يعي.. معزوفة وطن ما زال جريحاً

إبراهيم محمد إبراهيم

القاهرة

إني أجد نفسي في ظرف صعب حين أحاول الكتابة عن عمار الشريعي. ومبعث هذه الصعوبة هو أني لست من كتّاب المقال، إذ آليت على نفسي التركيز على النشاط الفكري الذي تخصصت فيه وهو الترجمة. وثانياً، لأني لا أريد أن أنخرط في الكتابة عن صديق دامت صداقتي له على مدى 53 سنة منذ عام 1959 لأن ما يمكن أن أكتبه قد يتحول إلى مرثية.

وعلى أي حال، كي أتجنب أن أكتب تأبيناً أو ما يشبه المرثية فسوف أحاول قدر الطاقة في هذا الظرف العصيب أن أكتب عن تطوره الموسيقي الذي عايشته من البداية إلى النهاية كإبداعات جديدة فأعماله لا أشك لحظة في أنها ستبقى على مدى الأجيال.

ولد عمار الشريعي في مدينة سملوط بمحافظة المنيا في صعيد مصر، في يوم الجمعة 16 أبريل عام 1948. وتوفي في يوم الجمعة 7 ديسمبر في إحدى مستشفيات القاهرة.

ولقد ولد كفيف البصر، وكانت العادة حينئذ أن يتعلم الكفيف القرآن تمهيداً لأن يكون رجل دين. فأحضرت له أسرته الثرية أحد الشيوخ كي يقوم على تحفيظه القرآن بدلاً من إلحاقه بأحد الكتاتيب كما كان يجري لأمثاله في ذلك الوقت، حتى قبل زمن الدكتور طه حسين.

غير أنه التحق في عام 1953 بمدرسة المركز النموذجي لرعاية وتوجيه المكفوفين التي كانت قد أنشئت حديثاً. ومن هنا ومن ذلك الوقت اتضحت موهبته الموسيقية إذ روى لنا أساتذتنا في تلك المدرسة أنه كان يشبّ كي يعزف على آلة البيانو. وكانت مدارس المكفوفين في ذلك الوقت تؤهل الكفيف كي يكون إما دارساً بالأزهر أو يلتحق بمعهد الموسيقى العربية تمهيداً لكي يكون مدرساً للموسيقى، أو تدرّبه على بعض الصناعات اليدوية كي يعمل بمصانع خاصة بالمكفوفين.

وفي عام 1957، قرر الزعيم الخالد جمال عبد الناصر أن ينال المكفوفون التعليم نفسه الذي يناله أقرانهم من المبصرين. فكان عمار الشريعي أحد أفراد ثالث فرقة تنتقل إلى المرحلة الإعدادية وذلك في العام الدراسي 1960. أما كاتب هذه السطور فكان أحد أفراد الفرقة الثانية التي تتلقى تعليماً اعتيادياً كغيرهم من معظم أفراد الشعب المصري. ومن هنا جاء اللقاء إذ انتتقل العبد لله إلى المدرسة التي كان يدرس بها عمار حيث كان بها التعليم الإعدادي.

ومنذ البداية، لفت نظري موهبته الموسيقية المتوقدة إذ كان يعزف لحن «قلبي دليلي» على آلة الأوكورديون مصحوباً بالتوزيع الموسيقي حتى إني ورغم تأكدي من أنه هو العازف، تحسست بيدي كي أتاكد من هذا. لكن آلة الأوكورديون آنذاك لم تكن قادرة على أداء الموسيقى الشرقية بما بها من أرباع النغم. لذا حرص عمار في وقت مبكر من المرحلة الثانوية على تعلم آلة العود وأتقن العزف عليها حتى أنه أكمل عزف كتاب دراسة العود تأليف صفر علي بأكمله. وفي تلك الفترة بدأ يلحن بعض الأغنيات التي يؤلفها بعض الزملاء أو يؤلفها هو بنفسه ولنفسه حين كان يشعر بالحاجة إلى ذلك. وأعتقد أن تلك الأغنيات لو أنها أذيعت الآن لما اختلفت كثيراً عما ظل يبدعه حتى قرب وفاته. ويرجع هذا إلى موهبته المبكرة.

