داخل كل مهنة تجد كثيرا من المخلصين الكرام الذين يؤمنون بأن مهنتهم هذه رسالة ويؤدون رسالتهم هذه بكل اخلاص وتجرد لله وتفانٍ من أجل اتمام رسالتهم السامية
هؤلاء الكرام يعتمدون في ضمائرهم على قيم ومباديء ومفاهيم راقية تحببهم في مهنتهم فيتفانون في عملهم مستمتعين بهذا التفاني رغم أنه يحرمهم من كثير من الملذات التي يتمتع بها غيرهم
والحقيقة ليس هناك شيء يريح الانسان مثل حبه لمهنته التي يخلص فيها لله ويعتبرها سلما يرقى به الى مرضاة الله وبالتالي يجد أثار ذلك في الدنيا في نفسه وأولاده والبركة في بيته ورزقه هذا قبل ثواب الآخرة ( والآخرة خير وأبقى) )
غير انك لابد وعلى العكس تماما تجد ولو قلة قليلة تعكر صفو هذه المهنة.
المشكلة في هؤلاء ليس تقاعسهم عن أداء رسالتهم وأمانتهم وإنما فيما ينشرونه في هذه الأوساط الراقية من اتجاهات محبطة ومفاهيم سلبية تسمم هذه الرسالة السامية والمناخ الذي يعمل فيه صاحبها.
.. مشكلة هذه المفاهيم أن كثيرا منها يعتمد على مقدمات صحيحة تبدو منطقية تماما لكن النتائج التي يصلون اليها اذا دققت فيها وجدتها مثالا على عمل الشيطان القاعد للمؤمن بالمرصاد كلما أراد أن يقوم الى عمل صالح أقعده مستخدما بعض الشبهات والمبررات للتخاذل والنكوص
والمشكلة كذلك ليست في التقاعس عن العمل فكثير من المخلصين لن يتأثروا فيتركوا مهامهم بل غالبا ما يتحملون هم ويسدون الثغرات والخلل الذي يخلفه هؤلاء
وانما المشكلة الأكبر في تسميم مناخ العمل بهذه الأفكار البغيضة التي تبرر إخلالهم بمهنتهم وحنثهم في القسم الذي أقسموه قبل تقلد مهام وظيفتهم.
خذ مثالا مهنة التعليم
في كل مدرسة كثير من المعلمين المحبين لعملهم يعتبرونه رسالة سامية ..يحبون تلاميذهم يحترمون مواعيدهم وجداولهم يتعاونون مع إدراتهم في اتمام العمل رغم مابها من قصور
غير أنك لابد أن تجد قلة قليلة تنشر وتروج في هذا الوسط مبررات مثل:
ـ الطلاب لايستحقون،
ـ ومهما فعلت معهم لاجدوى من تعليمهم،
وأولياء الأمور .....
وينسجون قصصا ونوادر يكررونها كل يوم موجودة بالفعل لكنها ليست الأصل بالتأكيد بل هي الاستثناء.
والمرتب ضعيف ،و......
والزملاء غير متعاونين،و.....
والادارة فاشلة ,.......
ومنظومة التعليم من الأساس كذا وكذا
انهم يتخذون من مشكلات التعليم ومعوقاته مبررات لتحطيم معنويات زملائهم المجتهدين
بعض المعلمين يعتبون على المجتهدين : لماذا تتعبون أنفسكم مع طلبة لايستحقون؟
أحد الموجهين لم يدخل معي الفصل ليقيم أدائي أو ينفعني بتوجيه أو يساعدني في حل مشكلة !واكتفى بمراجعة الأوراق قائلا: (الطالب تعلم او لم يتعلم انشا الله عنه ماتعلم" !! المهم الورق يكون سليم)
وعندما نظرت اليه مستغربا قال مبررا : "حكومتك حكومة ورق"
مقدمة تبدو واقعية لكن هناك من الموجهين من تمثل زيارته جرعة مفيدة من التوجيه والدعم النفسي والنصائح والمساعدة لدى ادارة المدرسة وحل مشكلة وهؤلاء يتعبون لكنهم يحظون بالحب والاحترام والأهم من ذلك يشعرون براحة الضمير
هذا المثال في التعليم موجود في كل مهنة من الأفكار والمفاهيم التي تسمم مناخ المهنة وتعكر صفوها فيتأثر المخلصون فيها بدخان من هذه المفاهيم أقل تأثير فيه هو مرارة يشعرونها في صدورهم حيث يصبحون قي صراع نفسي بين قيمهم ومبادئهم وبين هذه الجرعات اليومية من الأفكار التي ربما يدعمها الواقع لكي تزعزع في النهاية من ثبات المؤمن برسالته على قيمه ومبادئه
فاذا أضفنا الى ذلك أن بعض هؤلاء يتمتعون بقدر كبير من الوصولية والنفاق الذي يؤهلهم للوصول الى المناصب ..وهذا من الفتن والامتحانات العسيرة التي يواجهها المخلصون اذ يرون الكسالى عديمي الضمير كأنهم يكافؤن على كل ماهم فيه من خيانة للأمانة
ولذا فإني أذكِّر كل مؤمن في مهنته (فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) أن يجدد إيمانه باستمرار:
ـ بأن الذي يعامله هو الله وحده والذي يراقبه والذي يجزيه ويكافئه هو الله وحده وهذا يقين يحتاج الى تجديد وتزويد دائم بالطاعات والعمل الصالح خصوصا بالصلاة وتعظيمها وذكر الله تعالى
وأن الله لايضيع أجر المحسنين) ، (وماكان الله ليضيع إيمانكم)
ـ أن الله تعالى هو الذي وضعه في هذا المكان وهذه المكانة فعليه أن يرضى بقدر الله وعليه أن يغتنمها للآخرة
ـ أنه عبد لله تعالى فعليه أن يتعبد لله في كل حال وأن يعرف حق ربه عليه في هذا الحال ومايحبه الله منه ويرضيه ومايبغضه ويسخطه
ـ يتذكر أن الجزاء من جنس العمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم:
(من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ،
ومن يسّر على معسر ، يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ،
ومن ستر مؤمنا ستره الله في الدنيا والآخرة ،
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ،
ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له به طريقا إلى الجنة)
ـ أن ثبات المؤمن يحتاج دائما الى مجاهدة نفس والجنة ربوة بربوة والنار سهل بسهل وحجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات
ـ أن الشيطان يحسد المؤمن كما يحسده شياطين الانس وكلما رآه موفقا في عمله اخترع له ما يسمم عليه هذا العمل ويشتت عليه أفكاره ويفقده لذة العمل الصالح وأداء الرسالة
ـ أن هذا نموذج من الامتحان في التخيير بين الايمان بالغيب أي بالله تعالى ووعده وجزائه وجنته وناره وان الدنيا ليست دار جزاء وانما
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) سورة الشورى 20
أسأل الله أن يوفق كل صاحب رسالة في أداء رسالته وأمانته ويتقبل منه
<!--
ساحة النقاش