دور التربيه فى معالجة مشكلات التخلف العربى
مقدمة:
شُغل المفكرون العرب منذ بداية عصر النهضة –في القرن التاسع عشر- حتى يومنا هذا، بالبحث عن مخرج حضاري يمثل حلاً للمشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية تنقلها من دوائر التخلف والجمود والتبعية إلى آفاق حضارية متقدمة، وما زال المفكرون يبحثون عن هذا المخرج عبر بناء مشاريع حضارية للأمة العربية تمكّنها من حل مشكلاتها وأزمتها الحضارية.
وإذا كانت العبرة بالخواتيم، وإذا كانت الأمور تقاس بنتائجها؛ فإنه لن يصعب على الملاحظين أن يكتشفوا بأن إنجازات تلك المشاريع الحضارية لم تحقق حلولاً جوهرية، كما أن الأهداف والطموحات قد باءت بالفشل بعد محاولات استمرت لما يقرب من قرنين من الزمان على بدء المفكرين العرب بالبحث عن مخرج حضاري يمكّن المجتمعات العربية من حل أزماتها الخانقة، وليس أدلَّ على ذلك من الانتكاسات الحضارية والتاريخية التي مُنيتْ وما زالت ترسف تحتها الأمة العربية، وما زال التخلف والجهل والتبعية شاهد عيان على فشل تلك المشلريع الفكرية العربية.
ويعود هذا الإخفاق من وجهة نظر الباحث إلى سببين رئيسين وهما:
أولاً: ركزت هذه المشاريع النهضوية على أولوية الجوانب السياسية والثقافية في حياة الأمة، ولم تستطع هذه المشاريع النهضوية أن تسجل حضورها المطلوب في نَسَق الأنظمة التربوية بمفاهيمها وتصوراتها الحضارية والنهضوية (وطفة، 2001). مع أن التاريخ يُعلّمنا بأن أي مشروع للتقدم والنهضة لا بد أن يكون مشروعاً تربوياً في الأصل، ومن هنا يقول أوبير (1967): "لا ثورة في الدولة إن لم تسبقها ثورة في التربية". كما يؤكد لوبرو (Lobrot) على أن الثورة التربوية تشكل شرطاً لازماً لكل ثورة مهما يكن شأنها (عبد الدايم، 1998).
أما التربية العربية فقد بقيت خارج دائرة المشاريع النهضوية، ولم تحظ بالاهتمام والعناية الكبيرة من قِبَل المنظّرين والمفكرين. وبتأثير هذه القطيعة بين التربية وفكر النهضة، بقيت أفكار النهضة وطموحاتها أسيرة النخب السياسية والصفوة الاجتماعية، التي لم تستطع أن تشكل وعياً جماهيرياً عاماً بقضايا النهضة ومفاهيمها. ومن هنا بقيت أفكار النهضة سجينة صفوة سياسية وفكرية ضيقة. ولم تستطع أن تجد في التربية وسيلتَها وغايتَها، إذ أن التربية وحدها هي التي تستطيع أن تجعل من المشروع الحضاري قوة نهضوية حقيقية متأصلة في عقول ووجدان الأجيال المتلاحقة (وطفة، 2001).
ثانياً: يفتقر الفكر التربوي العربي الإسلامي إلى المنهجية العلمية المدروسة، القائمة على إعادة تشكيل الخطاب الفكري والتربوي للأمة العربية الإسلامية. فمنذ عصر النهضة إلى يومنا هذا ما زال المفكرون المسلمون والعرب منغمسون في تحليل الخطاب التربوي العربي الإسلامي، وفي نقد هذا الخطاب، لكننا لم نجد من يعيد بناء الخطاب التربوي العربي الإسلامي، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى وجود المفكرين التربويين الرياديين في العالم العربي والإسلامي.
وكانت النتيجة بعد هذا كله، أن أصبحت المشاريع النهضوية والتنموية في العالم العربي جزءاً من بنية النمط الثقافي المتخلف، تدعمه وتعززه، فما جعل التربية تقف موقف المناهض للتنمية، إلى جانب نمط التخلف السائد... والتنمية بصراعها الحاد مع نمط التخلف –باعتبارها نمطاَ انتقالياً بديلاً- لن تقوى على حسم الصراع لصالحها؛ لأن التربية التي يفترض أن تتكامل وتتلازم معها، هي في موقف المناهض إلى جانب نمط التخلف السائد. وبالتالي فإن المشروعات النهضوية والتنموية أصبحت هي نفسها تخضع لنمط التخلف السائد في العالم العربي، ويتضح ذلك جلياً من خلال إدارة هذه المشروعات النهضوية بعقلية متخلفة، أي بعقلية لا تطورية، في إدارتها وحل المشكلات التي تعترضها، (اليوسف، 2000).