وكان عمار أيضاً متفوقاً في دراسته. فكان لا يختلف ترتيبه عن الأول أو الثاني في فرقته.

وحين أنهى الدراسة الثانوية، والتحق بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس، تعرض لما يسمى بالصدمة الحضارية إذ وجد نفسه فجأة بين عالم بأكمله من المبصرين بدلاً مما تعود عليه من الزملاء المكفوفين والذين يعملون معهم من مدرسين ومشرفين. فتغلب على ذلك بأن كتب قصيدة رائعة عن أول أيامه في الجامعة. ولكنه سرعان ما تكيف مع حياة الجامعة وكَوَّنَ العديد من الأصدقاء من كليات مختلفة، وشارك في النشاط الموسيقي بالجامعة حتى إنه صار ألمع شخصياته.

وعمل في عدد من الفرق الجامعية التي كانت تعمل في الحفلات العامة والخاصة إلى أن بدأ العمل في الملاهي الليلية عازفاً في الفرق التي تصاحب الراقصات. وذات مرة اعترضت إحدى الراقصات على أن ترقص على عزف شخص لا يرى رقصها. ثم أخذوا يطلبون منه عزف ألحان لها أسماء متداولة بينهم لم يكن له علم بها. فجعله ذلك يبدأ السلم من أوله على حد تعبيره. وأخذ يعمل في الأفراح الشعبية حتى تمكن من اللغة والألفاظ الخاصة بهذا العالم الذي يختلف عما تعلمه في المدرسة. بعد ذلك، حين عاد للعمل في الملاهي الليلية أخذت الراقصات تتخاطفنه.

في تلك الأثناء، حَسَّنَ من قدرته على امتلاك العلم الموسيقي عن طريق الدراسة بالمراسلة في إحدى المدارس الأميركية التي تعلم أفرعاً مختلفة من المعرفة عن طريق المراسلة. وكان دائماً يدرك كما كان جميع من حوله يدركون أنه لا بد صاعد إلى أسمى درجات المجد في الموسيقى العربية.

وفي بداية السبعينيات، بالتحديد في عام 1972، التحق بالعمل عازفاً على الأوكوريون في الفرقة الذهبية بقيادة صلاح عرام. وحقق نجاحاً باهراً لأنه كان سريع الاستيعاب للألحان دون الحاجة إلى قراءة المدونات الموسيقية كغيره من الموسيقيين. وفي إحدى المرات، تغيب عازف آلة الأورج في الفرقة عن إحدى الحفلات وإنقاذاً للموقف طلب منه صلاح عرام أن يقوم هو بالعزف على الأورج حلاً للموقف. وكانت هذه هي النقلة التي جعلته يتحول إلى عازف للأورج، في زمن كان أشهر عازفي هذه الآلة هما مجدي الحسيني وهاني مهنا. وبلغ من المهارة حداً جعل من يكتبون عن الموسيقى يمنحونه لقب «صاحب الأصابع الذهبية».

من بين الفنانات اللواتي كُنّ يغنين على أنغام الفرقة الذهبية، كانت الفنانة مها صبري. لذا حين قام بتلحين أول لحن قرر أن يتقدم به كملحن عرض عليها أغنية «امسكوا الخشب». فلاقت نجاحاً طيباً.

لكن لم يتوقف نشاطه على العزف في الفرقة الذهبية. ذلك أن الإذاعة التفتت إليه، وكلفته بوضع الموسيقى التصويرية للعديد من المسلسلات الإذاعية، وبرع أيضاً في ذلك، في ظني، لأنه كدارس للدراما في قسم اللغة الإنجليزية أحسن التعبير عن المواقف. وما زال المخرجون حتى الآن يستخدمون موسيقاه في المسلسلات أحياناً دون ذكر اسمه.

