دعوى صمت الشعراء عند ظهور الإسلام
د. إبراهيم عوض

هناك مقولة شائعة منذ وقت مبكر فى تاريخ الإسلام مُفَادُها أن العرب قد انصرفت عن الشعر عند مجىء الإسلام. وآخر من قرأتها عندهم هو الراهب الجزائرى جان محمد عبد الجليل، الذى كان مسلما ثم تنصر، فقد ساق هذا الزعم سَوْقَ المؤكِّد له فى كتابه: “Brève Histoire de la Littérature Arabe” الصادر فى باريس عام 1947م. وهى مقولة فاسدة، إذ العرب آنذاك إما رجل اعتنق الإسلام، وإما رجل ظل على وثنيته أو يهوديته أو نصرانيته. فأما المسلمون فكانوا فى معظم عصر الرسول قلة كما هو معروف، فلو افترضنا أنهم جميعا كانوا شعراء وأنهم على بكرة أبيهم قد انصرفوا عن نظم الشعر فإن عددهم القليل بالنسبة للعرب جميعا لن يكون له هذا التأثير المزعوم. وأما المشركون وأهل الكتاب فلم يا ترى ينصرفون عن الشعر بسبب الإسلام، وهم لا يعتنقونه وليس فى دينهم ما يدفعهم إلى هذا الانصراف كالذى يقال عن الإسلام من أنه هاجم الشعر والشعراء أو أن الجهاد قد شغل المسلمين عن الالتفات إلى الإبداع الشعرى؟ وعلى كل حال لقد رأينا المشركين واليهود ينظمون الشعر فى ذم الرسول ودينه وأتباعه وفى المعارك التى دارت بينهم وبينه كابن الزبعرى وسفيان بن الحارث وأمية بن أبى الصلت وكعب بن الأشرف. بل لقد رأينا كيف ينسب الرواة حقا أو زيفا شعرا لأبى طالب مثلا يدافع فيه عن الرسول رغم أنه، فيما هو مشهور، لم يكن على دينه، وظل متمسكا بما كان عليه قومه إلى أن مات. كما أن الأعشى قد ظل ينظم الشعر بعد ظهور الإسلام كما كان ينظمه قبلا. بل إنه قد أعد قصيدة يمدح بها النبى ودينه ناويا أن يفد بها عليه وينشدها بين يديه ويعلن الدخول فى دينه. ثم كيف يهجر الناس الشعر؟ هل تغيرت طبيعة البشر فلم يعودوا يحسون أو يحبون أو يتفاخرون أو يأملون أو يألمون أو يقلقون أو يملون أو يشاهدون ويسمعون ما حولهم من مناظر الطبيعة وجمال النساء وسلوك البشر وتقلبات الأيام وما إلى هذا مما من شأنه أن يفجر بواعث نظم الشعر؟
وأصحاب هذه المقولة يشيرون عادة إلى لبيد بن ربيعة بوصفه مثالا على الشاعر المشهور القدير الذى ما إن جاء الإسلام حتى سكت فلم ينبس إلا ببيت واحد يتيم ليس غير. فهل هذا صحيح؟ إن ديوان الرجل موجود تحت أيدينا، ومن السهل على من يريد التثبت من هذه الدعوى أن يفتح ذلك الديوان ليرى هل فعلا صمت لبيد بعد الإسلام فلم يعد يقول الشعر أو لا. ودعنا من الفترة التى انقضت بين ظهور الإسلام ودخوله هو فيه، تلك الفترة التى كان لا يزال على دين الجاهلية ولم يكن هناك ما يدفعه إلى التوقف عن الشعر، فإن له فعلا فى تلك الفترة شعرا كثيرا، ولنركز على الفترة التى تلت إسلامه إلى أن مات. فمن يقرأ شعره فى تلك الفترة سوف يلاحظ أنه قد نظم شعرا كثيرا بالنسبة إلى حجم شعره الذى بقى لنا. ولسوف يرى أن الرجل يكرر فى أشعاره ذكر الله وحمده والرضا بقضائه وقدره، ويتحدث عن التقى والبر والصحيفة التى تسجل فيها أعمال المرء ويحاسب الإنسان فى الآخرة على أساسها، ويشير إلى ما صنعه الله بعاد وثمود وغيرهما من الأمم القديمة عقابا لها على تمردها وعصيانها... إلخ.
