المثقف بين الذاتي والموضوعي وبين الفكر والسلوك
فادي كحلوس
الحوار المتمدن - العدد: 1896 - 2007 / 4 / 25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
أثبت التاريخ الدور الطليعي للثقافة والمثقفين في تحريك سواكن المجتمع وثوابت الأفكار والقيم كما أكد دورهم في مواكبة التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية العالمية أو التبشير بها , مما أنتج مزيداً من التطور والتقدم . إن هذا الدور يعمل وفي الصميم على تأطير الوعي ,والدفع به نحو إدراك التحولات الفكرية الحافزة على التغيير ومقاومتها لأشكال العطالة وأساليب اجترار الماضي , ونحن هنا أمام تحدٍ كبير يتمثل في خلق نموذج فكري للتحديث ومواكبة التغيّرات في كافة الأطر والمفاهيم الثقافية وطرق التعامل معها لحظياً ,وإن التطلع إلى المساهمة الحضارية في هذا العالم لن يتم إلا بخروج هذه الثقافة التي نملك من عزلتها وجمودها، وأن يتم ذلك في إطار الوعي بحقيقة المرحلة التي تمرّ بها المنطقة وهذا يتطلب التوقف مليّاً عند أشكال التفاعل مع أشكال الثقافات العالمية ومتغيراتها الفاعلة وخصوصاً في المجالات الفكرية, ولا سيّما الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، وأن تع ِ تكتلات المجتمع من مثقفين و أحزاب وما ينضوي عليهم من تيارات دينية و ماركسية وقومية لهذه الأشكال والمتغيرات .
إنّ هذه الدروب في المساهمة قد طُرقت ,لكن الخلاص بقي مستعصياً والدّاء متأصّلاً بسبب الثوابت التي تنطلق أفكارنا ورؤانا من خلالها ،مما جعلنا نتوه عن السبب المباشر المؤدي إلى واقع التخلف ،والضياع في ثنائيات وازدواجيات لا متناهية ( تراث – حداثة ) , ( أصالة – معاصرة ) , ( الهوية – الآخر ) إلخ، مبتعدين بذلك عن إشكالية الثنائيات التي من شأنها تقييم ما يقع من تناقض بين ( فكر – سلوك ) وبين( ذاتي- موضوعي ) لذا , فإن الجهد المطلوب للخروج من هذا التيه حسب اعتقادي هو ذاك الجهد الذي تقوم به الذات على ذاتها والخروج عن خط السهولة في المواجهة في سبيل التعامل مع اللحظة والانتماء إليها قلباً وقالباً، فجميع الهزائم التي حلّت بنا في تاريخنا الحديث (وعد بلفور- النكسة- وهكذا وصولاً إلى الاستبداد السياسي) جاءت نتيجة بقائنا نيام على النار التي حدثت في ديارنا حتى لحظة انفجار البركان في وجوهنا ثم أقرّ التعامل مع هذه الهزائم على ضوء النتائج وليس على ضوء الأسباب, فنتج عن هذه الآلية آليات أُخرى لا تقل سوءً عنها كالسلفية المحكومة بالماضوية أو ( الحداثيون ) كنموذج تقليدي أعمى للغرب ,وقد أتضح
أن هذا النهج بوسائله وآلياته التقليدية لم يتعدّى إشكالية وضع العربة أمام الحصان، بل جاء كتعبير واضح عن حالة البحث عن ملجأ بدلاً من الوقوف على نواة ذاك النهج الموروث والسائد ومحاكاته عقلانياً ,وهذا ما يحدد دور المثقف في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حالة الانهيار الثقافي الموجودة، وصولاً إلى تفادي ما سيدفع كثمن باهظ ضريبة لثقافتنا السائدة ,والتحول بتعاملنا مع الإشكاليات المطروحة بمواقف أكثر جدّية عن طريق نفي التعامل بطريقة الأحكام البسيطة والكسولة بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال والتعامي عن واقع الحال و التاريخ ,وإن ما ذكر هو الكفيل وفي مختلف الظروف والمتغيرات العالمية بإيجاد طرق وأفق أُخرى لحل الإشكالية التي نحن بصددها .
