موقع الدكتور ناصر علي محمد أحمد برقي

ثروت عكاشة.. العسكري الذي أسس الثقافة المصرية

 الأحد 23/فبراير/2014 - 02:15 ص إيهاب طاهر363

أعد الملف: إيهاب طاهر

إشراف: سامح قاسم

تمر الذكري الثانية في 27 فبراير، لرحيل الكاتب والمبدع الكبير ثروت عكاشة، العسكري الذي قاد الثقافة المصرية، وأرسي البنية التحتية للثقافة، عندما تولي وزارتها بعد ثورة يوليو عام 1958 إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر، والذي أنشأ كثيرا من الهيئات التي تعمل على إثراء الحياة الثقافية والفنية إلى يومنا هذا مثل المجلس الأعلى للثقافة، وهو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب آنذاك، والهيئة العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية وغيرها من المؤسسات الثقافية.

ومن أقوال ثروت عكاشة "إن الثقافة علم وعمل معًا ثم موقف واضح من هذا العلم وذلك العمل، فليس يكفي أن يحصل المرء قدرًا من الخبرات أو المعرفة لكي يسمي مثقفًا، وإنما المثقف هو من يتخير من خبراته ومعارفه وسيلة لتطهير نفسه فيجعلها أسلوبًا للحياة ينتهجه، فالثقافة في هذا الصدد ليست رداءً يرتديه المرء أو ينفضه عن نفسه، وإنما هي دمه ولحمه معًا بل وتسيل الدماء من أجل الثقافة وحولها".

*عكاشة.. العسكري الذي فعل ما لم يفعله المدنيون

تلك الكلمات كانت فلسفته في الحياة والعمل، هذا الرجل العسكري الذي تولي وزارة الثقافة وأثراها بالعلم والعمل وأثبت نجاحًا منقطع النظير، فلم يقدم أي وزير مدني ما قدمه ثروت عكاشة بعسكريته وسعة أفقه واستنارته للثقافة المصرية، كما أثبتت التجربة الفعلية مدي نجاح العسكريين في القيادة والالتزام في بعض المؤسسات الثقافية بالدولة، حيث تولي الدكتور الراحل ناصر الأنصاري رئاسة الأوبرا إحدى أهم الهيئات الثقافية التنويرية في الشرق الأوسط، وأثبت نجاحًا والتزامًا داخل المؤسسة ككل، كما تولاها الدكتور سمير فرج، الذي عني بها خير الرعاية واستطاع بجهده وعطائه المتواصل وإيمانه بمسئوليته بتحصيل مكاسب مالية لدار الأوبرا في خلال سنة من توليه، وهذا يؤكد نجاح المؤسسة العسكرية في بث الالتزام والانضباط والشعور بالمسئولية والواجب الوطني وأيًا كانت الانتماءات عسكرية أم مدنية يبقي التساؤل ماذا قدم كل من تولي وزارة الثقافة خلفًا للدكتور ثروت عكاشة لهذا الوطن؟ فالعبرة ليست بالانتماءات، ولكن لإيمان الشخص ذاته بدوره في إثراء الحياة الفكرية والثقافية والتنويرية.

*عكاشة.. الأديب العاشق للحياة

فهو الأديب العاشق للحياة بكل ما فيها متذوقًا لفنونها وجمالها، متربعًا على عرش الثقافة المصرية، بل والعربية المثقف الواعي الذي سبق أجيالا وأجيال بما قدمه للحياة الثقافية في مصر في شتي المجالات الفنية والثقافية، فقد كان وزير الثقافة المثقف المستنير الذي أنشأ وأرسي قواعد التعليم الفني في مصر، فلم تكن هناك مؤسسات حكومية تقوم بنشر الفنون، ولذا أنشأ أكاديمية الفنون عام 1959 بمعاهدها الفنية المتخصصة المختلفة، وذلك بعد توليه مسئولية وزارة الإرشاد القومي بسنة واحدة، ومن خلال تلك المؤسسة وهذا الصرح الثقافي العظيم استطاع الانطلاق بمصر من المحلية إلى العالمية، فقد كانت هي إشارة البدء لتعليم الفنون العالمية والانفتاح عليها، وتأهيل الكوادر الفنية المصرية في كثير من المجالات، حيث بدأ التعاون مع بعض الدول الأجنبية لاستقدام أساتذة أجانب لتولي عملية الدراسة للطلاب المصريين في أكاديمية الفنون من خلال دراسة أكاديمية متخصصة، والذين أصبحوا يقودون العملية التعليمية والثقافية، فيما بعد، ووصولًا بتمثيل مصر في المهرجانات والمسابقات الدولية والعالمية ووضع فنون مصر على الخريطة العالمية إبان هذا. 

