تكييف جريمة غسيل الأموال      

تمهيد

     جريمةغسيل الأموال فى طبيعتها جريمة جنائية ذات طابع دولي عابرة الحدود ، وذات طابع اقتصادي لوجودها في محل اقتصادي ، فضلا عن إنها ذات اثر اقتصادي في الدولة.

فالسؤال المثار هنا والإشكالية المطروحة : ما هو تكييف جريمة غسيل الأموال ؟ هل هي جريمة مساهمة تلحق بالجريمة الأصلية ؟ أم أنها جريمة إخفاء أشياء متحصله من جريمة ؟ أم أنها جريمة قائمة بذاتها ؟ .

وسوف نستعرض هاتين الصورتين للوصول إلى تكييف جريمة غسيل الأموال في مطلبين:

المطلب الأول

المساهمة الجنائية

        المساهمة الجنائية هي نشاط يرتبط بالفعل الإجرامي ونتيجته برابطة السببية سواء كان المساهم على مسرح الجريمة وقام بتنفيذ جزء من السلوك المادي للجريمة أو ساعد في ارتكاب السلوك بصفة عامة بحيث لولاه ما كان السلوك أن يتم ، وهنا يسمى المساهم أو الشريك المباشر  أو تم السلوك الذي أتاه الفاعل الأصلي بناء على اتفاق أو تحريض أو مساعدة من المساهم وتحققت الجريمة في نتيجتها بناء على ذلك الاتفاق أو التحريض أو تلك المساعدة وهنا يسمى بالمساهم أو الشريك الغير مباشر.

     وفي كلا الحالتين يقع الشريك المباشر أو الغير مباشر (المتسبب ) في عقوبة الفاعل وإن كانت بعض التشريعات تتحقق من عقوبة الشريك الغير مباشر أو( المتسبب) .

وهنا بإمعان النظر  في طبيعة تلك الصورة نرى أن لها وجهان:-

الوجه الأول : هو المساهم الأصلي أو الشريك المباشر يتوافر له ركن مادي يتمثل في سلوك مشترك مع الفاعل الأصيل في إتمام سلوك الجريمة للإتيان بالنتيجة ، بحيث يرتبط ذلك الاشتراك بعلاقة سببية بحيث لم تكن لتتحقق الجريمة كنتيجة للسلوك لولا تحقق ذلك الاشتراك  وتواجد ذلك الشريك في مسرح الجريمة مكانياً وزمنياً ، وركن معنوي هام ذلك الشريك بالسلوك القائم واتجاه إرادته إلى تحقق السلوك وإحداث النتيجة .

الوجه الثاني :- هو المساهم التبعي أو الشريك الغير مباشر (المتسبب) في الجريمة ، وهو ذلك الشريك الغير حاضر في مسرح الجريمة زمانياً ومكانياً ولا يرتكب الفاعل الأصلي السلوك إلا بمفرده ، بيد أن ذلك السلوك قد أقدم عليه بناء على اتفاق مع الشريك بإتيانه بطرح الفكرة على ذهنه أو حرضه ، وتحريضه على إتيانها أو مساعدته في إتيانه بتوفير أدواتها أو مساعدته بأية صورة تسهل له ارتكابها بحيث ما كانت تلك الجريمة لتتحقق بدن ذلك الاتفاق أو التحريض أو المساعدة.

     وهنا يكون الركن المادي في المساهمة التبعية سلوك الشريك الذي يتمثل بالاتفاق أو التحريض أو المساعدة بحيث تتحقق النتيجة وهي ارتكاب الجريمة بينهما علاقة سببية ، وهي أن الجريمة ما كانت لتتحقق دون ذلك السلوك والمتمثل في تلك الصور ، وركن معنوي يتمثل في علم الشريك بالسلوك الذي أتاه في الاتفاق مع الفاعل الأصلي أو تحريضه أو مساعدته لارتكاب الجريمة واتجاه إرادته لإتيان الفاعل الأصلي الجريمة بناء على الاتفاق أو التحريض أو المساعدة دون تواجده في تنفيذ السلوك.[1]

     وبإنزال تطبيق ما سبق على جريمة غسيل الأموال وهل يعد القائم بها شريكاً مباشراً أو متسبباً في إحداث الجريمة المتحصل منها الأموال محل غسيل الأموال؟