ومن شعر الرجل الذى يعكس إسلامه المختارات التالية التى انتقيتها من بعض قصائده، وهى قصائد أرجح أنها كلها قد نظمت بعد الإسلام، على الأقل: لأن تلك الاستشهادات تبدو قارَّةً فى مواضعها من تلك القصائد غير مجتلَبة اجتلابا ولم تُقْحَم عليها:
حَمِدتُ اللهَ، واللهُ الحَميدُ         وَلِلَّهِ المُؤَثَّلُ وَالعَديدُ
فَإِنَّ اللَهَ نافِلَةٌ تُقاهُ         وَلا يَقْتالُها إِلّا سَعيدُ
***
قُضِيَ الأُمورُ، وَأُنجِزَ المَوعودُ         وَاللهُ رَبّي ماجِدٌ مَحمودُ
وَلَهُ الفَواضِلُ وَالنوافِلُ وَالعُلا         وَلَهُ أَثيثُ الخيرِ وَالمعدودُ
وَلَقَد بَلَتْ إِرَمٌ وَعادٌ كَيْدَهُ         وَلَقَد بَلَتْهُ بَعْدَ ذاكَ ثَمودُ
خَلَّوْا ثِيابَهُمُو عَلى عوراتِهِ         فَهُمُو بِأَفْنِيَةِ البيوتِ هُمُودُ
وَلَقَد سَئِمْتُ مِنَ الحياةِ وَطُولِها         وَسُؤالِ هَذا الناسِ: كَيفَ لَبيدُ؟
***
إِنَّما يَحْفَظُ التُّقَى الأَبْرارُ         وَإِلى اللَهِ يَستَقِرُّ القَرارُ
وَإِلى اللهِ تُرْجَعونَ، وَعِندَ اللـــــــــــــــــــــــ  ـــــــــــــــــــهِ وِرْدُ الأُمورِ وَالإِصْدارُ
كُلَّ شَيءٍ أَحْصَى كِتابا وَعِلْمًا         وَلَدَيْهِ تَجَلَّتِ الأَسرارُ
يَوْمَ أَرزاقُ مَن يُفَضِّلُ عُمٌّ         موسَقاتٌ وَحُفَّلٌ أَبكارُ
يَومَ لا يُدخِلُ المُدارِسَ في الرحــــــــــــــمَةِ إِلّا بَراءَةٌ وَاِعتِذارُ
وَحِسَانٌ أَعَدَّهُنَّ لِأَشْها         دٍ وَغَفْرُ الَّذي هُوَ الغَفّارُ
***
وَما البِرُّ إِلّا مُضْمَراتٌ مِنَ التُّقى         وما المالُ إِلّا مُعْمَراتٌ وَدائِعُ
وَما المالُ والأَهلونَ إِلّا وَديعَةٌ         وَلا بُدَّ يَومًا أن تُرَدَّ الوَدائِعُ
وَما الناسُ إِلّا عامِلانِ: فَعامِلٌ         يُتَبِّرُ ما يَبْنِي وَآخَرَ رافِعُ
فَمِنهُم سَعيدٌ آخِذٌ لِنَصيبِهِ         وَمِنهُم شَقِيٌّ بِالمعيشةِ قانِعُ
لَعَمْرُكَ ما تَدري الضَوارِبُ بِالحَصَى         وَلا زاجِراتُ الطَيرِ ما اللهُ صانِعُ
سَلوهُنَّ إِن كَذَّبتُموني: مَتى الفَتى         يَذوقُ المنايا أو مَتى الغَيثُ واقِعُ؟
***
مَن يَبْسُطِ اللَهُ عَلَيهِ إِصبَعا
بِالخيرِ وَالشَِّ بِأَيٍّ أولِعا
يَملَأْ لَهُ مِنهُ ذَنُوبًا مُترَعا
وَقَد أَبادَ إِرَماً وَتُبَّعا
وَقَوْمَ لُقمانَ بنِ عادٍ أَخشَعا
إِذ صارَعوهُ فَأَبى أَن يُصْرَعا
وَالفيلَ يَومَ عُرَناتٍ كَعكَعا
إِذْ أَزمَعَ العُجْمُ بِهِ ما أَزمَعا
نادى مُنادٍ رَبَّهُ فَأَسمَعا
فَذَبَّ عَن بِلادِهِ وَوَرَّعا
وَحابَسَ الحاسِرَ وَالمُقَنَّعا
وَأَفْلَتَ الجيشُ بِخِزْيٍ مُوجَعا
تَمُجُّ أُخْراهُم دِماءً دُفَّعا
***
رَأَيتُ التُّقَى والحمدَ خَيرَ تِجارَةٍ         رَبَاحًا إِذا ما المرءُ أَصبَحَ ثاقِلا
