<!--
<!--<!--<!--
وماذا بعد؟!
في وسط ما أصبح فيه مجتمعنا اليوم من تزاحم للتحديات وتزايد للمشاق والصعوبات وتراكم للمطالب والواجبات .. تحديات تتزايد مع كل حركة لعقارب الساعة وأنَّى لها أن تتوقف؟! ما يعد اليوم من الأساسيات كان بالأمس من الكماليات ، وما يعتبر فيه اليوم طفرة يصبح في الغد تميزًا وتفوقًا وفي اليوم الذي يليه يصير من المعتادات ثم بفعل الأيام يصبح مجرد بديهيات .. بالأمس القريب كان النجاح هدفًا وغاية واليوم صار مجرد وسيلة !! كان الوصول للمناصب والمراكز غاية يصبي إليها واليوم أضحت محض سلٍم يرتقي للوصول إلي ما هو أسمى وأبعد.
عصر يتصارع فيه أهل القاع للوصول إلي أعالي القمم !! ويعاني فيه أهل القمة في سبيل الإستمرار علي عرشها وتفاديًا للهوي من نعيم القمم إلي لهيب الحمم !! الكل يبذل ما في وسعه ليثبت نفسه ويُعلي قدره، مجتمع لا مجال فيه للتقاعص والتوانى ..لا مجال فيه للراكدين بجوار الراكضين ولا للخاملين بجانب الحالمين ..لا يقتصر فيه الفشل علي ما عهدناه من سمات الفاشلين بل امتد ليشمل الكثير والكثير والكثير.
ومازلنا نلاحظ ركود بعض الأفراد عند درجة معينة من النجاح قوم اختاروا الثبات علي حاله دون سعي للتقدم ، بل وانتهت لديهم مفاهيم العزيمة والإرادة والطموح والمثابرة وما علي شاكلتها واستبدلت بالثبات والقناعة المتوهمة !! وحين تسألهم عن السبب يقولون لك ما الذي يمكن أن نفعل غير ما فعلنا ؟! وماذا يمكن أن نحقق غير ما حققنا ؟! بل وتجد بعضهم يتعجب أحياناً علي ما حقق من نجاح وكأنه يستكثره علي نفسه !! ويتسرب إلي خياله أوهام تشعره بأنه لا يمكنه تقديم المزيد !!
وتتردد علي مخيلته ولسانه أحياناً بعض الأفكار الهدامة .. " أنا في موضع يتمنى الجميع الوصول إليه " .. " ليس بمقدوري أن أكون أفضل مما أنا عليه الآن " .." موضعي الحالي هو أقصي طموحي " .. ولا يستفيق إلا حين يجد نفسه مجرد تمثالٍ بالٍ ينظر إليه المارة دون اهتمام .. ويتحول به الحال من مثلٍ إلي عبرة .. ومن مسئول إلي سائل .. ومن متبوع إلي تابع !!
ويجد نفسه كجزع مقطوع في وسط غابة ناميةيتضائل ارتفاعه شيئًا فشيئًا.. وبفعل الجاذبية سيعلوه التراب فيدفن حيا وميتا !! وذلك ليس لأنه سيء ولا لأن امكاناته لا تبلغه أكثر مما بلغ كما يتوهم .. ولكن لأنه ارتضي أن يكون راكداً في زمن الحراك !!
فعليك عزيزى القارئ أن تعلم أن المتفوق بمقاييس الأمس أصبح اليوم متوسطا وغدًا سيصير أقل ، والمتميز بمقاييس اليوم إذا لم يبحث عن الجديد غدًا سيصنف بين من هم أدني ولا يتوقف تدنيه في كل صباح لأن المقاييس في كل يوم في جديد .. فعملات اليوم التى ندرك قيمتها بعد قليل لن تزيد عن مجرد ورق ملون ندون عليه ذكرياتنا .. ورغم الإعتراف بقيمتها في زمانها إلا أنها الآن لم تعد لها أي فائدة إلا حمل الذكريات وفي يوم ما سترمي !!
وفي ظل هذا التسارع والتصارع علي من أراد البقاء في مقدمة السباق أن يبحث عما يميزه .. فإذا كنت اليوم طبيبًا ناجحًا فمن أنت بمقاييس الغد؟! وإن كنت اليوم مهندسًا متفوقًا فتحت أي فئة ستصنف غدا؟! وإن كنت اليوم معلمًاً مرموقًا فأين سيكون موقعك في الغد؟!
حققتَ التفوق والنجاح وحصلتَ علي أفضل الشهادات أقول لك وماذا بعد ؟! صرتَ طبيباً ناجحاً يشار إليه .. وماذا بعد ؟! أنت الآن أبٌ يحتذي به ومعلمٌ يتفاخر الطلاب بشرف الإنتساب إليه .. وماذا بعد ؟! صرتَ ناجحاً وبلغت قدراً من النجاح لم يسبق .. وماذا بعد ؟!
إنه السؤال الذي أريدك عزيزي القارئ أن تضعه نصب عينيك وتتابع الإجابة عنه بعد كل خطوة ناجحة تخطوها فعلي من أراد البقاء أن يسعي للتميز والتجديد فلم يعد النجاح بالتفوق علي العاديين ولكنك بمقاييس اليوم تقارن بالمتفوقين .. ومن أدراك غدًا بمن ستقارن ؟! وإذا كنت اليوم علي قدر من النجاح ولم تزد منه وتسعي لأفضل منه .. غدًا ستجد نفسك في تصنيف آخر .. واحذر أن تصاب بسهم الغرور حتي لا تجد نفسك في الغد القريب بين فئة سعيت طوال حياتك للبعد عنها فكلمة الفشل موجعة تخدش شفاه ناطقها قبل أذن سامعها وتقصف قلم كاتبها قبل أن تصيب عين قارئها.