من هو المثقف : ليس من السهل أو اليسير إيجاد تعريف جامع مانع لكلمة مثقف , لما تعتريها من دلائل فضفاضة ومعانٍ واسعة , فكلمة مثقف تطلق عادة على المتعلم والفنان والروائي والمترجم.... وحتى على الشعراء , أي على كل من ليس ذو مهنة تقليدية ,كأن نقول : نجار ,تاجر , حداد .....الخ . أما أكاديمياً فالمثقف بالتعريف هو : الشخص الذي يكرّس كل وقته للمهنة (1)(مهنة الثقافة), وبهذا المعنى فهو: الإنسان الذي يعمل ليؤثر حداثياً في مجرى الأمور .
وعندما نحاول إسقاط ذلك المعنى على طبقة المثقفين الموجودة في ساحة العمل والفعل في مجتمعنا فإننا سنجد كثيراً من التفاوت بين ذاك المعنى وبين الواقع , وإن هذا التفاوت والتناقض الحاصل يأتي نتيجة غياب عدة آليات وركائز في ذات المثقف نفسه, والتي تتمحور حول مفاهيم سهلة وممتنعة في آن واحد , كالمصداقية ووضوح الهدف وامتلاك أدواته, بالإضافة إلى إعفاء الذاتي من النقض والتحليل, إلى ما هنالك من معوقات ذاتية تؤدي إلى شلل أو فشل أو حتى العقم أحياناً في جميع ما يطرح من مشاريع حداثية نهضوية .
يأتي التركيز على الجانب الذاتي لوضع المثقف لأنه أساس ديمومة الفعل وجوهر نجاحه وإنتاجيته , فإن لم يختلف الذاتي عند المثقف عمّا يموج في دائرة الثقافة الخارجية (الموضوعي ) فإن فعل التفاعل هنا معدوم أصلاً وهذا ما من شأنه إبطال فعل النهضة وتفريغ المفاهيم الحداثية من أبعادها الاجتماعية وهنا تنقلب تلك المفاهيم إلى وبال على المفاهيم نفسها مما يؤدي إلى إبقاء الركود سائداً والسكون رائداً.
ثمة مفاهيم لا يمكن تجاهلها عند الشروع في إطلاق أي عملية تهدف إلى النهوض أو على الأقل إلى إدخال طفرات حداثية إلى السلسلة الوراثية السكونية التي تتميز بها ثقافتنا السائدة , ومن بين هذه المفاهيم : الديمقراطية , العلمانية , حقوق الإنسان ,المواطنة ,المجتمع المدني ..... الخ، والتي بإمكانها أن تخلخل الركائز المتخلفة للبنية الثقافيّة في مجتمعنا إن لم نقل انتقالها إلى مستوى ثقافة المجتمعات المتمدّنة في هذا العالم, على ألاّ تؤخذ هذه المفاهيم على أنها وصفات سحرية وحلول نهائية للخروج من حالات التأزم والتأخر الذي نعيشه .
فالديمقراطية ضمن هذا الإطار تأتي كمصطلح يقوم وينضوي على معنى ثقافي حياتي معاش , أي أنها ثقافة القبول بالآخر وبالتالي فهي كلمة لاتغني عن الممارسة ولا تهدف أو تقتصر فقط على معنى التوجه إلى صناديق الاقتراع , وتأتي العلمانية "الابن الشرعي للديمقراطية" بمفاهيم تتنافى والتطرف الديني والسياسي وتتمحور حول حرية الفكر ووسائل وآليات انتقائه , وبامتزاج المفهومان السابقان سيكون احترام حقوق الإنسان وتأصيله في المجتمع نتيجة ومكمل في الوقت ذاته , وإننا عندما نسلم بأن المفاهيم الحداثية تأتّت ضمن مصفوفة فكرية واحدة فإن وجودها في المجتمع سيكون أيضاً ضمن المصفوفة ذاتها ومنه، فإنّ الشروح البسيطة التي ُقدمت لتلك المفاهيم المعقدة عليها لكي تثمر ثقافيّاً أن تتأصل أولاً في ذاتية المثقف الذي يحمل عبء نشر ثقافة تلك المفاهيم وتجذيرها في البنية الثقافية لهذا المجتمع، وعندها يصبح أمر القطيعة ما بين المثقف من طرف , والمفاهيم المتضاربة والمتناقضة مع تلك المفاهيم الحداثية من طرف آخر أمر بديهي , على أننا سنقيّم أمر تلك القطيعة سلوكياً لا فكرياً , هذا السلوك الذي يلي تشرب هذه الذات"ذات المثقف " بهذه المفاهيم من أجل قدرته بالتالي على الشروع في مشاريعه النهضوية .