ولم يكتف باستقدام الأساتذة من الخارج بل أرسل بعثات خارجية، واستحضر آلات ومعدات للمعاهد، منها آلات موسيقية من أفضل الماركات العالمية والتي كلفت الدولة مبالغ طائلة، ولكن يرجع ذلك لإيمانه بضرورة الفنون في نهضة المجتمعات وتقدمها ولتوفير أفضل السبل للأجيال التي تنتوى الالتحاق بهذه المعاهد للوصول بها للمستوي اللائق.

*عكاشة.. مرشد مصر الثقافي

سار على خطا ثروت عكاشة كثير من الدول العربية، التي انتهجت نهجه في بناء الحياة الثقافية التنويرية، فهو بالفعل خير مثال لمن يتقلد وزارة لنشر الثقافة والوعي وللإرشاد القومي، حيث أرشد قومه فعليًا إلى الطريق الصحيح، من خلال بث الهيئات الداعمة للاستنارة الفكرية، وتحقيق وعي ثقافي شامل لكل طبقات المجتمع، حيث استطاع تحويل مسار الفنون للشارع المصري، بدلًا من اقتصارها على الطبقة الأرستقراطية المثقفة، وذلك من خلال جهاز الثقافة الجماهيرية في جميع أقاليم القطر المصري، والتي أنشاها لتحقيق هذا الحلم والأمل الذي كان ساعيًا دائمًا له، فكان يوليوا كامل الرعاية لكي تؤدي دورها الفعال تجاه جموع الشعب في كل مكان حتى للبسطاء منه.

وقد شمل اهتمام المفكر الكبير ثروت عكاشة بكل أنواع الفنون إلى أن استقطب خبراء للموسيقي الشعبية على مستوي عالمي لجمع ودراسة التراث المصري في جميع أنحاء الجمهورية، حفاظًا على قيمتها من الضياع، وخلال فترة توليه مسئولية وزارة الثقافة عام 1958 إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر، أنشأ كثيرا من الهيئات التي تعمل على إثراء الحياة الثقافية والفنية إلى يومنا هذا مثل المجلس الأعلى للثقافة، وهو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب آنذاك، والهيئة العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية، والتي كانت تحوي في ذاك الوقت نحو نصف مليون مجلد من الكتب والمخطوطات القيمة، حيث حافظ على التراث المصري بداخله، أسس فرق دار الأوبرا المختلفة مثل أوركسترا القاهرة السيمفوني وفرق الموسيقي العربية، والسيرك القومي ومسرح العرائس.

كما أنشأ قاعة سيد درويش بالأكاديمية لعمل الحفلات بها، ووجه اهتمامه للآثار المصرية، حيث وضع الأساس لمجموعة متاحف هي من أعظم المتاحف المصرية للآن، كما بدأ تقديم عروض الصوت والضوء وذلك لانتشار الفنون في جميع الأروقة والمحافل الثقافية، كما كان له دور وطني بارز من خلال إقناع المؤسسات الدولية في العمل على إنقاذ معبدي فيلة وأبو سمبل والآثار المصرية في النوبة حفاظًا عليها من الضياع أثناء بناء السد العالي. 

*عكاشة.. عين تسمع وأذن تري

وقد اهتم بدور النشر، حيث أسس المكتبة الثقافية والتي كانت النبتة الأساسية لمشروع مكتبة الأسرة، حيث تقدم الكتب بأثمان زهيدة لتصبح في متناول الجميع، كما ألف العديد من الكتب والموسوعات الفنية، وأيضًا ما يقرب من 45 كتابًا مترجمًا يعكسون اهتمامه وعشقه للثقافة والفنون في شتي أشكالها وصورها من أشهرهم ترجمة للشاعر جبران خليل جبران، وأعمال الروماني أوفيد، كما يعتبر كتابه "مذكراتي في السياسة والثقافة" من أهم الكتب التي تعبر عن مصر فنيًا وثقافيًا وحضاريًا وطبقيًا، وأيضًا مجموعة كتب "العين تسمع والأذن تري" بأجزائها المختلفة، والتي تعبر عن الفنون في عصورها المختلفة بمثابة موسوعة فنية متكاملة.