وَهَل هُوَ إِلّا ما ابْتَنَى في حَياتِهِ         إِذا قَذَفوا فَوقَ الضَّريحِ الجَنادِلا
***
لِلَّهِ نافِلَةُ الأَجَلِّ الأَفْضَلِ         وَلَهُ العُلا وَأَثِيثُ كُلِّ مُؤَثَّلِ
لا يستطيعُ الناسُ مَحْوَ كِتابِهِ         أَنَّى، وليس قَضاؤهُ بِمُبَدَّلِ؟
سَوَّى فَأَغلَقَ دونَ غُرَّةِ عَرشِهِ،         سَبْعًا طِبَاقًا فَوْقَ فَرْعِ المَنْقَلِ
وَالأَرضَ تَحتَهُمُو مِهادًا راسِيًا         ثَبَتَتْ خَوالِقُها بِصُمِّ الجَنْدَلِ
وَالماءُ وَالنيرانُ مِن آياتِهِ         فيهِنَّ مَوْعِظَةٌ لِمَنْ لم يَجْهَلِ
بَل كُلُّ سَعْيِكَ باطِلٌ إِلّا التُّقَى         فَإِذا انقَضى شَيءٌ كَأَنْ لم يُفْعَلِ
***
أَرى الناسَ لا يَدْرونَ ما قَدْرُ أَمرِهِم         بَلَى كُلُّ ذي لُبٍّ إِلى اللهِ واسِلُ
أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ باطِلُ         وَكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ
وَكُلُّ أُناسٍ سوفَ تَدْخُلُ بَينَهُم         دُوَيْهِيَةٌ تَصفَرُّ مِنها الأَنامِلُ
وَكُلُّ امْرِئٍ يَومًا سَيَعْلَمُ سَعْيَهُ         إِذا كُشِّفَت عِنْدَ الإِلَهِ المَحاصِلُ
***
إِنَّ تَقوى رَبِّنا خَيرُ نَفَل         وَبِإِذنِ اللَهِ رَيْثِي وَعَجَلْ
أَحمَدُ اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ         بِيَدَيهِ الخَيْرُ ما شاءَ فَعَلْ
مَنْ هَداهُ سُبُلَ الخيرِ اهتدى         ناعِمَ البالِ، وَمَن شاءَ أَضَلّْ
وَاكْذِبِ النفسَ إِذا حَدَّثْتَها         إِنَّ صِدقَ النفسِ يُزْرِي بِالأَمَلْ
غَيْرَ أَلاَّ تَكْذِبَنْها في التُّقى         وَاخْزُها بِالبِرِّ لِلَّهِ الأَجَلّْ
***
أَتَيناكَ يا خَيْرَ البَرِيَّةِ كُلِّها         لِتَرْحَمَنا مِمّا لَقِينا مِنَ الأَزْلِ
أَتَيْناكَ، وَالعَذْراءُ يَدْمَى لَبَانُها         وَقَد ذَهِلَت أُمُّ الصَبِيِّ عَنِ الطِّفْلِ
وَأَلقى تَكَنِّيَهِ الشُّجاعُ استِكانَةً         مِنَ الجوعِ صُمْتًا لا يُمِرُّ وَلا يُحْلي
وَلا شيءَ مِمّا يَأكُلُ الناسُ عِنْدَنا         سِوى العِلْهَزِ العَامِيِّ وَالعَبْهَرِ الفَسْلِ
وَلَيسَ لَنا إِلّا إليكَ فِرارُنا         وَأَينَ يَفِرُّ الناسُ إِلّا إلى الرُّسْلِ؟
فَإِن تَدعُ بِالسُّقْيا وَبِالعَفوِ تُرسلِ السـْ  ـسَماءُ لَنا، وَالأَمْرُ يَبْقَى على الأَصْلِ
***
فَاقْنَعْ بِما قَسَمَ المَلِيكُ، فَإِنَّما         قَسَمَ الخَلائِقَ بَيْنَنا عَلاَّمُها
وَإِذا الأَمانَةُ قُسِّمَتْ في مَعْشَرٍ         أَوْفَى بِأَوْفَرِ حَظِّنا قَسّامُها
فَبَنى لَنا بَيتًا رَفيعًا سَمْكُهُ         فَسَمَا إِلَيْهِ كَهلُها وَغُلامُها
***
أَوَلَم تَرَيْ أَنَّ الحَوادِثَ أَهْلَكَتْ         إِرَمًا وَرامَتْ حِمْيَرًا بِعَظيمِ؟