وعلى ضوء ما ذكر سابقاً سنحاول تسليط الضوء على واقع المثقفين في مجتمعنا هذا لنبيّن مواضع التناقض ما بين الفكر والسلوك ،وما يجوبها من أسباب وتبريرات ما بين الذاتي والموضوعي , لنصل إلى تبينة مدى خطورة الدور الذي يلعبه المثقفون والذين لا ينتمون إلى من يكرّس جهده ووقته للمهنة .
بين الفكر والسلوك : إن ماهيّة المثقف هي بمثابة حجر الأساس الذي يرتكز دوره عليه وذلك انطلاقاً من أهميّة امتلاك مخزون معرفي قائم على الموضوعية والعقلانية وخاضع مسبقاً للنقد وللوعي النقدي , وهذه الأهمية المعرفية لها دلالاتها على جوهر المثقف وبالتالي على جوهر دوره بما يحمله من مشاريع ذات أبعاد نهضوية , حداثية تؤثر في مجرى الواقع . ولعل التساؤلات التالية ستلخص ما نعنيه ونصبو إليه :
أليس على المثقف أن يع ِ تاريخياً وكونياً مجاله الحيوي ليستطيع امتلاكه وليكون قادراً على التأثير به ومن خلاله ؟.
كيف لمثقف غيبي التفكير مثالي المرجعية أن يمارس أو يكرس مفهومي الديمقراطية والعلمانية واللذان يمثلان بجوهريهما نسبية الحقيقة ؟.
هل لمثقف عشائري أو طائفي أو قبلي أو مناطقي التفكير والذات أن يمارس أو يكرّس مفهوم الوطن والمواطنة ؟.
ألا يمثّل المثقف "اللفظي " أخطر العقبات وذلك عند السعي لإجراء عملية التغيير الثقافية أو خلخلتها ؟.
هل ما يهمنا حقاً من المثقف هو المخزون المعلوماتي الذي بحوزته ؟.
وأخيراً هل الإجابة عن هذه التساؤلات والتي يرينا إيّاها الواقع تفيد النهوض وتجاوز الثقافة السائدة أم أنها تكرس السائد؟.