*عكاشة.. مقريزي عصر النهضة الثقافية المصرية

كان الدكتور ثروت عكاشة أول وزير للثقافة في مصر، تولى هذه المسئولية لفترتين تعتبران من أهم فترات النهضة الثقافية، الفترة الأولى في عام 1958 إلى عام 1962، والثانية في عام 1966 حتى عام 1970، وفي أثناء هاتين الفترتين استطاع الوزير عكاشة أن يحدث تغييرا جذريا في المشهد الثقافي في مصر، أدى إلى نهضة ثقافية حقيقية سواء على المستوى الفكري أو على مستوى البناء، حيث يراه الكثيرون، الشخصية الثقافية الأولى في مصر، كان اسمه يتردد صداه على امتداد الوطن العربي الكبير، وفي عواصم الثقافة في أوربا، وفي أروقة اليونيسكو وقاعاتها الواسعة. 

*عكاشة.. صانع الصوت والضوء

منقذ معبدي أبي سنبل وفيلة، صانع الصوت والضوء في الهـرم والكرنك باني دار الكتب والمعهد العـالي للسـينما والمؤسسـة العـامة لفنون المسرح والموسـيقي، منشئ قاعة سيد درويش الباهرة، وواضع حجر أساس أكاديمية الفنون الجميلة، ومعاهدها والمعهد القومي العالي للموسيقي ومعهد الباليه والمعهد العالي للفنون المسرحية، ورغم أن مجموع سنوات عمله وزيرا للثقافة في فترتي تكليفه لا يتعدى 8 سنوات، ولكن تبدو إنجازاته وكأنها استغرقت دهرا استطاع فيها الربط في مشروعات الوزارة بين النظرة الإنسانية وبين النظرة القومية إلى الثقافة ورفع الحواجز بين طبقات المجتمع بتطوير الثقافة الإقليمية وإتاحة الفرصة للتفاعل بين طبقة العامة وبين الفن الرفيع المستوى، ثم تضمين الثقافة قيما عالمية وإنسانية خالدة، الأمر الذي كانت له انعكاساته على كل أنشطة الوزارة، وأخيرا إتاحة حرية الإبداع للفنان. 

*عكاشة.. تاريخ حياة

ثروت عكاشة من مواليد القاهرة بمصر عام 1921، كان وزيرا للثقافة نائب رئيس الوزراء المصري سابقا.

المؤهلات العلمية له: الكلية الحربية 1939، كلية أركان الحرب 1945 - 1948، دبلوم الصحافة كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول 1951، دكتوراه في الآداب من جامعة السوربون بباريس 1960، ضابط بالقوات المسلحة، رئيس تحرير مجلة التحرير 1952 – 1953.

ملحق عسكري بالسفارة المصرية في بون ثم باريس ومدريد 1953 - 1956، سفير مصر في روما 1957 -1958، وزير الثقافة والإرشاد القومي 1958 - 1962، رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية 1962 و1966 - 1970، رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي المصري 1962 - 1966، نائب رئيس الوزراء وزير الثقافة 1966 - 1967، وزير الثقافـة 1967 - 1970، نائب رئيس اللجنة الدولية لإنقاذ مدينة البندقية 1967 - 1977، مساعد رئيس الجمهورية للشئون الثقافية 1970 - 1972، أستاذ زائر بالكوليج دو فرانس بباريس (تاريخ الفن) 1973.

انتخب زميلا مراسلا بالأكاديمية البريطانية الملكية 1975.انتخب رئيسا للجنة الثقافة الاستشارية بمعهد العالم العربي بباريس 1990- 1993، عضو المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو بباريس 1962 - 1970، عضو مجلس الأمة 1964 - 1966، عضو عامل في المجمع الملكى لبحوث الحضارة الإسلامية، مآب مؤسسة آل البيت 1994..

*عكاشة.. سجل حافل بالجوائز والأوسمـة

•الجائزة الأولى في مسابقة فاروق الأول العسكرية

•وسام الفنون والآداب الفرنسى، عام 1965

•وسام اللجيون دونير (وسام جوقه الشرف) الفرنسى بدرجة كوماندور، عام 1968.

•الميدالية الفضية لليونسكو تتويجا لإنقاذ معبدي أبو سمبل وآثار النوبة، عام 1968.

•الميدالية الذهبية لليونسكو لجهوده من أجل إنقاذ معابد فيلة وآثار النوبة، عام 1970.

•جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1987.

•دكتوراه فخرية في العلوم الإنسانية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عام 1995.

•جائزة مبارك في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عام 2002

*عكاشة وضع الثقافة على قارعة الطريق

بعلمه لتاريخ مصر وماضيها حاول أن يري المستقبل واحتياجات العصر، ويقرأ التيارات القادمة وألوانها سواء هادمة أو متفتحة، يميز التيارات السوداء كالحروب، أو البيضاء كالجهل وتفريغ العقول، إضافة إلى اهتمامات العصر واحتياجات البشر، لذا فإن أهم ما يميز ثروت عكاشة هي قدرته الكبيرة على إرشاد الثقافة المصرية، وكيف يقوم بتوجيه سفينتك وسط الأمواج المتلاطمة حتى تهدأ الرياح والعواصف وتواصل رحلتك في بحر الحياة.