في عام 1977، أسند إليه المخرج الكبير نور الدمرداش وضع الموسيقى التصويرية لمسلسل تليفزيوني حقق شعبية كبيرة هو مسلسل «بنت الأيام». فكان أن جعل آلة العود، التي كان يتقن العزف عليها، بطلاً حقيقياً في هذا المسلسل. فصارت بعد ذلك «موضة» ربما حتى الآن. وبعد ذلك قام بوضع موسيقى وأغاني مسلسل الأيام عن حياة طه حسين ومسلسل «أبنائي الأعزاء شكراً» أو بابا عبدو. وحضر كاتب هذه السطور العديد من الندوات التي كانت تناقش دور الموسيقى التصويرية في هذا المسلسل. وبذلك أعلى من شأن الموسيقى التصويرية ونقلها من مجرد شيء مصاحب يمكن الاستعانة فيه ببعض الأسطوانات إلى عنصر أساسي في الأعمال الدرامية.

وفي 8 فبراير عام 1978، سجلت له الفنانة الكبيرة شادية أغنية «أقوى من الزمان». بعد أن سمعت اللحن من شريط كان يحمله إليها الموسيقار الكبير كمال الطويل الذي كان شديد الإيمان بموهبة عمار الكبيرة.

أما السنيما، فكانت تمتنع عليه بحجة أنه لن يتمكن من التعبير عن الصورة نظراً إلى كونه كفيفاً. غير أن شادية أصرت بقوة على أن يقوم بتلحين ووضع الموسيقى التصويرية لفيلم «الشك يا حبيبي» الذي كانت تتأهب للقيام ببطولته. فكسر هذا الفيلم بما قدمه عمار من موسيقى تعبيرية حاجز السينما الذي كان موصداً في وجهه. بل إني أظن أنه استنزف قدراً كبيراً من جهده ووقته في وضع الموسيقى التصويرية للأفلام التي أخذت تنهال عليه. ومع ذلك، كانت له علامات هامة كان لا بد منها لتثبيت اسمه في هذا المجال مثل فيلم «البريء» الذي كتب أغنياته الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي. ولم يكن عمار يبخل بموهبته في أي مجال من مجالات الإبداع الفني، حتى إنه، ذات مرة، عهد إليه وضع الموسيقى التصويرية لفيلم «أحلام هند وكاميليا» وكان يرى أن بعض المواقف بحاجة إلى تعبير غنائي. وحين أخبره المخرج بعدم وجود ميزانية للأغنيات، قام هو بكتابة الأغنية المطلوبة وغناها بمصاحبة اكتشافه الجديد في ذلك الوقت الفنانة هدى عمار. (هذا هو الاسم الذي اختارته لنفسها) عرفاناً منها بفضله.

كذلك كان في الفترة من 1976 حتى 1983، يعيد صياغة الأغنيات المحببة لكبار المطربين أمثال محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وفريد الاطرش، وأخيراً ليلى مراد. وكان يمكنك أن تسمع رجع صدى هذه الصياغات اللحنية يتردد في المدن المصرية والعربية.

في تلك الفترة، وبالتحديد، عام 1980، كان له رأي في الفرق الجماعية التي كانت تؤدي أغنيات معاصرة. فطلب منه أحد منتجي الكاسيت تكوين فرقة يقوم هو باختيار أعضائها ومن يتعامل معهم من كتاب الأغنية فولدت فرقة «الأصدقاء». وكان المطربون فيها من طلبة المعهد العالي للموسيقى العربية، وهم منى عبد الغني، وحنان، وعلاء عبد الخالق. وكان العازفون من شباب الموسيقيين المتعلمين، وجابت هذه الفرقة أنحاء مصر للغناء في الجامعات والأندية، إلى أن استقل كل من المطربين بشخصيته الخاصة به. وكانت هذه الفرقة في وقت ما إثراء للحقل الغنائي.

ثم جاءت الفترة التي أفضِّل تسميتها بالفترة الأبنودية التي استمرت من عام 1982 حتى 1989. وهذه الفترة تتسم بالثراء الغنائي الفني الراقي اذ أنهما قدما أغنيات لوردة، وميادة الحناوي ونادية مصطفى، ومحمد ثروت وغيرهم.كذلك قدم العديد من الألحان للفنانة التونسية لطيفة من تأليف الشاعر الراحل عبد الوهاب محمد.