من البديهي القول أن المقدمات الخاطئة توصلنا إلى نتائج خاطئة , وهذا هو جوهر الواقع والحال ,وهو ما يؤكد أن ما يجري في الساحة الثقافية ومن منظور الواقع أيضاً ليس محض مصادفة إنما نهج دائم ومستمر أفضى إلى هذا التأزم المخيّم على واقع كل من الثقافة والمثقف , فإن ما تختزنه الذات الثقافية ُيفرز كحالة اجتماعية ومن ثم سياسية وهذا هو المنطق الموضوعي العقلاني للتاريخ, ومنه فإن الأشكال التي تؤطر العلاقات القائمة ما بين النخب هنا ،هي بمثابة انعكاس لذاك المخزون وتعبير صريح عنه , وليس الحديث هنا حصري عن طبيعة العلاقة والتعامل ما بين السلطة والمعارضة والمثقفين,وحالة الإفراز الجدلي فيما بينهم فحسب، بل حتى على طبيعة العلاقة القائمة بين أطياف المعارضة أنفسهم , والمثقفون أنفسهم , والسلطة ذاتها , وعليه فإن السلطة السياسية من هذا الزاوية تقاوم المفاهيم النهضوية والحداثية وإن المثقف(بمن فيهم المعارض) في حاله هذه، يعمل على تشويه تلك المفاهيم وهما بذلك يزيدان من الهوة القائمة ما بين المفهوم في شكله النظري وبين تأصيله واقعياً , إذ أن المخزون الذاتي للمثقف أو المعارض والتناقض القائم بين "فكر- سلوك " يحملنا على الاعتقاد بأن كل منهما بما يحملانه من المخزون الثقافي ذاته، هو ما أفضى بدوره إلى حالة التشوه السوسيولوجي القائم , فعلى سبيل المثال يمنحنا التاريخ دروس وشروحات لحالات ولقوانين الإفراز بسلبياتها وإيجابياتها , فتجربة ألمانيا النازية جاءت دائماً كتعبير عن الإفراز الثقافي, فبروز شخص "هتلر" - بما يمثله - لم يكن من سبيل المصادفة إنما مثّل ما أُفرز من ثقافة ( ثقافة سائدة – مثقفون – أيديولوجيات – ساحة تفاعل .... الخ) لواقع المجتمع الألماني وقتئذٍ , كما يمنحنا التاريخ مثال يؤكد على إيجابيات تجارب أُخرى تمتلك ذاتية حداثية وروح نهضوية وتحتكم لقانون الإفراز نفسه : ما قدّمه مثقفوا الغرب الحداثيين من أفكار وسلوكيات و(أيديولوجيات أدت إلى تحويل" الحرمة" إلى امرأة , انسانة ) (2) وإلى مواطنة ُتعرّف بحقوق وواجبات تتساوى من خلالها مع الرجل الإنسان , المواطن . وقد جاءت هذه الثورة "بالمعنى الايجابي للمفهوم " والتي أثّرت في بنية المجتمع الغربي وقتئذ بعد أشواط طويلة من ثورات قام بها مثقفو تلك الحقبة والتي تصب بنتائجها على الجانب الذاتي "ذات المثقف " و(ثورة كهذه لا تقتضي أقل من اتخاذ الذات موقفاً نقديا من ذاتها وانسلاخاً عن موروثها المتوضّع فيها عبر قرون متواصلة ) (3).
وكثيراً ما ينحو المثقف نحو الإلهاء أو التبرير لتغطية ما يجول في داخله من ارتياب وتشوه وعجز ناجمون عن التناقض الحاصل ما بين فكره وسلوكه من جهة , وعن تشوه وعجز ونكوص في شخصه من جهة أخرى، وإن العجز الأول بالضرورة هو عبارة عن إفراز للعجز الثاني, فمن وجهة نظر علم النفس : أن الفرد في لهاث دائم وراء إيجاد صيغة شخصية تلقى قبولاً من قبل الجماعة , وإن لم يستتب ذلك فسيكون هذا الفرد عبارة عن حالة يشوبها التوتر والاضطراب والضيق النفسي المستمر، وفي سبيل هذا الاستتباب وتحصيلاً لتلك الصيغة فإن أيسرها هو أن يتحول هذا الشخص إلى "مثقف" ,لما يلقاه من ترحيب من قبل الجماعة من جهة ولسهولة أن يطلق عليه لقب مثقف من جهة أخرى، وقد أفرزت هذه الإشكالية العديد من الأنموذجات الثقافية المشوهة والعاجزة أذكر منها:
