اختصّ الباحث والأستاذ الجامعي الأميركي «ايد هيرش الابن» بدراسة النظام التربوي في بلاده خاصة والمسائل الثقافية والمعرفية عامة. وهو يعود في كتابه الأخير «صناعة الأميركيين» إلى مناقشة موضوع التربية من جديد.

ما يؤكد عليه المؤلف هو أن النظام التربوي الأميركي بحاجة إلى إصلاح حقيقي وبنيوي. ومثل هذه المقولة لم تكن غائبة عن مجمل أعماله. تتمثل إحدى الأفكار الأساسية التي يقدّمها بالقول انه على جميع المدارس تعليم برنامج أساسي يحتوي على معلومات ينبغي على كل مواطن معرفتها بدقة. ذلك كشرط لا بد منه من أجل المساهمة في الحياة الثقافية العامة «الوطنية».

المعلومات المقصودة هي ذات طبيعة عامة أيضا كضرورة معرفة ماذا يعني تعبير «عقب أخيل» ومن هو صاحب المقولة الشهيرة «نكون أو لا نكون» وما إلى هناك من معلومات عامّة.

كذلك يؤكد ايد هيرش في تحليلاته على القول بضرورة تعميم المعارف، «ديمقراطيتها» في ميدان التعليم، خاصة في مدارس الأطفال حيث تتم «صناعة» أميركيي المستقبل، كما يوحي أصلا عنوان الكتاب نفسه.

ويرى أن أي إصلاح حقيقي للتربية يتطلب بالضرورة طرح الأسئلة الجوهرية من نوع: لماذا لا تزال المدرسة - مصنع الوعي- تثير الكثير من خيبة الأمل رغم عقود طويلة من تشكيل اللجان وخطط الإصلاح وجهود التجديد؟

إن المؤلف يحدد في أطروحاته عددا من المشاكل التي يعتبرها جوهرية ولا يمكن تجنبها إذا كان يراد القيام بإصلاح تربوي حقيقي. ويحدد القول ان المشكلة الأساسية بالنسبة للتربية والتعليم في الولايات المتحدة الأميركية تكمن في كون أن المنظّرين التربويين والمسؤولين عن وضع البرامج، خاصة بالنسبة للمدارس الابتدائية، قد رفضوا منذ حوالي ستة عقود من الزمن أن يُدرجوا في تعليم الأطفال مجموعة من المعلومات «ذات الطابع الأكاديمي».

ومشكلة كبيرة أخرى يؤكد عليها المؤلف في المنظومة التربوية الأميركية تتمثل في «عدم المساواة أمام التعليم».

ذلك أن المدارس لا تخدم في إزالة الفوارق الاجتماعية، بل تساهم بالأحرى في زيادتها. وما يتم التأكيد عليه في هذا السياق هو أن طرق التعليم المتبعة تصب بالأحرى في مصلحة أبناء الشرائح الميسورة من المجتمع الأميركي.

ويذهب ايد هيرش إلى القول ان وجود برامج موحّدة غنية بالمعلومات التي توسّع أفق الذين يتلقونها وتتدرّج من مرتبة إلى أخرى في المدارس الابتدائية للمنظومة التعليمية الأميركية يمكنها أن تساهم بشكل جدي وفعّال في تحقيق أحد الأحلام الأكثر قدما وعراقة وترسخا في الأذهان.

الحلم الذي يقصده هو منح جميع الأطفال، بعيدا عن اللغة والدين والأصل، إمكانية المشاركة بالتساوي ودون تمييز في بناء البلاد وأن يصبحوا مواطنين من أصحاب الكفاءة. اللافت للانتباه وهو أن المؤلف لا يكتفي برفع الشعارات ولكنه يقترح المخططات التي يرى أنها قد تؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة.

المطلوب إذن وأولا هو تبني برنامج تعليمي «وطني» يتم تدريسه في جميع الولايات الأميركية دون استثناء بعيدا عن الاعتبارات التي تتردد في النقاشات والخاصة باللغة، فيما يتعلق أساسا بالناطقين باللغة الاسبانية من أبناء المهاجرين القادمين من بلدان أميركا اللاتينية، وخاصة من المكسيك المجاورة.

هذا البرنامج التعليمي المشترك، الذي يدافع عنه المؤلف بحماس، هو الذي يمكنه أن يقدّم الحلول الضرورية للتخلص من المستوى المتدنّي الذي يعاني منه الدارسون الأميركيون ومواجهة ما يطلق عليه المؤلف «إفلاس المعرفة» وصولا إلى أن «التلامذة في نهاية المرحلة الابتدائية لا يحسنون حتى القراءة الصحيحة».

ويشرح المؤلف في هذا السياق كيف أن «إفلاس المعرفة» يمسّ مباشرة الدور الذي ينبغي للمدرسة أن تقوم فيه وليس أقل أهدافه «تطوير جمهور متعلّم» عبر تبنّي سياسة تعليمية «متناسقة».

إن أحد المشارب التي تتردد في هذا الكتاب يكمن في الربط بين التربية والديمقراطية والتأكيد على العلاقة العضوية بينهما. وبالتالي يصل إلى نتيجة مفادها أن إجراء إصلاح حقيقي على المنظومة التربوية عبر توحيد نقطة انطلاقها من برنامج موحد مشترك على المستوى الوطني الأميركي كله إنما هو بنفس الوقت تعميق للديمقراطية الأميركية وتأكيد لمبدأ المساواة بين جميع المواطنين. وفي الوضع الحالي يؤكد المؤلف أنه لا يتم «الترحيب» بالجمهور الأميركي في قاعات الدرس.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه المؤلف على الأهمية المركزية لتبنّي برنامج موحّد، فإنه يؤكد أيضا على ضرورة أن يكون «ذا طبيعة نقدية». وهو ينقل عن رسالة كتبها أحد المدرسين لنيويورك تايمز ما مفاده: «ينبغي أن تركّز المدرسة على تعليم الفكر النقدي».

ويعلّق المؤلف: «هنا تكمن المشكلة». ثم يؤكد أن «اللبرالية» في السياسة لا تلغي إمكانية التمسّك ب«النزعة المحافظة» فيما يتعلق بصيانة المعرفة من «العبث». والتأكيد على هذه «النزعة المحافظة» عندما تعني ضرورة أن يعرف الطالب الإعدادي عدم الخلط بين النمسا وأستراليا، بسبب التشابه في كتابة اسميهما باللغة الانجليزية، وأن يعرف الطالب الثانوي من هم باخ وبتهوفن وبراهمز.

القليل، بل الندرة، من الطلبة الأميركيين يصلون إلى هذه المعارف، كما يؤكد المؤلف ويضيف أن الآباء المؤسسين لأميركا من جورج واشنطن إلى ابراهام لنكولن كانوا حريصين على امتلاك المعارف الأساسية في القراءة والكتابة الحساب والمعارف العامة والمعلومات الخاصة بعالمهم وبأمتهم وبدولتهم.

الكتاب: صناعة الأميركيين

تأليف: ايد هيرش الابن

الناشر: جامعة يال 2009

الصفحات: 261 صفحة

القطع: المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 99/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
32 تصويتات / 490 مشاهدة
نشرت فى 13 مايو 2010 بواسطة books

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,791