لَو كانَ حَيٌّ في الحَياةِ مُخَلَّدًا         في الدهرِ أَلْفاهُ أبو يَكْسومِ
وَالحارِثانِ كِلاهُما وَمُحَرِّقٌ         وَالتُبَّعانِ وَفارِسُ اليَحْمومِ
وَالصَّعبُ ذو القَرنَينِ أَصبَحَ ثاوِيًا         بِالحِنْوِ في جَدَثٍ، أُمَيْمَ، مُقِيمِ
وَنَزَعْنَ مِن داودَ أَحْسَنَ صُنْعِهِ         وَلَقَدْ يكونُ بِقُوَّةٍ وَنَعِيمِ
صَنَعَ الحديدَ لِحِفْظِهِ أَسْرادَهُ         لِيَنالَ طولَ العَيشِ غَيرَ مَرُومِ
فَكَأَنَّما صادَفْنَهُ بِمُضِيعَةٍ         سَلَمًا لَهُنَّ بِواجِبٍ مَعْزومِ
فَدَعِي الملامَةَ، وَيْبَ غَيْرِكِ، إِنَّهُ         ليسَ النَّوَالُ بِلَوْمِ كُلِّ كَريمِ
***
كانَت قَناتي لا تَلِينُ لِغَامِزٍ         فَأَلانَها الإِصْباحُ وَالإِمْساءُ
وَدَعَوتُ رَبّي في السَّلامَةِ جاهِدًا         لِيُصِحَّني، فَإِذا السَّلامَةُ داءُ
***
وَأَنَّكَ ما يُعْطِيكَهُ اللهُ تَلْقَهُ         كِفَاحًا وَتَجْلِبْهُ إِلَيْكَ الجَوالِبُ
***
الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَم يَأْتِني أَجَلي         حَتّى لَبِسْتُ مِنَ الإسلامِ سِرْبَالا
فانظركم قصيدة قالها لبيد فى الإسلام، وكيف يزعم الزاعمون أنه لم يقل خلاله سوى بيت فرد لا شريك له! فإذا كان هذا هو حال لبيد، الذى يُضْرَب مثلا على ترك العرب للشعر بعد ظهور الإسلام، فما بالنا بغيره؟ وماذا كان يفعل حسان وابن رواحة وكعب عند الرسول؟ ألم يكونوا ينظمون الشعر ويشجعهم الرسول على دفاعهم عن دينه ويدعو لهم ويبشر حسانا بأن روح القدس معه؟ وماذا نقول فى بردة كعب بن زهير؟ أليست شعرا؟ وما العمل إزاء القصائد التى كان يلقيها شعراء الوفود القبلية فى العام التاسع للهجرة فى حضرة الرسول عليه السلام؟ وماذا نصنع بالشعر الذى قاله خبيب بن عدى حين همت القبيلة التى غدرت به أن تصلبه؟ وماذا وماذا وماذا مما لن ننتهى منه بسهولة لأنه كثير؟ وكيف نصدق هذا الزعم، وقد كان الرسول والصحابة يستمعون إلى الشعر ويستنشدون الرواة ما عندهم من أشعارٍ كثيرٌ منها جاهلىٌّ؟ لو كان ذلك الزعم صحيحا لكفوا عن الاستماع إليه، ولنفروا  أشد نفور من الشعر الذى قيل فى الجاهلية؟
إن قائلى هذا الكلام يشيرون إلى قوله تعالى فى آخر سورة "الشعراء": "وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ". إلا أنهم ينسون عدة أشياء هامة: فهذه الآيات قد نزلت فى المدينة، ومعنى ذلك أن الإسلام قبلها لم يقل شيئا فى حق الشعر يدفع مبدعيه إلى الكف عن إبداعه. وثانيا ينبغى أن نضع هذه الآيات فى سياقها التاريخى وسياقها من سورتها، إذ هى رد على من كانوا يتهمون الرسول بأنه شاعر يقول ما يلهمه إياه الشياطين ويسيئون إلى أعراض المسلمين والمسلمات، فقال القرآن إن الشياطين إنما تتنزل على أولئك الشعراء