المثقف اللفظي والذي يُختزل بتكرار جملة هائلة من المصطلحات والمفاهيم الثقافية بغية الظهور بمظهر المفكر والقائد والباحث، بالإضافة إلى اجترار قوائم هائلة من أسماء المفكرين والأدباء والباحثين وتواريخ ما يهم من الأحداث. وهذا التكرار يأخذ الشكل الببغائي دون مرور ما يقال على العقل، كما أن هناك نموذج المثقف العفوي وهو المثقف الناتج عن بيئة ثقافية محيطة , فنراه يثقف عفوياً بثقافتها ويتبنى آرائها المحيطة ويتعصب لها – والتعصب هنا ردة فعل طبيعية لعدم وجود كم معرفي مبني ذاتياً أي أنه ليس نتاج جهد ذاتي فردي" ارتباط الأيديولوجيات بالعائلة" ، وهذا النموذج مهدد بالتذبذب بين اليسار واليمين,وهو ما يتبع تذبذب العائلة أو البيئة المحيطة، فكم من السهل أن يختار المثقف" مزاجياً " أن يكون يسارياً وكم من الأسهل أن يقفز إلى اليمين مزاجياً أيضاً وعلى الصعيدين الفكري والسلوكي،ويأتي المثقف المعلوماتي وهو عبارة عن " هارد ديسك " ممتلئ بالمعلومات وذلك دون أدنى تفاعل معها , وهذا النموذج من المثقفين غني بالمعلومات فقير بدلالاتها عالِم بالمعلومات جاهل بوعيها وبطرق توظيفها، أيضاً هناك المثقف الرومنسي "الثوري " وهو الذي ما يزال يعيش من خلال الأساطير الثورية منتهية الصلاحية، هذه الثورية التي تشكل في أحد اللحظات ثقافة , لكنها ثقافة أدبية غير علمية ،وقد قدم لنا التاريخ كعادته تداعيات هذه النماذج من الثورات على صعيد الأحداث وعلى صعيد حملة الفكر الثوري , فالمثقف المنتمي لهذه الطريقة يكتفي من الثقافة أو لا يفقه منها سوى التقشف وعلى المستويين المادي والفكري , وهذا النموذج هو خير من قدم لنا النماذج المستبدة والاقصائية واللاديموقراطية.
هذه الأنماط من المثقفين هي للأسف المسيطرة أو هي الحالة العامة التي تشوب الساحة الثقافية التفاعلية في مجتمعنا وهذا ما يفسر سوء هذه الساحة , ويتأتّى السوء هنا من أبعاد عقم الإنتاج الثقافي ,هذا العقم الذي لا يوفر حتى بديهيات هذا العمل . إنّ هذه الحالة الثقافية ( ثقافة – مثقف ) - ( فكر – سلوك )، بما تقوم عليه من سمات وماهيّات اعتباطية ،لا يمكنها فهم الواقع ووعيه وتحليله فكيف لها أن تتجاوزه أو على الأقل أن تخلخله في سبيل إحداث الطفرات التي ذكرناها سابقاً بما تتعامل به من ذهنية مماثلة للذهنية السائدة ذاتها , أي أنها لم تصل عن طريق التراكم إلى إحداث لحظة نوعية في بنيتها وأعني باللحظة النوعية : التوصل إلى مرحلة رفض المسلمات وإعلان القطيعة مع الحتميات التي تملأ رؤوسنا وإلى إحلال ذهنيات الانفتاح والعقلانية والاحتمالات بدلاً منها لكي تتباين في أسوء حالاتها مع تعريف الإنسان المتخلف : " منذ أن ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة , يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها فهو يعزز هذه البيئة ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها" (4) , وهو بذلك بعيد كل البعد عن فحوى ما يلفظه من أهداف الحداثة ،ألا وهي تحرير الفرد من أسر الانتماء الجماعي , وكل ذلك يأتي ليحقق هدف الانتشال من مستنقع الحلول الكسولة والهشة والحث على البحث الدؤوب المنتج المتّسم بالنقد والتحليل , بمعنى أن نشكل منهج قائم على " منطق التحليل والتركيب بدلاً من لا منطقية الحدس والرؤى ".(5) للوصول بوعينا الذاتي للموضوعي مما يؤلفه من ظواهر وإشكاليات إلى مرحلة " الوعي المطابق "(6), أي وعي الأمور بما هي عليه، وبما يحمله هذه الوعي من الضرورات الموضوعية , وذلك للابتعاد عن تكريس التخلف وتسييد السائد ،وأن ننحو نحو تبني منهج عقلاني صادق , ومتماسك بدلاً من النهج المستند إلى المواقف والآراء والأيديولوجيات " المقدسة " المسبقة , والتحول إلى دراسة تلك الظواهر وتشخيصها مادياً للانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج الثقافي , هذه المرحلة التي ترفض بالمطلق الأبعاد الثقافية اللفظية , العفوية , المعلوماتية والرومانسية" الثورية" والتي ترتكز على الظواهر والإشكاليات من الناحية الصورية "شكلانية " وإهمال التعمق بالجوهر والمضمون .