لقد قام ثروت عكاشة بدور خطير للثقافة المصرية والعربية، ونزل بالثقافة بمفهومها الواسع إلى قارعة الطريق المصري وقلب الشارع العربي، ذلك المحافظ على تراث مصر وتراث أبنائها ومفكريها من العظماء، المنقذ لتراث وفكر الوطن من التيه والقلق والفراغ الفكري، والذي استرجع لمصر بهاء مصر ورونقها الثقافي وفكرها الخلاب لتصبح بحق منارة العالم وأم الدنيا.

*ثروت عكاشة يرصد ملامح سياسته الثقافية

عبد الناصر قال لي: مهمتك هي تمهيد المناخ الثقافي لإعادة صياغة الوجدان المصري.. وتذكر أن بناء المصانع سهل.. ولكن بناء الإنسان صعب جدا !

لم يكد يحل مساء الثامن من أكتوبر 1958 حتى كنت في رفقة زوجتي نشغل مقعدين في الصفوف الأولى من دار الأوبرا بروما كي لا تفوتنا لفتة أو همسة تبدو من المغني الموهوب بوريس كريستوف الذي كان يقدم أوبرا دوريس جودفون.

وظلت الألحان تتردد في وجداننا بعد انتهاء العرض، حتى امتدت يدي إلى مفتاح جهاز الراديو لاستمع كالعادة إلى نشرة أخبار الحادية عشرة من إذاعة القاهرة، فإذا بالخبر الأول الذي يحمل مفاجأة مذهلة، فقد كانت القاهرة تذيع قرار تشكيل حكومة جديدة تضم بين أعضائها اسمي وزيرا للثقافة والإرشاد القومي، بدلا من المنصب الذي كنت أشغله آنذاك وهو سفير مصر في روما.

انمحت صورة الحفل من فكري وخمدت ومضاته فجأة، وشملني قلق غامر، وشرد ذهني إلى ما ينتظرني من عمل في القاهرة. وبرغم إيماني بأهمية العمل الثقافي إلا أن منصب الوزير ذاته لا مفر من أن يدخلني في غمرة المشتغلين بالسياسة وهم في كل بلاد العالم وليس في مصر وحدها رجال ذوو استعداد طبيعي وطباع خاصة تمليها عليهم حرفة السياسة وأنا على طبع مغاير.

فحين انتميت إلى الضباط الأحرار كنت أحمل بين جوانحي شعورا عاما لتحرير الوطن والشعب دون تفكير في أن أزج بنفسي في غمرة السياسة.

لهذا وبعد نجاح الثورة تنازلت طواعية عن مكاني الذي عرضه علىَّ جمال عبد الناصر في مجلس قيادة الثورة لزميل فاضل، مبتعدا بنفسي عن تيارات السياسة واضعا نصب عيني أن أقدم لوطني ما تسمح به إمكاناتي.

وكان ظمئي إلى المعرفة يجعل الكتاب أقرب رفيق لي، وكان ولعي بالموسيقى يشدني إلى مواطن النغم، وهكذا كانت هواياتي الفنية تستحوذ على أوقات فراغي كلها وتثير في نفسى ضيقا وتبرما بجلسات الدردشة، وتصبغ خطواتي وتنقلاتي بطابع العجلة التي تترك في نفوس البعض شعورا بأن في نفسى تباعدا أو تعاليا، وإن لم تكن تلك حقيقة مشاعري، بل هي مجرد الرغبة الملحة في مطالعة كتاب جديد أو سماع لحن شجى.

مر في ذهني العديد من الخواطر والذكريات وأنا أتجول في غرفتي غدوا ورواحا بعد أن أرقني نبأ تعييني وزيرا فاستعصى على النوم بقدر ما غاب الهدوء عن وجداني، وأخذت أقارن بين رضائي يوم فوجئت بتعييني سفيرا لمصر في روما منذ ما ينيف عن سنة وبين البلبلة التي اعترتني لتعييني وزيرا.

ولم يكن الأمر عندي هو مقارنة بين السفارة والوزارة، فالسفير رغم مباهج عمله في عراقة عواصم أوربية كروما لا يعدو أن يكون موظفا محدود الاختصاصات ضيق الدائرة التي يتحرك فيها أو التي يمتد إليها نفوذه، في حين يملك الوزير صلاحيات كبرى ويستطيع التأثير في مجال ينفسح ليشمل الوطن كله، غير أن الأمر كما أتصور كان مناخ العمل هنا وهناك، فلقد كنت أحس وأنا سفير أنى بين مجموعة يسودها التواؤم والتوافق.

