فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

نصوص من مزاج الحرب الشرسة

أليس كلّ هذا الوهم لي؟

فراس حج محمد| فلسطين

-1-

- لماذا أنا قلق الآن؟ أليس كل شيء على ما يرام؟

- المعدة خاوية لم يتعبها طعام لتهضمه، والأفكار غير فعالة، والمطر يسح ماؤه لم تصبني برودته، والعتمة حولي هادئة تماماً.

- نم يا أنا نم! لم يعد شيء يقلقك…

- ربما هو الجوع فقط.

- لا تقلق يا أنا سأكون بخير مطلق، ما دمت مطلق الحرية في هذا العالم.

- ما أسهلَ أن تفهمَ أنكَ مجهول، متروك، مهزوم، مرذول، معدوم، مشلول، مخذول!

- لكن ما أصعب أن تتهيأ لتكون أنتْ!

-2-

حزنت كثيراً عليّ، وتحسرت جدا على ما كان لي، وآلامني الوضع فيّ، أصبحتُ متشائماً جدا من الحالة الملتبسة، ردتي السياسية عنيفة تجاه كل ما يحدث، أفضل قرار اتخذته اعتزال الانخراط في المشهد الحزبي الذي كان يفتتني أحيانا، وأحيانا يكبلني، نجحت في استعادة نفسي من ذلك كله لأكون حرا كما ينبغي.

ولكن، هل أصبحت حرا كما أريد؟ دخلتُ في قيود أخرى أشد إيلاما، سُجِنت من جديد في أوهامي، واصطنعت معاركي، تشرذمت من جديد بين أشياء ومعان سرابية، أركض وراء الظلال وأصطدم بظلي، فأقع، أحاول النهوض، فلا أجد رغبة في ذلك، فقدت القدرة على السير، تحسست أعضائي عضواً فعضوا، لم أجد قدميّ، ورأيتني سابحا في الفراغ...

-3-

الحرب تأكلُ أصدقائي واحدا واحدا، وتلتهم ما تبقى من كلامهم، تصعد على جثثهم المحنطة، تضحك بهستيرية واضحة، تصمتُ برهة ثم تنفجر باكية بصوت هدّه تراكم الكلمات الفاغرة فاها لمصيدة قادمة! أتابع المشهد من بعيد، كأنه لا يعنيني، أنتظر لحظة سقوط الضوء الأحمر من قلب الفضاء لأثبت نظريتي المتشائمة، أكتبُ عني كثيرا، لأغسل ذاكرتي الملبدة بالحنين الكثيف.

أتجنبُ حضوري على سفح الجثث المثلجة. لم أعد أخاف انبعاج ذاكرتي بها. أستلقي هنا حيث تركتني آخر موعد بائس. لا أريد أن تستدرجني الذاكرة الخاسرة. أهرب نحو اللاشيء لعلني أسمع وقع خطوتي اللاهثة. "ما زلت متدربا" أيقنت أنني بطيء التعلم، وأنسى التدريبات كلما أغلقت الوقت على ما تبقى من صوتها المدجج بالغبار، أعود من جديد لاختبار قدرتي على تحمل الصيغة الأخيرة من العلاقة المعقدة.

أصبحت مضطرا لأكون كما تريدني، لأن شيئا من ذلك الإرث القديم لم يعد موجودا سوى في جثث الكتب المركونة على رف مكتبتها ومكتبتي. صرت أتجنب أن أفكر فيما بعد الخطوة الآنية. أجبرتني على الهلوسة المقنعة والسهر وحيدا أعالج أفكارا لن ترحل بسهولة.

-4-

لن يكذب العرّاف هذه المرة، وسيكون الحلم الأخير صادقا، حقيقيا، حادّا كحافة الشفة اليابسة، سينبت الظل الأسود وينتشر كغمامة محملة بعناقيد أرواح حارة متدلية بأطراف الذنَب القصير، وستتأرجح حرة في تلك المسافة بين أول نقطة في اللامرئي وصولا إلى التلاشي في السديم، سنضيع كما ضاع النص الأخير للعراف المشاكس الذي راود الأقدار عن مسالكها، لن نجد حبلا نتشبث فيه، ستموت الفكرة التي انحنت كلماتها ويبست عروقها وجفت سواقيها، وسيكون الخروج النهائي إلى تيه بلا حد.

سنضيع، ولن تتعرف علينا أشباحنا، وستتنكر لنا الصورُ والذكريات والأحزان، وستنتصب في قلب اللهب تشوينا معها، وستكتب الهزيمة سطرها الأخير بجملة ستكون شاذة تستوقف العابرين لدقيقتين ونصف، ولكنها ستصلبنا في بؤرتها عمرا كاملا من هباء يتنامى مع أقداح الساهرين، فتهوي على ظلنا المتكسر على طاولة قديمة جلسنا إليها يوما.

لن نذهب إلى أي مكان بعد الآن، فالأمكنة ضائعة هي الأخرى، وستنكر ضحكتك الخجولة وقامتي النحيلة، سيلفظ النص آلامنا أيضا من مؤخرات الكتب وتصبح عفنة، ولن نجد لها ناقدا محترفا ليقول إننا قد انتهينا كرماد مبلول بعرق اللهاث الطويل.

صعب عليّ أن أعترف أن الحرب قد هزمتنا! فهل هزمتنا أم ما زال فينا بقية من مقاومة؟ أنتظر مع المنتظرين جنة زاهية أو قبرا مفتوحاً... لا زلت مؤمنا بمعجزة تأتينا من غامض علم الله، رغم المجهول الذي يأكل بنهم منسأتي، لكنني أرفض أن يشرب التراب رائحة جسدي اليابس!

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 150 مشاهدة
نشرت فى 9 يناير 2025 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

769,116

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.