أكاد أزعم أنه لا يوجد مجال من مجالات الغناء لم يسهم فيه عمار الشريعي إسهاماً وفيراً، وجميعنا يتذكر أغنياته للأطفال. وخاصة تلك التي قدمها للفنانة عفاف راضي، حتى إن شريطي الأغنيات الأول والثاني اللذين لحنهما لها من تأليف سيد حجاب كانا يقدمان كهدايا في أعياد ميلاد الاطفال. كذلك قام بتلحين الكثير من الأغنيات الوطنية الرائعة والأغاني الدينية على الأخص في تعاونه مع الشاعر الراحل عبد السلام أمين، غير أني أظن أن أغنية «بلد الحبايب» التي غنتها وردة من تأليف عبد الرحمن الأبنودي من أجمل ما لَحَّن. وربما يعود عدم تمتعها بالشهرة الكافية إلى أنها صورت للتليفزيون ولا تذاع كثيراً.

يمكننا القول إن جل إنتاج عمار الشريعي الموسيقي يتركز في مسلسلات التليفزيون. ولا يكاد يمر شهر دون أن ترى أكثر من عمل من الأعمال التي قدمها يعرض على إحدى الشاشات، ويرجع هذا إلى إقبال المخرجين والمنتجين على الاستفادة من موسيقاه خاصة إذا كانوا ينوون تقديم عمل كبير. ومن أدلة ذلك مسلسل «أم كلثوم» الذي قدم فيه المطربتين آمال ماهر وريهام عبد الحكيم. ومن المؤكد أن سر نجاح موسيقى هذا المسلسل يرجع إلى أنه كان يفهم الأساتذة الذين قاموا بالتلحين لأم كلثوم فهماً واعياً دقيقياً، مع وضع البصمة الخاصة به.

وفي عام 1989، بدا عمار في تقديم برنامجه الإذاعي الشهير «غواص في بحر النغم» الذي استلهم عمر بطيشة اسمه من قصيدة حافظ إبراهيم عن اللغة العربية حيث شبهها بالبحر المليء بالدر.

كذلك قدم برنامج «سهرة شريعي» في إحدى القنوات الفضائية، ما يزال يستعاد حتى الآن. كذلك كتب العديد من المقالات في الصحف، من بينها الأهرام العربي.

قام عمار الشريعي بزيارات متعددة لمعظم البلاد العربية، وكان على وعي جيد بصنوف الموسيقى المختلفة في تلك البلاد. وأقوى دليل على ذلك ما لحنه من أغنيات لفنان عربي مرموق هو عبد الله الرويشد، الذي جاء من الكويت خصيصاً لحضور جنازته ومجلس العزاء الذي أقيم له. فمن منا لا يعرف أغنيات مثل «أستحملك» أو «مسحور».

لم ينقطع عمار الشريعي عن صداقته لزملاء الدراسة في المدرسة، وكان يدعوهم للعشاء مرة كل شهر فيأتون من أنحاء مصر. وحين كانوا يعبرون له عن شكرهم كان دائماً يقول لو أن أي أحد منكم كان في إمكانه ذلك لفعل.

كان عمار الشريعي محل محبة وإعجاب العديد من الذين يعرفونه ومن لم يعرفوه. لدماثة خلقه وتسامحه مع القليلين الذين أساءوا اليه. فهو كان يحب أن يحيا في جو من الحب والود حتى بين من يعرفهم ويجلسون معه.

استمرت رحلة عمار الشريعي مع المرض من عام 1987، بعد أن انتهى من وضع موسيقى وألحان مسرحية «علشان خاطر عيونك» بطولة شريهان، إلى أن وافته المنية بعد أن اشتد عليه المرض.

أما أنا، فلا أملك الا أن أدعو له بالرحمة وبأن يلحقني العلي القدير به في أقرب الآجال إذ لم تعد الحياة تستحق أن تعاش بعده وفي غيابه.


 موضوعات

ساحة النقاش

بوابة الشاعر المعرفية لذوي البصائر.

blindteacher
بوابة الشاعر لذوى البصائر .. بوابة متخصصة لتعليم وتأهيل ذوى الاعاقة البصرية بمهارات حياتية وتكنولوجية وتعليمية »

ابحث لدى الشاعر.

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

304,815

مختارات

Large_1238304795