     بالتأكيد عند النظر إلى تكييف جريمة غسيل الأموال نجد أنها جريمة تبعية  وليست في نطاق التعدد المعنوي بحيث يكون السلوك القائم به الفاعل الأصلي في الجريمة الأولي يحتمل تكييفه بأكثر من جريمة كالإتلاف في جريمة السرقة ، فهنا السلوك واحد تعدد معنويا بتكييفه بأكثر من وصف ، وكذا فعل هتك العرض في الطريق العام فهنا السلوك يتعدد معنويا ويحتمل أن يكون فعل فاضح علنياً في الطريق العام وكذلك هتك عرض ، وإذا ما نظرنا إلى الجريمة الأولى في نطاق جريمة غسيل الأموال فإن الجريمة الأولى  تظل دائما أبدا مستقلة في أركانها وسلوكها عن جريمة غسيل الأموال بحيث لا يتعدد بها السلوك معنوياً إلا ما احتمل من سلوكها وليس من سلوك جريمة غسيل الأموال .

     فجريمة غسيل الأموال وإن كانت من الجرائم المنظمة اللاحقة ، أي تفترض ركن مفترض وهو وجود جريمة سابقة تحصل الجناة منها على أرباح مادية وجنوا ثمارها في نتيجتها إلا أنها تظل مستقلة عن الجريمة الأولى .

      ففي الجريمة الأولى السابقة كالاتجار في المخدرات فإن الجناة يأتون بالسلوك الذي يتمثل في تبادل المخدرات بين التاجر والمشتري مقابل تحقق نتيجة وهو الربح المادي وتكون جريمة كاملة في ركنيها المادي والركن المعنوي المتمثل في العلم بتأثيم السلوك واتجاه إرادة الجاني على إتيان ذلك السلوك لتحقق النتيجة ألا وهي الربح .

      وهنا لا يكون هناك  محلاً للجناة في جريمة غسيل الأموال بالمساهمة التبعية أو بالمساهمة المباشرة بها .

     بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن جريمة غسيل الأموال وإن كانت جريمة لاحقة إلا أنها مستقلة عن الجريمة الأولى . إلا أننا سبق وأن أوضحنا أن جريمة غسيل الأموال من الجرائم المنظمة التي تباشر من خلال جماعة إجرامية منظمة ، وبالنظر إلى الجريمة الأولى ونتيجتها فإننا نلاحظ أن النتيجة لا تؤتي بكمالها أو بثمرتها إلا إذا كانت الأرباح المحصلة منها يمكن تداولها والتعامل بها والذي لن يأتي إلا في حالة غسلها من الشبهات والملاحقات الجنائية . وبذلك فمن البديهي أن تكون جريمة غسيل الأموال ما هي إلا مرحلة لاحقة لارتكاب الجريمة الأولى بحيث يرتبطان معا ارتباطاً لا يقبل التجزئة ، وإن كان لكل منهما نموذج إجرامي مستقل فجريمة غسيل الأموال تعد أحد مراحل السلوك في الجريمة الأولية إن وقعت بحيث لا تكتمل إلا بتلك المرحلة ، فإذا ما قامت الجماعة الإجرامية  - ص 25-  فإن القسم الخاص بالغسيل يقوم بدوره مباشرة  بعد تحصيل أموال الجريمة ويبدأ سلوك جريمة غسيل الأموال .

     وهنا نتساءل هل تتحقق المشاركة الإجرامية هنا ؟ وللإجابة عن ذلك نؤكد أنه بالطبع تتحقق تلك المشاركة ، وإن كانت مشاركة غير مباشرة أو كما تسمى بالشريك المتسبب ، وهو الشريك الذي اقترف الجاني لسلوك في الجريمة الأولى على سند وجود ذلك الشريك بالمساعدة في تطهير الأموال المحصلة من الجريمة والتي لم يكن ليقدم على ذلك السلوك وإتيان الجريمة في غالب الأمر إلا إذا وجدت تلك المساعدة ، ولذلك فإننا نرى أن الجاني في جريمة غسيل الأموال شريك بالتسبب في الجريمة الأولية المتحصل منها الأموال القذرة محل جريمة غسيل الأموال.