إن غنى صور العجز والتشوه الثقافي الحاضرة وبقوة في مجتمعنا لا تعني بالضرورة استحالة وجود طبقة من المثقفين ممن ينتمون إلى نموذج المثقف الحق والفاعل والمؤثر حداثياً في مجرى الأمور والملتزم ماهويّاً بأصول العمل الثقافي، من حيث الانتماء إلى المخزون المعرفي الذاتي والانتساب إلى وسائله وآلياته وممارستهما سلوكياً , فهذا النمط من المثقفين وفي كل موقف من مواقفه وكل تفصيل من تفاصيل حياته نراه يصعّد هذا الانتماء وهذا الانتساب ويؤكدهما ويؤطرهما بالاتزان والمصداقية والتطابق ما بين فكره وسلوكه، بالإضافة إلى تمتعه بحس البداهة والضرورة وذلك عند الشروع في إطلاق أي مشروع نهضوي حداثي، ولعلّ أولى هذه الميزات هي التراكمية أي : توظيف خبرات التجارب السابقة منعاً من تكرار الأخطاء , وهذا ما يجعله قادراً من تملك مجاله الحيوي وبديهياته من موضوعية - غير مقيد بآراء مسبقة غير قابلة للنقاش - فهو يعرف تمام المعرفة أن الحقيقة محكومة بالنسبية وهي ليست ملكاً لأحد، ومدرك أهمية التسلّح بالعقلانية ومبادئ النقد والتحليل , وهذا ما يسمح له وبشكل غير منقطع النظير أن يطور رأيه الخاص والذي يؤدي به إلى تعميق الجهود و إثبات مصداقيتها، وتأتي المصداقية هنا من المبدأ القائل : من يهادن بقضاياه الصغيرة يهادن بقضاياه الكبيرة , والتمتع بالمصداقية بهذا المعنى يرينا الفروق الشاسعة بين هذا النمط من المثقف الحق والغير مناقض لفكره بسلوكه- على اعتبارها قضية صغيرة - وبالتالي لا يهادن في قضاياه الكبيرة بما يمتلك من وقعنة إيديولوجياته وأفكاره وانعكاساتها, فهو مثلاً يؤمن بالمسألة الديمقراطية ونراه ممارساً لها في جميع مجالاته الحيوية وذلك بدءً من ذاته و مروراً ببيته وأسرته ومحيطه وانتهاءً بوطنه ,وهذا ما يدعونا بالضرورة إلى طلب تقديم ضمانات لمن يهادن في قضاياه الصغيرة كالمهادنة الحاصلة في التناقض القائم ما بين الفكر والسلوك ، ألا يهادن في كبيرها، فكثيرا ما نرى هذه النماذج المتنطحة بالديموقراطية والعلمانية واليسارية وما إلى هنالك من مفاهيم حداثية سرعان ما تتجاهل هذه المفاهيم وتجسد تناقضاتها (إنسان مستبد, غير متباين و الأصولية , عدو للعلمانية , أقرب إلى اليمين منه إلى اليسار ). والجدير بالذكر هنا تفضيل مثقفو اليمين "مرتبياً " على أولئك اليساريين المتناقضين بين الفكري والسلوكي ، لما يقدمه المثقف اليميني من مصداقية وعدم تناقض ما بين فكره وسلوكه ،فهو مثلاً لا يؤمن بالمسألة الديمقراطية " على اعتبارها منتج غربي " ونراه سلوكياً على أرض الواقع لا ديموقراطي.