كلنا نعمل لهدف معين محدد، وكما أنا فارغ له هم الآخرون فارغون معي له، بينما الأمر سيكون في الوزارة كما كنت أتخيل على العكس من هذا، إذ ثمة أمور عامة يقتضيها منصب الوزير ستشغلني عن التفرغ لأمور الوزارة.

ولقد فكرت في هذا مليا إذ أن بعض هذه الأمور قد لا يتفق وميولي، وهذا مما كنت أراه من ضم الحقل السياسي لشلل وتجمعات همها ألا يزاحمها في سلطانها أحد، وكثيرا ما تنشأ معها المكائد والوشايات، وكان هذا مبعثا آخر لقلقي، إذ لابد لي من حذر واسع كي أدفع عن نفسى ما قد يحاك لي. 

*لقاء مع عبد الناصر

وكان أن انتهيت إلى أنه لابد لي من أن أعود إلى مصر قبل مرور أربع وعشرين ساعة، ومقابلة الرئيس راجيا إعفائي من شغل منصب الوزير، والحق أن جمال عبد الناصر أدرك منذ مصافحتي له كل ما أضمره، وكأنما كان يقرأ أعماقي، وأخذ يفيض في السؤال عن أسرتي وصحتهم وأحوالهم ليؤجل بضع لحظات بدء مناقشة يعرف أنها ستكون طويلة وشاقة، حتى إذا انتقلنا إلى جوهر الحديث وصارحته باضطراري إلى الاعتذار عن عدم قبول منصب الوزير الذي لم استشر في أمر إسناده إلىّ، لا تقاعسا عن عمل جاد، بل تحاشيا لوقوع صدام محتمل بيني وبين الشلل والتجمعات المتسلطة.

استمع عبد الناصر إلى حديثي مصغيا كل الإصغاء مقدرا مشاعري وأحاسيسي، ثم أخذ في إقناعي وهو يقول: إن منصبك الآن في وضع يعلو وضع بعض من لا تطمئن نفسك إليهم، كما أنك ستشغل مكانا بعيدا عن المكان الذي يعملون فيه، فوزارتك تقع في مبنى مستقل بقصر عابدين، في الوقت نفسه الذي ستكثر فيه لقاءاتنا معا بل وبشكل منتظم، كما أن هذا المنصب لن يغير شيئا من أنك تستطيع في أي لحظة أن تجد بابي مفتوحا لك أو أن تتصل برقم تليفوني المباشر.

وحين ذكرت له ثانية عزوفي عن المناصب التي تشوبها صراعات على السلطة والنفوذ وما يتبعها من مضيعة للوقت والجهد وأنى أنفر من الخوض في غمارها لأنها تستنفد طاقات مهدرة، أجابني قائلا: أصارحك بأنى لم أدعُك لشغل وظيفة شرفية، بل إنني أعرف أنك ستحمل عبئا لا يجرؤ على التصدي لحمله إلا قلة من الذين حملوا في قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها، وأنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر، وعلينا أن نعزق تربتها ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذورا جديدة لتنبت لنا أجيالا تؤمن بحقها في الحياة والحرية والمساواة، "فهذا هو الغناء، وهذا هو العمل الجاد" على نحو ما ذكر فرجيل في إلياذة، وإنني اليوم أدعوك أن تقبل على هذا العناء وذاك العمل الجاد، وأن تشمر عن ساعد الجد وتشاركني في عزق الأرض القاحلة وإخصابها، إن مهمتك هي تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصري، واعترف أن هذه أشق المهام وأصعبها، وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام في بناء الإنسان نفسه، ولو أن سفيرا يستطيع أن يؤدى ثلاثين في المائة فقط مما قمت به أنت في روما فحسبي هذا. إن لك دورا تخدم به الوطن في الداخل أهم من دورك في الخارج، وأحب أن أبوح لك بأن على بابي هذا نحو عشرين متطلعا إلى منصبك هذا.

فعجلت بقولي: إذن فلتمنحه لأحدهم فإني غير راغب فيه، فضلا عن أنى لا آمن من تلك السهام الطائشة التي سوف توجه إلىّ من ذوى الأغراض.