 

 تعقيب

        لا يقدح من ذلك ما قد يثور من خلاف في الرأي بأن من الجائز ارتكاب الجريمة الأولية وتحصيل الأموال القذرة والبحث فيما بعد عن الجاني في جريمة غسيل الأموال دون أن تكون هناك مشاركة إجرامية ، إلا أننا كما أوضحنا من قبل أن تلك الجريمة لا تباشر بصفة فردية فهي من صور الجريمة المنظمة تتم بمراحل سريعة متتابعة بصفة دورية ، ومن ثم تعد جريمة غسيل الأموال من إحدى مراحلها ، ونحبذ هنا النص المباشر في التشريعات لسد ذلك الجدل على النموذج الإجرامي لجريمة غسيل الأموال بالركن المادي والمعنوي ، فضلاً عن كونه شريكاً غير مباشر بالتسبب في الجريمة الأولية دون الحاجة إلى إثبات ذلك للحد من جريمة غسيل الأموال .

 

المطلب الثاني

إخفاء أشياء متحصله من جريمة

     إن جريمة إخفاء الأشياء المتحصله من جريمة ، هي ذات طابع يشبه على حد بعيد جريمة غسيل الأموال ، فهي وإن كانت جريمة مستقلة ، إلا إنها تأتي دائما أبدا كجريمة تابعة لجريمة أخرى حيث إن كليهما الإخفاء وغسيل الأموال تقع في محلها على اثر جريمة أخرى ونتيجة سلوكها ، فإذا كانا يشتركان في إحدى الخصائص التي تميز طبيعتهما ، إلا أن السؤال المطروح هنا ، هل تكيف جريمة غسيل الأموال على إنها جريمة إخفاء أشياء متحصله من جريمة ؟

       وللإجابة على هذا التساؤل يجب التعرف على جريمة إخفاء أشياء متحصله من جريمة  وتعرف تلك الجريمة بأنها حيازة أشياء متحصله من جريمة بصورة ظاهرة أو مستترة عالماً مع الجاني بأنه حصيلة وأثر لنشاط إجرامي واتجاه إرادته إلى الاحتفاظ بها .

        ونلاحظ في ذلك التعريف المقترح لنا ، أن جريمة الإخفاء لا تشترط قصد خاص باتجاه نية الجاني تجاه إخفاء متحصلات جريمة أخرى ، بل ورد التجريم والتأثيم على مجرد حيازة تلك المتحصلات مع العلم بأنها مخرجات سلوك إجرامي ، سواء كانت الحيازة بنية التملك والتصرف بها تصرف المالك أم بيد عارضة . وقد ذهب القضاء الفرنسي إلى التوسع في سلوك الركن المادي لتلك الجريمة بتحقق تلك الجريمة في مجرد صورة التوسط ولو لم يكن التوسط مصحوبا بالحيازة المادية للشيء [2] وكذلك مجرد قبول ذلك الشخص حيازة تلك المحصلات ولو لم يكن قد تسلمه بالفعل . وذلك على خلاف قضاء النقض المصري الذي اشترط لتحقق الجريمة إتيان سلوك من شأنه إدخال تلك المحصلات لحيازة الجاني ، وان توافرت الحيازة لدية دون علمه لا تتحقق الجريمة .[3]

      وبذلك فإن الركن المادي لجريمة الإخفاء تتحقق بسلوك ايجابي يتضمن حيازة متحصلات جريمة سابقة بغية الحيازة أو الإخفــاء أو التعامل عليها معاملة المالك دون اليد العارضــة  ويقع الركن المعنوي بتوافر علم الجاني بأنها متحصلات جريمة واتجاه إرادته إلى حيازتها. [4]

      وهنا محل جريمة الإخفاء لا ينحصر في المدلول المادي فقط بل يمكن أن يرد على ما له قيمة معنوية يمكن تقويمه بالمال ، ومن ثم يمكن تطبيق فكرة الحلول العيني الملاحقة جريمة غسيل الأموال [5] ولقد كانت علة الشارع في تأثيم ذلك النشاط الإجرامي هي :-

1-    التستر على الجريمة الأولية بالتستر على متحصلاتها .

2-    تشجيع الجناة بارتكاب الجريمة الأولية وانعدام الردع بها لزوال أثرها في صورة جريمة إخفاء نتاج تلك الجريمة .

