عرفت العلاقات الانجليزية-الفرنسية مساراً متعرجاً بين الدولتين الكبيرتين على ضفاف بحر المانش. الباحث البريطاني «جون غافناي» جعل من الحياة السياسية الفرنسية موضوع اهتمام رئيسي في عمله.

وبعد أن كرّس عدة دراسات لفرنسا وتاريخها السياسي المعاصر وعلاقاتها الأوروبية يكرّس آخر كتبه لـ «الزعامة السياسية في فرنسا» وذلك تحديدا في ظل الجمهورية الخامسة أي منذ رئاسة الجنرال شارل ديغول وحتى الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب.الجمهورية الفرنسية الخامسة أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958 بعد عودته إلى السلطة واشتراطه لقبول ذلك إجراء تغيير دستوري جوهري ينهي فيه الجمهورية الرابعة ويؤسس لجمهورية خامسة يكون فيها لرئيس الجمهورية صلاحيات كبيرة بحيث أن المؤلف يطلق عليها صفة نظام «شبه رئاسي». إنها جمهورية صاغ الجنرال دستورها «على قياسه».

هذه الجمهورية عرفت حتى الآن خمسة رؤساء جمهورية، أربعة منهم ينتمون إلى الإرث الديغولي ورئيس اشتراكي واحد هو فرانسوا ميتران الذي حكم خلال سنوات 1981-1995. ومؤلف هذا الكتاب يتابع مسيرة «التبدلات» التي عرفتها السياسة الفرنسية خلال الخمسين سنة الأخيرة.

التبدّل السياسي الجوهري الأول يتم تحديده مع وصول الجنرال ديغول إلى السلطة في ظروف استثنائية أعقبت محاولة «انقلاب عسكري» وأزمة كبيرة في شهر مايو-أيار من عام 1958.

دُعي إثر ذلك الجنرال للعودة إلى السلطة كرئيس للحكومة ثم كرئيس للجمهورية بعد موافقة الفرنسيين على الدستور الجديد بنسبة تزيد عن 81 بالمئة من أصوات المقترعين في الاستثناء العام.

وهو الدستور المسمى غالبا بـ «دستور الجمهورية الخامسة». لقد كان ذلك بمثابة إرساء أسس الحقبة الديغولية ابتداء من عام 1958، وحيث يكرس المؤلف الفصل الأول من الكتاب لهذه الحقبة «التأسيسية».

أما الحقبة الديغولية الصرفة، حقبة وجود الجنرال على رأس السلطة المحددة بفترة 1958-1968 فقد تميّزت بـ «تثبيت أركان الجمهورية الخامسة وتطورها»، كما جاء في عنوان الفصل المكرّس لها. وكان التبدّل الأساسي فيها قياسا بما سبقها، أي «الجمهورية الرابعة»، هو أنه أصبح لدى رئيس الجمهورية «الزعامة السياسية» الفعلية إذا امتلك سلطة قرار حقيقية.

وكان قد جرى انتخابه للمرة الأولى عن طريق جسد انتخابي لـ «كبار الناخبين»، أي نحو 80000 ناخب، ثم عن طريق الاقتراع العام المباشر اعتبارا من عام 1962.

السمة الأساسية التي يؤكدها المؤلف في السياسة التي انتهجها الجنرال شارل ديغول هي حرصه على الاستقلال السياسي والعسكري لفرنسا. وكانت الترجمة لمثل هذه النهج هي في قراره سحب بلاده من البنية العسكرية للحلف الأطلسي عام 1966 وتأكيده الاستقلالية عن الحليف الأميركي.

وتأكيد الجنرال أيضاً ضرورة المصالحة الفرنسية-الألمانية وبحيث يلعب البلدان دوراً أساسياً في مشروع البناء الأوروبي الموحّد. وبالتوازي مع هذا كله حرص الجنرال ديغول على امتلاك فرنسا لـ «ترسانة نووية مكرّسة للردع». ومن المسائل الأساسية التي أرسى الجنرال شارل ديغول أسسها في نهجه هناك الانفتاح على البلدان الشيوعية وعلى بلدان العالم الثالث.

ويحظى عام 1968 بفصل خاص في الكتاب. ذلك على أساس أن الإضرابات التي قام بها الطلبة والتحق بهم العمال فيما بعد خلال شهرمايو ـ أيار 1968 تشكل أحد المنعطفات السياسية، وليس الاجتماعية فقط.

ذلك أنها كانت بداية انحسار شعبية الجنرال وبداية انحدار سلطته وصولا إلى تخليه عنها في عام 1969 بعد أن فشل مشروع تعديل دستوري أراده الجنرال في الحصول على أغلبية أصوات الفرنسيين عندما طرحه لهم للاستفتاء.

وتحت عنوان: «1969-1974، الديغولية بدون ديغول» يكرّس المؤلف فصلا لفترة حكم جورج بومبيدو والتي شكّلت استمرار لسياسة الجنرال. وقد كانت «الأولوية السياسية» خلال تلك الفترة هي المثابرة النشيطة في المفاوضات الأوروبية. وكانت فترة حكم جورج بومبيدو متركّزة أساسا بالتأكيد على الجانب الاقتصادي، حيث عرفت البلاد ازدهاراً اقتصادياً مشهوداً، ولكن «تضاءلت إلى حد كبير طموحاتها السياسية».

وفصل آخر في الكتاب عن فترة حكم فاليري جسكار ديستان تحت عنوان: «1974-1981، سنوات جسكار». أما فترة رئاسة فرانسوا ميتران «الاشتراكي» فيقسمها المؤلف إلى مرحلتين، مرحلة لكل فترة رئاسية. الأولى عرفت الانتقال من «الجمهورية الاجتماعية إلى الجمهورية الفرنسية»، كما جاء في عنوان الفصل المكرّس لها.

وكان ميتران هو الرئيس الأول الذي جرى انتخابه مرتين متتاليتين في الجمهورية الخامسة قبل جاك شيراك. وكانت فترة ميتران قد شهدت تأكيد دور فرنسا في البناء الأوروبي عبر توقيع اتفاقية مستريشت واتفاقية امستردام حول الوحدة الاقتصادية والنقدية، وذلك على حساب أوروبا الاجتماعية، التي كان يُفترض من فرانسوا ميتران، الاشتراكي، حمايتها.

وكان الانتقال إلى «اليورو» كعملة أوروبا موحّدة قد جرى في عهد جاك شيراك عام 2002. ويصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أنه في ظل جميع الإدارات أثبتت فرنسا موقعها على الصعيد العالمي، خاصة في ميدان بيع الأسلحة حيث احتلّت المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية. ولم تعد فرنسا إلى البنى العسكرية للحلف الأطلسي سوى في عهد الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، موضوع الفصل الأخير من الكتاب.

الكتاب: الزعامة السياسية في فرنسا

تأليف: جون غافناي

الناشر: بلغراف مكميلان لندن 2010

الصفحات: 256 صفحة

القطع : المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 266/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
89 تصويتات / 860 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

66,110