الذين يهاجمون الإسلام وأهله ولا يتقيدون فى شعرهم بمراعاة ما هو حق فليتزمونه ولا ما هو باطل فيتجنبونه، بل يتركون خيالاتهم وأوهامهم تسوقهم هنا وهنا دون اهتمام بصدق أو كذب هائمين فى أودية الضلال لا يستمعون إلى صوت العقل والحكمة والحق. ومثلهم وعلى شاكلتهم جمهورهم الذى ينصت مصدقا أكاذيبهم وشطحاتهم الهائمة المنفلتة من عيار الصدق. ومع هذا كله رأينا الآيات نفسها تستثنى شعراء الإسلام الذين يردون على أكاذيب الشعراء المشركين ويفضحونها. ولو كان رأى الإسلام فى الشعر سيئا لكان المسلمون أول من يجب عليهم هجره والابتعاد عن طريقه بكل وسيلة متاحة. أليس كذلك؟
أما ما تكرر فى القرآن من نفى الشعر عن الرسول كقوله سبحانه مثلا فى سورة "يس": "وما علَّمناه الشِّعْرَ وما ينبغى له. إن هو إلا ذِكْرٌ وقرآنٌ مُبِينٌ* ليُنْذِرَ من كان حَيًّا ويَحِقَّ القولُ على الكافرين" فلا يعنى أبدا أن الشعر فى حد ذاته شر يُتَبَرَّأ منه، بل يعنى أن القرآن شىء، والشعر شىء آخر: الشعر غزل ونسيب ومديح ورثاء وفخر وتمجيد للأصنام ووقوف على الأطلال وتفاخر بمواقعة الشهوات والطبيعة ووصف للنساء والحيوان والمطر والسيول وعيون الماء وتصوير جمال الحصان والناقة وقوتهما وحكاية لما يقابله الشاعر فى رحلته عبر البادية من مناظر ومشقات وأهوال... إلخ، أما القرآن فدعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده وتذكير بنعمه وتحذير من عصيانه وعقابه وتبشير بثوابه ونعيمه وحث على البر والتقوى وعمل الخير والمعروف والصدق والعفة وما إلى ذلك. وواضح أنهما سبيلان مختلفان، ويزيدهما اختلافا أن الشعر أيضا أوزان وقواف، أما القرآن فلا أوزان ولا قواف. ومع هذا كان المشركون  يتجاهلون هذا كله ويتهمون الرسول بأنه شاعر يتلقى الوحى من الشياطين، فكان لا بد أن يرد القرآن على هذه الفرية الكاذبة العنيدة. وهذا كل ما هنالك. ليس ذلك فقط، بل إن اعتناق الشعراء للإسلام لم يصرف من يريد منهم عن التغزل فى النساء والتشبيب بهن ووصف محاسنهن وتشبيه طعم أفواههن بالخمر إلى الدرجة التى يقول فيها كعب بن زهير مثلا فى حضرة الرسول حين أتاه معتذرا عما قاله من كلام مسىء فى حقه معلنا إسلامه:
بانَت سُعادُ، فَقَلبي اليومَ مَتْبُولُ         مُتَيَّمٌ إِثْرَها لَم يُجْزَ مَكْبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذْ رَحَلوا         إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً، عَجزاءُ مُدبِرَةً         لا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إِذا ابْتَسَمَتْ         كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعْلولُ
شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحْنِيَةٍ         صافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مشمولُ