3-    تلاحق الجريمة الأولية بنشاط إجرامي آخر يتمثل في سلوك إخفاء تلك المتحصلات وتداولها تجاريا.

4-  اقتراف الجاني في نشاط جريمة الإخفاء جريمة وسلوكاً آخر كتعدد معنوي للسلوك وهو جريمة عدم الإبلاغ عن الجريمة .

5-  صعوبة الكشف عن الجريمة من قبل السلطات المختصة للتداول السريع لمتحصلات الجرائم حيث تكون في الغالب من السلع المنقولة ذات اليسر في الإخفاء والتنقل بها وتداولها في يسر وسهولة والتعامل عليها .

تكييف جريمة غسيل الأموال:-

        وبتطبيق ما تقدم على جريمة غسيل الأموال من حيث التكييف يتبين لنا أن الجريمتين وان كانتا تتفقان في طبيعة الجرائم اللاحقة حيث لا يتصور ارتكابها دون ركن مفترض وهو سبق ارتكاب جريمة أخرى إلا أنهما تختلفان من حيث طبيعة السلوك والغاية التي تتحقق بالنتيجة وكذلك في الركن المعنوي ، وتظهر الفوارق بينهما في أن جريمة الإخفاء يقتصر السلوك بها على مجرد الحيازة أو الموافقة على الحيازة المادية والمعنوية لمتحصلات الجريمة أما جريمة غسيل الأموال فهو سلوك يتضمن الحيازة ونشاط إجرامي آخر هو غسيل تلك الأموال وتحريف مصدرها من مصدر غير مشروع إلى مصدر مشروع ، والفارق الثاني الجوهري يتمثل في أن جريمة الإخفاء قد تقع بالإهمال بحيازة أشياء متحصله من جريمة دون التحري عن مصدرها ولكن دون أن ترقى إلى مرحلة العمدية المشترطة في جريمة غسيل الأموال بإتيان نشاط إجرامي من شأنه حيازة متحصله الجريمة واتجاه الإرادة عن علم إلى تطهير تلك المتحصلات وإضفاء الشرعية عليها.

 

 

الخلاصة:

      نخلص من ذلك إلى أن جريمة غسل الأموال جريمة مستقلة بنشاط إجرامي خاص يتكون من أركان مادي ومعنوي . وإن كانت تفترض ركن هو سبق ارتكاب جريمة تكيف بأنه جريمة غسيل أمول ، ولا أدل على ذلك من اتجاه التشريعات كافة " القوانين الوضعية بين قانون خاص بها دون إلحاقها بقوانين العقوبات أو بإضافة فقرات إلى إحدى الجرائم المنصوص عليها في قوانين العقوبات وإن كانت في سلوكها المتضمنة لها نشاطها الإجرامي قد يتحدد تعدد معنوي حيث يشكل السلوك فضلاً عن جريمة غسل الأموال جريمة إخفاء أشياء متحصله من جريمة وكذلك جريمة الامتناع عن التبليغ عن الجرائم.

 


[1] . د. محمود نجيب حسني ـ شرح قانون العقوبات ( القسم العام ) ط الأولى ـ دار النهضة العربية ـ القاهرة ـ 1984 ، ص 411 .

ذ. مأمون محمد سلامه ، قانون العقوبات ( القسم العام ) ط الثالثة ـ دار الفكر العربي ، القاهرة 1983 ، ص:453.

وانظر كذلك : د. سليمان عبد المنعم ـ مسئولية المصرف الجنائية عن الأموال غير النظيفة ، دار الجامعة الجديدة للنشر ، 2002 ، ص : 47.

. 1. Jean larguier et Philip cinte , adroit penal eleu affaires . ge edition , mand colin,paris 1997 p. 217,219

[3] . طعن 1629 ـ سنة 12 ق ، جلسة 17/6/1957 ,

[4] . د. رؤوف عبيد ـ جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال ـ دار الفكر العربي ـ الطبعة الثانية 1985 ، ص : 633.

[5] . د. سليمان عبد المنعم ـ المرجع السابق ، ص 68.

انظر مؤلفنا حول جريمة غسيل الاموال كجريمة منظمة - دار العلوم 2010

  • Currently 126/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
43 تصويتات / 1868 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

56,942