فسائلنى بهدوئه العميق: ومن منا الذي يعمل آمنا من السهام المعادية ؟ أولا تذكر أننا خرجنا ليلة 23 يوليو 1952 نحمل أرواحنا على أكفنا، وكل منا يضع في احتمالاته ألا يعود إلى أسرته سالما، إن عظم المسئولية جدير بأن يثير في نفسك ما عهدته فيك من إقدام، ثم ما الذي ستفعله في وزارة الثقافة غير تحقيق أحلامك التي طالما كنت ترويها على مسامعي قبل الثورة وبعدها.

*ذكريات ما قبل الثورة

وأخذ الرئيس يذكرني بأنني لم أغادر القاهرة في مهمة سياسية خاصة إلا وأعود بحديث مقتضب عن المهمة تاركا التفاصيل للتقرير المكتوب، بينما كنت أطلب في الحديث عن النهضة الفنية في الخارج وعما شاهدت من عروض مسرحية وموسيقية وأوبرالية ومن معارض فنية تشكيلية وعن أحدث الإنشاءات الثقافية، وعن أمنيتي في أن تتحقق مثل هذه النهضة في مصر، وهنا صارحني الرئيس بقوله: لا أخفى عليك أن كل حديث كان يدور حول تنمية الثقافة والفنون كان يجعل صورتك تتراءى في خيالي.

وأذكر حديثنا قبل الثورة عن انحصار المتعة الثقافية خاصة الفنون الراقية في رقعة ضيقة لا تنفسح إلا للأثرياء، وكيف ينبغي أن تصبح الثقافة في متناول الجماهير العريضة وأن تخرج من أسوار القاهرة والإسكندرية لتبلغ القرى والنجوع، فمن بين أبناء هذه القرى الغائرة في أعماق الريف بالدلتا والصعيد يمكن أن يبزغ عدد من الفنانين الذين يعكسون في إبداعهم أصالتهم الحضارية، ويبدو لي أن الأوان قد آن لتحقيق هذا المطمح، وقد كنت أنتظر هذه اللحظة لأسند إليك مهمة وزير الثقافة، ولا تتصور أنى كنت أوفدك في مهام مؤقتة إلى عواصم أوربا أو في مهام طويلة كعملك الدبلوماسي في باريس وروما دون أن أضع في اعتباري ما تتحه لك هذه الفرص من دراسة الأنشطة الثقافية والفنية في أهم عواصم الفنون والثقافة في العالم، وإنني أرى أنه ما زالت أمامك رحلات أخرى في عواصم أخرى تضيف إلى حصيلتك في هذا المجال زادا جديدا، لكنك ستقوم بهذه الرحلات بوصفك وزيرا للثقافة، وهو ما سيتيح لك فوائد أعظم وأنت تشيد أبنية الثقافة والفن في مصر.

وأحسست أن عبد الناصر كاد يضيق علىّ الحصار وأن يمس أوتار قلبي، وأن يوقظ في نفسى الأحلام والذكريات التي أخذت تلهب خواطري وتشعل في وجداني قلقا عصيا على الخمود.

فقلت له: أرجو أن تمنحني فرصة أعيد فيها النظر.

فقال لي مبتسما: حسبتك تريد فرصة تجرب فيها حظك في موقع وزير الثقافة، وعلى كل فليكن لك ما تريد، أخلد إلى عزلتك ليلة أو ليلتين، على أن تتذكر أن قرار رئيس الجمهورية لا يقبل التغيير السريع الذي توده أو الذي كنت توده.

وصافحني مودعا بعد ساعات أربع من النقاش الذي كان فيه بالغ الصبر، والذي اعترف أنى كنت فيه شديد العناد والتصلب، اتجهت إلى بيت المشير عامر الذي هنأني بتعييني وزيرا للثقافة وهو يقول لي: ها أنت الآن في الموقع المناسب لتكوينك وتحقيق أمنياتك القديمة لصالح الفن والثقافة.

وحين سردت عليه موجز ما حدث بيني وبين الرئيس قال رحمه الله: إن عبد الناصر يعتمد عليك فلا تخيب أمله فيك، ثم إنه أوحى لك بأن تأخذ فرصة في ممارسة مسئوليات هذا المنصب الجديد، فإذا مضت مدة ووجدت أن هناك عقبات فعلية في طريق إنجازك لمشروعاتك كان من حقك ساعتها أن تطلب من الرئيس إعفاءك من المنصب الوزاري. وساعتها سيوافق الرئيس دون أن يجد في ذلك ما يغضبه عليك أو يخيب أمله فيك، أما الآن فلا يجوز.