تَجلو الرِياحُ القَذَى عَنُه، وَأَفرَطَهُ         مِن صَوْبِ سارِيَةٍ بِيضٍ يَعاليلُ
يا وَيْحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَتْ         ما وَعَدَتْ أَو لو أَنَّ النُّصْحَ مقبولُ
لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سِيطَ مِن دَمِها         فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وَتَبْديلُ
فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها         كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ
وَما تَمَسَّكُ بِالوَصْلِ الَّذي زَعَمَت         إِلّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كَانَت مَواعيدُ عُرْقوبٍ لَها مَثَلاً         وَما مَواعيدُها إِلّا الأَباطيلُ
أَرجو وَآمُلُ أَن يَعْجَلنَ في أَبَدٍ         وَما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ
فَلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت         إِنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ
أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها         إِلّا العِتاقُ النَّجِيباتُ المَراسيلُ
أما الشعر المنطلق من باعث الإسلام صافيا بعيدا عن أغراض الشعر التقليدية فمنه مثلا قول خُبَيْب بن عَدِىٍّ حين قدَّمه آسروه المشركون الغادرون ليصلبوه:
لقد جمَّع الأحزاب حولي وألَّبوا         قبائلَهم، واستجمعوا كل مَجْمَعِ
وقد قرَّبوا أبناءهم ونساءهم         وقُرِّبْتُ من جِذْعٍ طويلٍ ممنَّعِ
وكُلُّهمو يُبْدِي العداوةَ جاهدًا         عليَّ لأني في وَثَاقٍ بمَضْيَعِ
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي         وما جمَّع الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرشِ، صَبِّرْني على ما أصابني         فقد بَضَعوا لحمى، وقد ضلَّ مطمعي
وذلك في ذات الإله. وإن يشأْ         يباركْ على أوصالِ شِلْوٍ ممزَّعِ
وقد عرضوا بالكفر، والموت دونه         وقد ذرفت عيناي من غير مدمعِ
وما بي حذارُ الموت. إني لميتٌ      ولكن حِذاري حَرَُّ نارٍ تلفَّعُ
فلست بمُبْدٍ للعدو تخشُّعًا         ولا جَزَعًا. إني إلى الله مَرْجِعي
ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلمًا     على أي حالٍ كان في الله مصرعي
وكان قد صلى قبل صلبه ركعتين، ويقول العلماء إنه أول من سن هذه السنة الجميلة. أفبعد هذا نقول إن الإسلام قد ذم الشعر وأصحابه؟ أويصح الزعم بأن خبيبا قد ارتكب إثم الشعر وهو مقبل على الله عزيزًا أَبِىَّ النفس شجاعَ القلب مجاهدًا حقَّ الجهاد شهيدًا مصليًا؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 209 مشاهدة
نشرت فى 15 مارس 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

34,541