وبالتالي فإن هذا الانفصال الحاد بين الفكر التربوي العربي وبين التنمية، حيّد التربية وفرغها من جوهرها الفعال، مما ساعد على إفراز ظواهر الفراغ التربوي الذي يعاني في ظلها أفراد المجتمع العربي. فأصبح لزاماً على المشتغلين بالفكر التربوي العربي المعاصر أن يبحثوا في تحديد المشكلات الثقافية والتربوية العربية، خطوة أولى.. ومن ثم، التعرف علىجذور هذه المشكلات ضمن دوائر محايدة وبعيدة عن تأثرها بمظاهر وأنماط التخلف الثقافي والاجتماعي السائدة في المجتمع العربي، شريطة توفر الموضوعية والصدق في عملية البحث عن هذه العلل والأسباب. ولن يتم ذلك إلا بالبحث أولاً في الجذور المعرفية التي شكلت وصاغت المنظومة الفكرية والثقافية لهذه الأمة. والتي قامت بدورها بتشكيل هذه الأزمات الثقافية والتربوية، لأنه وكما يرى أصحاب الاتجاه المعرفي في علم النفس التربوي (Houtz,2002): فإن سلوك الانسان ما هو إلا انعكاس لبناه المعرفية، وأن حل المشكلات السلوكية لن يتم إلا بتعديل الاتجاهات المعرفية عنده.
واقع التخلف العربي:
تواجه المجتمعات العربية تحديات ثقافية وتربوية عديدة، يقف على قمتها التحدي المتمثل بعجز المجتمعات العربية عن تشكيل عقلية حضارية بالدرجة الأولى. فالعقلية العربية في مستواها العام، تعاني من تدهور تاريخي يدفعها إلى دائرة الأوهام والأساطير والتصورات المعطلة لنمو العقل والعلم والمعرفة العلمية. وليس خافياً على أحد أن تشكيل هذا الوعي يأتي في صلب الدور التاريخي للعملية التربوية بصيرورتها المتنوعة (وطفة، 2001). إن هذه الحقيقة ليست مجرد ادعاء، بل هي حقيقة تثبتها المؤشرات العلمية.
فقد جاء في تقرير التنمية البشرية (2000)، أن معدل معرفة القراءة والكتابة بين البالغين
–لمن تبلغ أعمارهم 15 سنة أو أكثر- في مجمل الدول العربية قد بلغت نسبتهم عام 1998
(59.7%) أما تفصيلياً فقد بلغت هذه النسبة لنفس العام على النحو التالي:
الكويت 80.9%، البحرين 86.5%، قطر 80.4%، الإمارات العربية المتحدة 74.6%، الجماهيرية العربية الليبية 78.1%، المملكة العربية السعودية 75.2%، لبنان 85.1%، عُمان 68.8%، تونس68.7%، سوريا72.7%، مصر53.7%، المغرب47.1%، العراق 53.7%، جزر القمر58.5%، السودان55.7%، موريتانيا 41.2%، اليمن 44.1%، جيبوتي 62.3%. وهذه نسبة منخفضة جداً، إذ أن مجمل معدل معرفة القراءة والكتابة لنفس الشريحة قد بلغت 72.7% في مجموع الدول النامية. وعلى الرغم من تحسن هذه النسبة في الأعوام الأخيرة إلا أنها ما زالت منخفضة مقارنة بنسبة مجموع الدول النامية، فقد جاء في تقرير التنمية البشرية (2004)، أن معدل معرفة القراءة والكتابة لمن تبلغ نسبتهم 15 سنة فأكثر في مجمل الدول العربية 63.3%، وذلك لعام 2002.
هذه هي إحدى مؤشرات التخلف في العالم العربي، وهو فيما يتعلق بمعرفة البالغين للقراءة والكتابة. كما أن الاستفادة من القدرات البشرية في العالم العربي ضعيف نسبياً، ويتجلى قصور القدرات الإنسانية بأخطر ما يكون في عصر كثافة المعرفة في قصور اكتساب المعرفة، ناهيك عن إنتاجها، نسبة إلى الدخل في البلدان العربية، وليس أول على قصور التحصيل التعليمي في البلدان العربية في ارتفاع منسوب تفشي الأمية فيها عن نظيراتها في البلدان الصاعدة في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، وانخفاض معدلات الالتحاق بالتعليم، خاصة العالي، عن متوسط البلدان النامية. وتحتل المنطقة العربية بين مناطق العالم الأخرى أدنى مستوى من الوصول غلى تقانات المعلومات والاتصالات، حتى أنها أقل من افريقيا جنوب الصحراء (تقرير التنمية الانسانية العربية، 2002).