وقد اعتكفت في بيتي ليلتين كما أشار علىّ الرئيس، وفى صباح اليوم الثالث تلقيت مكالمة منه يسألني فيها عن رأيي الذي انتهيت إليه، فأجبته قائلا: أصارحك أنى حتى الآن لم أحس بالراحة لقبول هذا المنصب، فقال ضاحكا: هيا إلى مكتبك على بركة الله لا تهتم براحة النفس هذه فأنا كفيل بتحقيقها لك، ونظرت بعدها إلى رفيق السلاح يوسف السباعي الذي كان يزورني عندها، ولم أكد أكرر عليه قولة جمال عبد الناصر حتى انفجر ضاحكا وقال لي بمرحة المعهود الذي كان يتسرب إلى قلوب محدثيه: أسرع يا ثروت، فأنت لا تدرك مفهوم كلمة "الراحة" في لغة أهل الصعيد لأنها تعنى أحيانا "الراحة الأبدية" وما أظنك ترحب بها الآن.

دخلت إلى مكتبي راضيا بما قدر لي وقد انحسم الصراع الذي مزق نفسى أياما ثلاثة، وأخذت أوطد العزم على العمل رغم معرفتي بما قد يجابهني من عقبات، ورفعت سماعة التليفون لأبلغ الرئيس جمال أنى أحدثه من مكتبي بقصر عابدين، وأحسست بدفقة الحماسة في صوته وهو يطمئنني قائلا: تأكد أنى سأوليك كل الدعم والرعاية، فإني واثق أنك سوف تستطيع أن تشكل رباطا وثيقا بين حركة المثقفين وحركة الثورة لتخلق منهما وحدة فعالة، فنحن في حاجة إلى تعاون كل المفكرين المستنيرين في إحداث التنمية الاجتماعية المنشودة.

استمهلت الرئيس شهرين أو ثلاثة أقوم خلالها بدراسة مبدئية لأوضاع الوزارة وتفرعاتها حتى أضع تصوري الخاص للانطلاق الثقافي وأحدد الخطة التي يمكن أن تحقق هذا الهدف لأعرضها عليه بعد اكتمالها، فقال لي مشجعا: تلك هي البداية السليمة، فخذ الوقت الكافي للدراسة والتأمل قبل أن تصبح تصوراتك قرارات توضع موضع التنفيذ، وبدأت أغرق نفسى في العمل ليل نهار، وكأنما مرت يد سحرية على ذاكرتي فمحت منها تخوفاتي السابقة وترددي الذي صرت أندم على أنه حدث لي في فترة كانت تمثل نقطة تحول بين عملين كليهما له مسئولياته الكبرى.

ما من شك في أن حكومة الثورة قد اهتمت بالثقافة منذ بداياتها الأولى، فأصدرت في 25 يناير 1956 قانونا بإنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في شكل هيئة مستقلة ألحقت بمجلس الوزراء، وأوكلت إليه تنسيق جهود الهيئات الحكومية وغير الحكومية العاملة في ميادين الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية وربط هذه الجهود بعضها بالبعض وابتكار وسائل تشجيع العاملين في هذه الميادين والبحث عن الوسائل التي تؤدى إلى تنشئة أجيال من أهل الآداب والفنون يستشعرون الحاجة إلى إبراز الطابع القومي في الإنتاج الفكري المصري بشتى ألوانه ويعملون على التقارب في الثقافة والذوق الفني بين المواطنين، مما يتيح للأمة أن تسير موحدة في طريق التقدم محتفظة بشخصيتها وطابعها الحضاري المميز.

وقد عهد القانون برياسة المجلس إلى وزير التربية والتعليم، وتطورت تبعية المجلس على مدى الأيام إلى أن صار جزءا من وزارة الثقافة، وبعد ذلك أقامت حكومة الثورة وزارة الإرشاد القومي التي حملت بين مهامها بعض الشئون الثقافية المحدودة لاسيما في مجال الفنون، وفى عام 1958 نشأت أول وزارة للثقافة بمصر، وكان هذا الإنشاء إيذانا بإقدام الحكومة المنبثقة عن الثورة على بذل جهد واع ومخطط من أجل تنظيم العلاقة بين الدولة وجهود المثقفين واستثمارها في إثراء منجزاتها المالية والسياسية والاجتماعية بمنجزات ثقافية وفنية.

