"اللهم أنت ربّي لا إله إلا أنت، خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ و أبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"
روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سيد الاستغفار أن يقول (اللهم أنت ربى لا اله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت.. أعوذ بك من شر ما صنعت.. أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي.. فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسى فهو من أهل الجنة.. ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.. وفى لفظ له: (من قالها حين يمسى فمات من ليلته دخل الجنة.. ومن قالها حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة)؟
(اللهم) أي يا الله حذف منها ياء النداء وعوض عنها بالميم المشددة.
(وأنا عبدك) يجوز أن تكون مؤكدة لقولك أنت ربي.. ويجوز أن تكون مقررة لإقرار جديد أي أنا عابد لك ويؤيده عطف قوله:
( وأنا على عهدك) أي أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك أو:
أنا مقيم على ما عهدت إلي وأمرتني من أمرك ومتمسك به ومؤمن وواثق وراج وعدك في الثواب والأجر والرضا والجنة.
واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه: الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه سبحانه.
(أبوء لك بنعمتك على) معناه اعترف.
(وأبوء بذنبي): أعترف أيضا وقيل معناه :أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عنى (فتح الباري جـ11 ص 114).
لماذا سمي بسيد الاستغفار؟ قيل لأنه جامع لمعاني التوبة.
وقيل وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد الاستغفار لأنه قد فاق سائر صيغ الاستغفار في الفضيلة وعلا عليها في الرتبة.. فهو جامع لمعان غزيرة وعظيمة.
(أنت ربى) ليس لي رب سواك والرب هو المالك الخالق الرازق المدبر لشئون خلقه.. فهذا اعتراف بتوحيد الربوبية.
(لا اله إلا أنت) لا معبود بحق سواك فأضاف توحيد العبودية.
(وأنا على عهدك وعدك ما استطعت) أي وأنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك والقيام بطاعتك وامتثال أوامرك ما استطعت.. أي على قدر استطاعتي.
(أعوذ بك من شر ما صنعت) ألتجئ إليك يا الله واعتصم بك من شر الذي صنعته في نفسي بيدي ولم يصنعه غيري
(أبوء لك بنعمتك على) أعترف بعظيم إنعامك على وترادف فضلك وإحسانك.
وفى ضمن ذلك شكر المنعم سبحانه والتبري من كفران النعم.
قال ابن القيم فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له.. والاعتراف بالعبودية المتضمنة للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه.
ثم قال (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه.. وهو عهده الذي عهده إلى الإيمان والاحتساب.
ثم لما علم أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه الذي يصلح له تعالى..علق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعداها فقال (ما استطعت).. أي التزام ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي.. ثم شهد المشهدين المذكورين- وهما مشهد القدرة والقوة (من الله) ومشهد التقصير من نفسه فقال (أعوذ بك من شر ما صنعت) فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معا.
ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتدى بها والذنب إلى نفسه وعمله فقال (أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي) فأنت المحمود والمشكور الذي له الثناء كله والإحسان كله ومنة النعم كلها.. فلك الحمد كله ولك الثناء كله ولك الفضل كله وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه.
قال بعض العارفين: العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله ومطالعة عيب النفس والعمل.. فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناء عليه، ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه سبحانه.. ثم لما قام هذا بقلب الداعي وتوسل إليه بهذه الوسائل قال (فاغفر لي فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت) طريق الهجرتين ص 164
ـــــــــــــــــ
وفى هذا الاستغفار معان عظيمة وكثيرة منها:-
أن العبد بعد أن أجرم الجرم وارتكب الذنب وخالف مولاه.. هاهو يلجا إلى من عصى أمره وخالف أوامره وارتكب في حقه الجريمة.
فمن خاف من غير الله هرب منه ومن خاف من الله هرب إليه.. فالله تعالى يتولى عبده في كل أحواله في حال طاعته وفى حال معصيته كذلك.
ومنها أن الإنسان حين يرتكب الذنب يطيع هواه وشهوته.. ويقضى لذة وطلبا من مطالب النفس.. وربما كان مسرورا وقت وصوله للذنب وحصوله عليه.
ولكن ها هو الآن يعود فيصف الذنب بأنه ثقل يرهق كاهله ويضيق بحمله وملازمته إياه.. فيبحث عن من يخلصه منه.. فلا يجد إلا ربه ومولاه.. فها هو يستجير به ويستغيث راجيا ذليلا حتى يعافيه الله من عواقب هذا الوزر.
إن الذنب عار والمؤمن يلجأ إلى وليه سبحانه ليمحو عنه هذا العار الذي يلاحقه, والذنب نار ولكن لا يشعر بها العبد وهو في سكرة المعصية.. وعندما يفيق لا يجد إلا ربه يتوجه إليه ليطفئ ناره التي أشعلها في نفسه بيده.
وفى سيد الاستغفار إصلاح وعلاج لكل الدمار والآثار التي أحدثتها المعصية.. فهو يعيد بناء ما أنهدم من الإيمان.. ففي الحديث (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) بل لحظة ارتكابه للمخالفة يكون قد غابت عن قلبه بعض حقائق الإيمان أو ضعفت إلى درجة لا تقوى على رد الشهوة.
فها هو المؤمن يعود فيعترف لربه بأنه ما ارتكب السيئة كفرانا بربوبيته ولا خروجا من عبوديته ولا جحودا لنعمته فهو مؤمن مقر بأنه هو ربه وهو إلهه الذي لا إله إلا هو, هو الإله الحق الذي لا يحق أن يعبد إلا هو سبحانه.. وهو عبد له ولا يزال على عهده بأن يطيعه راجيا جنته.
إنه يشهد على نفسه أنه تورط في خطيئة.. لكن ذلك من غفلته وجهله ورعونته وحماقته وليس تمردا على خالقه وعلى من أنعم عليه سبحانه.
ومنها أن الشيطان لا يزال يغوى الإنسان ويستدرجه ويزين له المعصية إلى أن يسقط فيها.. وعندئذ يفرح الشيطان بانتصاره عليه وبإبعاده عن ربه وبقربه منه ومن استيلائه عليه وسيطرته على إرادته وأفعاله.
ولكن ها هو العبد يعود فيغيظ الشيطان باستغفاره هذا الذي يندم فيه ويتراجع عن تلك الخطوة الخاطئة فلا يبقى للشيطان فرحا ولا مرحا.
فائدة أن يبدأ العبد يومه وليلته بالاستغفار.. مع أن الاستغفار مشروع في كل وقت: إن ابتداء اليوم بالاستغفار فتح صفحة جديدة بمحو ما سبق من الذنوب.. وعندما يبدأ الإنسان صفحة بيضاء نقية فإنه سيحاول أن يحافظ عليها نقية فلا يقترف ذنوبا جديدة.
فائدة ثانية أنه تجديد لمعاني هذا الذكر على القلب من أول اليوم وكذلك الليلة لاحتياج القلب إليها في هذا الوقت بالذات.
ساحة النقاش