وفي ميدان آخر من ميادين الكشف عن التخلف الحضاري العربي، والعقلية العربية في مستواها العام، نجد أن هناك نقصاً واضحاً في تمكين المرأة العربية، إذ تأتي المنطقة العربية في المرتبة قبل الأخيرة بين مناطق العالم، حسب مقياس تمكين المرأة المعتمد من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ولم تقل عنها إلا افريقيا جنوب الصحراء، ويعود تدني القيم على مقياس تمكين المرأة في البلدان العربية إلى محدودية مشاركة المرأة في المنظمات السياسية (تقرير التنمية الإنسانية العربية، 2002).
ومن مؤشرات ضعف تمكين المرأة في البلدان العربية ارتفاع نسبة الأمية عندها مقارنة بالذكور، إذ بلغت نسبة أمية المرأة العربية 58% عام 1995، مقارنة بـ 31% عند الذكور في نفس العام (اليونسكو، 1998).
أما في مجال الترجمة، فيذكر علي (2001)، بأن إجمالي ما يترجمه العالم العربي سنوياً هو في حدود 300 كتاب، وهذا هو أقل من خمس ما تترجمه اليونان. والإجمالي التراكمي لكل ما ترجمناه منذ عصر المأمون إلى الآن، في حدود عشرة آلاف كتاب، وهو يساوي ما تترجمه إسبانيا حالياً في عام واحد.. ناهيك عن مظاهر التخلف في الميادين الفنية والأدبية والإنتاج المعرفي والتكنولوجي... الخ. ناهيك عن ضعف مخرجات العالم العربي للبحوث العلمية (تقرير التنمية الانسانية العربية، 2002).
آليات الحل:
وانطلاقاً من هذا الواقع المتخلف، والواقع الحضاري والثقافي والتربوي المؤلم، تولدت مشكلة الدراسة عند الباحث، وذلك ليس من أجل وصف هذا الواقع واستعراضه، ولكن لأجل وضع الحلول الملائمة لهذه المشكلات التربوية والثقافية العربية المعاصرة.
إن رفض التغيير، وفشل البرامج التنموية والنهضوية في العالم العربي يعني أن هناك مشكلة في أحد الاتجاهين التاليين:
الأول: أن المشكلة تكمن في هذه البرامج وتلك المشروعات التنموية، على اعتبار أنها لم تفهم الواقع العربي تمام الفهم، ولم توضع الخطط والبرامج المتوافقة مع الاحتياجات التي يتطلبها الواقع العربي، إما عجزاً في فهم هذا الواقع، وإما لأن تلك الحلول جاءت مستوردة من الخارج فهي لا تتناسب مع متطلبات الواقع العربي.
ولاعتقاد الباحث بان هناك مشكلة ابستمولوجية تقف وراء هذه المشكلات، فإنه يجد أن بحث هذا الموضوع من هذه الزاوية قد يكون هو الأجدى، توفيراً للجهد والوقت، على اعتبار أن هذه المشكلة لم تبحث أصلاً من هذه الزاوية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تسليط الضوء على التراث المعرفي الذي شكل وعي هذه الأمة عبر قرون طويلة من الزمن، سيكشف لنا عن الأسباب الكامنة وراء تكوينها، والوقوف عاجزين عن حلها. من هنا فكرة هذه الدراسة التي تهدف إلى التعرف على الجذور المعرفية في الفكر الإسلامي التي أدت بدورها إلى تكوين تلك المشكلات التربوية والثقافية العربية المعاصرة.
الثاني: إذا لم تكن المشكلة في تلك البرامج والمشروعات، فإن المشكلة تكمن في الواقع الثقافي العربي نفسه، وفي البنية المعرفية التي تشكل الرموز الثقافية العربية، في كافة جوانب الثقافة العربية وميادينها، وهو ما تتناقله الأجيال عبر وسيط يؤدي إلى عملية التكامل الثقافي Cultural Integration، وهو التربية، فيما يعرف بعملية التنشئة الاجتماعية. وإذا كانت المشكلة تكمن في هذا الاتجاه فإن ذلك يعطينا مؤشراً على وجود خلل يعيق عملية الإصلاح والتنمية، ويبقى الأمة العربية في حالة من الجمود والثبات والتخلف، وهذا الخلل يكمن في النمط الثقافي العربي نفسه.
تقدم بنديكت Ruth Benedict تعريفاً للنمط الثقافي على أنه "المركز أو المحور الذي تدور حوله الثقافة بكافة مكوناتها ومحتوياتها" (الرشدان، 1999، ص 239).
فإذا كانت الابستمولوجيا هي المكوّن الأساسي لهذا النمط الثقافي الذي تشكل عبر أجيال طويلة، وإذا كانت التربية هي الناقفة له والمكرسة لمضمونه عبر مئات السنين، فإن الحاجة تدعونا إلى البحث في الجذور المعرفية التي أسهمت في تشكيل هذا النمط الثقافي العربي، الذي عمل بدوره على تكريس حالة الجمود وإعاقة التقدم واللحاق بالركب الحضاري العالمي، في مجتمعاتنا العربية المعاصرة