى تنسيقات</p>

Rehab Abdulluh

gamalelkhatelarabie
رحاب عبدالله »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

812,954