*فتحي رضوان ووزارة الإرشاد

والحق أن وزارة الإرشاد القومي - رغم انحصار وظيفتها الأولى في الدعوة لمبادئ الثورة والتعريف ببرامجها واتجاهاتها الاجتماعية والسياسية - قد مهدت الطريق حين أضافت إلى مهامها الإعلامية والتوجيهية مهمة ثقافية فنية حملت من أجلها فيما بعد اسم "وزارة الثقافة والإرشاد القومي" في 22 فبراير 1958، فأنشأت مصلحة الفنون وإدارة للثقافة والنشر ومركزا للفنون الشعبية وبرنامجا إذاعيا على موجة خاصة سُمى "بالبرنامج الثاني" يهدف إلى الارتفاع بذوق الجماهير في مجالات الأدب والفن والموسيقى الرفيعة، وكانت مدة إرساله ساعتين كل ليلة ثم امتدت إلى ثلاث ساعات، وقد كان للعالم الفنان الدكتور حسين فوزى فضل المشاركة بالجهد الأساسي الواعي في هذا العمل الطليعي الجليل.

وأود بادئ ذي بدء أن أسجل إيماني بأن أي إنجازات علمية أو عملية، فكرية أو فنية لا يمكن أن تولد من فراغ وإنما هي حصيلة أفكار وآمال وجهود أجيال من المثقفين على مر السنين، وحين اضطلعت بعبء وزارة الثقافة للمرة الأولى (من نوفمبر 1958 إلى سبتمبر 1962) وجدت الفرصة أمامي مواتية، لكى أضيف إلى تلك الجهود الأولى جهودا أخرى واجبة تتم ما فات، ولقد وفقني الله أن وجدت مناخا مهيأ بفضل اهتمام أهل العلم والفن والثقافة وعلى رأسهم أستاذنا النابه "فتحي رضوان" الذي حققت وزارة الثقافة والإرشاد القومي في عهده إنجازات فنية عظيمة فيها الجدة، والابتكار، وأرست أسسا للفنون على قاعدة صحيحة بالرغم من قصر المدة التي تولى خلالها مسئوليتها الجديدة. 

*نواة وزارة الثقافة

وما إن أخذت أمضى في مهمتي حتى تبين لي من الدراسات الأولى أنه لم يكن ثمة جهاز ثقافي قائم له تقاليده العريقة بحكم امتداد عمره الطويل عبر التاريخ إلا في مجالين اثنين هما الكتاب والآثار، أعنى دار الكتب ومصلحة الآثار، أما ما عدا ذلك فلم يكن سوى نواتين إحداهما أدبية وأخرى فنية، أما النواة الأدبية فقد غرستها وزارة التربية والتعليم بإنشائها إدارة عامة للثقافة انضمت بعد بهيئاتها المختلفة إلى وزارة الثقافة، وأما النواة الفنية فهي مصلحة الفنون التي أنشأها سلفي "فتحي رضوان" كما قدمت لترعى فنون المسرح والسينما والفنون التشكيلية، واستحدث من هذه المصلحة الوليدة جهازا له من المرونة والقدرة على الانطلاق والتحرر من القيود النمطية المعتادة ما يتيح له الانفساح وسط الحقول الثقافية العريضة على النحو الذي يفي بتطلعات شعبنا وحاجاته.

وكان هذا مما مهد لي أن أمضى في أداء رسالتي عندما اضطلعت بأعباء الوزارة فوجدت بين يدى هاتين النواتين، وكان علىّ أن أرعاهما الرعاية الحقة وأن أطورهما حتى تصبح ثمارهما يانعة مظلة تعم الوطن المصري والعربي، هذا العبء الكبير كان يقتضى من الوزارة حينذاك لكى تحققه وتبلغ به المدى جهدا أي جهد، لذلك ارتبطت بالمثقفين لتفيد منهم أولا في إدارة أعمالها الثقافية، ثم لتربط ما بينها وبينهم حتى تهيئ لهم المجال الخاص لإنتاجهم فترعاه الوزارة وتكفله.

وإذا نظرنا إلى التاريخ الذي أنشئت فيه وزارة الثقافة وهو عام 1958 لعرفنا أنها لم تكن إلا في طور النشوء، بل لقد عاب هذا الطور في رأيي ارتباطها بما كان يسمى وزارة الإرشاد القومي التي تحولت فيما بعد إلى وزارة الإعلام سالخة معها دار الإذاعة وهيئة الاستعلامات، أي أن وزارة الثقافة لم تنشأ حاملة مهامها الذاتية إلا قبل تسلمي شئونها بثمانية شهور، وهى فترة ضئيلة لم يكن من الممكن أن تحقق أكثر مما حققته، والذي يعتبر بكل المقاييس إنج�

barki

مع خالص الود دكتور " ناصر علي محمد أحمد برقي "

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 273 مشاهدة
نشرت فى 10 أغسطس 2018 بواسطة barki

ابحث

تسجيل الدخول

الدكتور ناصر علي محمد أحمد برقي

barki
هذا الموقع ... موقع الدكتور ناصر علي محمد أحمد برقي »

عدد زيارات الموقع

93,517