ومن نافل القول أن المثقف الحق وعن طريق وعيه النقدي يستطيع سلوكياً- كما يرينا هو- تجاوز ذلك التناقض ،عن طريق لفظ كل ما يتعارض ويتنافى مع المفاهيم الحداثية التي تشكل جوهره وجوهر عملية التغيير الاجتماعي والذي يسعى دائماً إلى تقليص حجم التشوه الموجود والمهيمن على الثقافة السائدة وساحات تفاعلها , فهو على يقين دائم بأن الثقافة ليست شيء جامد بل هي مفهوم ينمو ويتغير ويتبدل ويتطور ،وهذا ما يساعده على أن يكون حراً وليمكنه ذلك أيضاً من إنتاج الحرية عن طريق الغنى بالأفكار لا بالأوهام، وهو بهذه الحال سيصبح قادراً على إنتاج الحداثة وحراستها والتطلع إلى وجوه أخرى ،أرقى وأكثر تمدناً من المنتجات الثقافية السائدة " عادات – تقاليد – أيديولوجيات – سلوكيات – علاقات ما قبل دولة .....الخ ), وهذا ما يدفعه إلى تبني جهود فعلية عند تسليطه لسلاح النقد في وجه كل المسلمات المتخلفة والبديهيات الرجعية في مجتمعنا , هذا النقد المقترن دائماً وأبداً بالفعل , بالسلوك فالنقد لا يسمى نقداً إلا إذا حمل بداخله فكراً جديداً وسلوكاً أفضل وإن ما يقدمه هذا النمط من المثقفين هو بمثابة تعرية لما يقدمه أولئك " المتعدون على المهنة " حين يقومون بتبرئة الذاتي وتجريم الموضوعي .
وهنا يمكننا أن ندرك تمام الإدراك أن ما نعانيه هو من صنيعنا , فانعدام الحريات في مجتمعنا ليس بمؤامرة وأن بقاء السلطات الاستبدادية القائمة على الاستئثار بالسلطة و على انتهاج العنف الأمني ومعارضتها وجودياً للقيم التعددية ولعقود متوالية ليست بعقوبة إلهية وأننا عندما لا نرمي أكياس القمامة في أماكنها المخصصة فهذا ليس بمشروع أمريكي صهيوني إمبريالي إنما إفراز حقيقي لذواتنا فنحن هنا من يقوم بالتآمر على نفسه , ونحن هنا أيضاً من يعاقبها ,أوليس منشأ الواقع المريض هو الفكر المريض؟. فنحن " نستطيع النضال ضد الخداع بعملنا على تحليل ذواتنا وتصحيحها ونقدها باستمرار".(7)
وإننا بالوصول إلى هذا الحد من المصارحة والحرفية في قراءة الواقع وتحليله ضمن معطيات المنطق والتاريخ سنستطيع الوصول إلى التمييز ما بين نقد الذات وما بين جلدها , فإن لم نكن على هذا المستوى فلن نستطيع بالتالي أن نؤثر في مصائرنا ومصائر غيرنا من البشر وسنداوم على اجترار الماضي بدلاً من إنتاج المستقبل وإلى الغوص في قاع مستنقعنا الثقافي بدلاً من إزعاج سكونه وهذا ما يحضنا على إعادة تشكيل هذا الواقع بما يتفق وينسجم مع الأهداف الحداثية التي أخرجت مجتمعات العالم من الواقع المتخلف وعصور الظلمات إلى التمدن والتحضر وعصور الأنوار.
فادي كحلوس
1- حسب تعريف المفكر كارل مانهايم
2- ياسين الحافظ – الهزيمة والايديولوجيا المهزومة
3- جورج طرابيشي – في ثقافة الديموقراطية
4- مصطفى حجازي – سيكيولوجيا الإنسان المقهور
5- ياسين الحافظ –المصدر السابق نفسه
6- ياسين الحافظ – المصدر السابق نفسه
7- ادغار موران – مقدمات للخروج من القرن العشرين