أحمس نفرتاري أميرة الجهاد
كانت الشمس تسطع علي الكون, فتنشر أشعتها الذهبية في كل مكان.. تغزو الحقول فتورق الأشجار, وتتفتح الثمار.. تلمع علي سطح الماء, فتكسبه لمعانا, وكأنه نثر عليه آلاف القطع الذهبية ذات البريق الأخاذ.
كانت الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ تعشق تلك المشاهد... فتستيقظ مبكرا لتستمتع بها, وتري الكون في أبهي صورة, تتطلع من شرفات القصر في طيبة ـ التي تقع علي ضفاف نهر النيل, إلي مراكب الصيادين, التي تسير في أمان, ناشرة قلوعها البيضاء, وتري الخدم يروحون ويجيئون, يستعدون منذ الصباح الباكر لانجاز ما لديهم من أعمال..
وكان الأمير ـ أحمس ـ يستيقظ في الصباح الباكر أيضا, وبرغم إعجابه بمشاهد البكور, وغلالة الحسن التي تلف الدنيا في هذا الوقت, إلا انه استيقظ اليوم مبكرا لأنه في شوق لرؤية حبيبته ـ نفرتاري ـ فقد مكث فترة غير قصيرة في معسكر التدريب بعيدا عنها, يتدرب علي فنون القتال, من رمي السهام, والحراب, والقتال بالسيف.. وغيرها, بل انه أحب أيضا أن يتقن صناعة الأسلحة فصاحب الحرفيين, والصناع, وتعلم منهم الكثير حتي بات من المقربين من عامة الشعب,وبرغم مكانته الرفيعة كأمير, وولي للعهد, إلا انه كان قريبا من شعبه ربما لصغر سنه, أو لخصاله الحميدة التي من الصعب ان تجتمع في إنسان واحد, فهو يجمع بين الرقة والقوة, واللين والحزم, والقسوة والعطف, يتعالي علي الأغنياء والأقوياء , ويتواضع للفقراء والمساكين, وأصحاب العلم.. وبرغم حداثة سنه, الا انه كان اكثر شهرة من أخيه ـ كامس ـ الذي عرف بقوته وصلابته, وشجاعته... نزل الامير ـ أحمس ـ الي حدائق القصر مجتازا شرفة الاميرة.. واثقا من رؤيتها اياه.. ثم تمهل في سيره, واختار شجرة سرو بديعة المنظر, وجلس اسفلها ينتظر قدوم اخته, وحبيبته ـ أحمس نفرتاري ـ كان يري من خلال جلسته أيكات البردي, التي تعشقها الاميرة, فظل يتأملها لحين قدومها, حيث لم تتأخر كثيرا,
فبمجرد رؤيتها له, وهو يمر من امام شرفتها.. تملصت من يد مربيتها العجوز ـ سادهي ـ, وكانت المربية تكمل لها زينتها, وتضع لها الشعر المستعار علي راسها, فرفضتها ـ نفرتاري ـ, وقالت لها:
ـ بل ضعي بعض الزهور في شعري, واجعليه منسدلا علي ظهري, فأحمس يحبه هكذا...
انتبهت ـ سادهي ـ لقول سيدتها, ففعلت مثلما امرتها, فهي لا تجرؤ علي مخالفتها, وان تغير وجهها بعض الشيء, لدي سماعها لتلك العبارة من سيدتها, اذ عرفت انها ذاهبة لمقابلة ـ أحمس ـ.. فأطرقت حتي أتمت عملها, وبمجرد انتهائها.. جرت ـ نفرتاري ـ من أمامها, وما هي إلا بضع درجات اجتازتها حتي أصبحت في البستان, واتجهت مباشرة إلي آبكات البردي , حيث توقعت جلوس ـ أحمس ـ هناك في انتظارها, وبالفعل وجدته هناك, فتسللت من ورائه بخفه, ووضعت كفيها علي عينيه, فقال لها ـ أحمس ـ:
ـ أرجوك.. ارفعي كفيك عن عيني.. فأنا أركز النظر في آيكات البردي, انه النبات المفضل لدي حبيبتي ـ نفرتاري ـ وعندما انظر إليه أتذكرها..
فرفعت ـ نفرتاري ـ كفيها في غضب سائلة:
ـ وهل تنساها بقية الوقت؟
ضحك ـ أحمس ـ وتظاهر بالتفكير في الأمر, مما جعلها تشتعل غيظا,وتهم بالانصراف...
اسرع ـ احمس ـ يمسك بيديها, ويجلسها بجواره, قائلا لها:
ـ لكم اوحشتني.. كنت اتذكرك مع كل حركاتي, وسكناتي..ومحياك ما غاب قط عن ناظري..
شعرت ـ نفرتاري ـ بالرضا والحبور لوقع كلماته, وسألته عن الأحداث التي مرت به طوال فترة غيابه, وطالبته بأن يقص عليها حكاياته..وبدأ ـ أحمس ـ يقص عليها كل شيء, ولكنهما لمحا من بعيد الخادمة الصغيرة ـ ورت ـ, كان يبدو من هيئتها أنها تبحث عنهما, أو عن احدهما, في إرجاء البستان, وحينما أبصرتهما.. قدمت إليهما, وهي ترتجف وانحنت أمامهما قائلة:
مولاي الأمير ـ أحمس ـ, مولاتي الأميرة ـ نفرتاري.. إن الملكة الأم ـ اعح حوتب ـ العظيمة بعثت في طلب الأميرة ـ نفرتاري ـ علي وجه السرعة, وقد تعجب رسولها لخروج الأميرة المبكر, وكان في سبيله للعودة, وأخبار الملكة بان مولاتي غير موجودة في جناحها, ولكن ـ سادهي ـ استمهلته, وقالت لي: اذهبي.. ستجدي مولاتنا في البستان.. وها أنا قد جئت لأخبرك بالأمر. قامت ـ نفرتاري ـ من فورها, وودعت ـ أحمس ـ, وعلي وجهها إمارات القلق, والترقب..
دخلت الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ قاعة العرش, كانت الملكة ـ اعح حوتب ـ تجلس بمفردها, وحولها بعض وصيفاتها, تمسك كل واحدة منهن بمروحة من الريش, تدفع بها الهواء تجاه الملكة, فما أن رأتها حتي طلبت من الوصيفات الكف عما يفعلن, والانصراف.. فاتجهن جميعهن صوب الباب, بينما كانت ـ أحمس نفرتاري ـ تتقدم نحو الملكة في خطوات مرتجفة, فقد كانت للملكة هيبة كبيرة, إلي جانب أن ـ نفرتاري ـ تشعر بأن هناك ما يزعج الملكة, ويكدر صفوها.. ولذا كانت الأميرة تحاول أن تتحاشى لقاءها في الآونة الأخيرة, ولكن هاهي الملكة تجد في طلبها فليس هناك من سبيل للاختباء, أو الفرار.. قرأت الملكة ما تفكر فيه ابنتها في عينيها, وسألتها مباشرة:
أين كنت؟...
ارتجفت ـ نفرتاري ـ من طريقة الملكة في السؤال ولكنها أجابت:
كنت في البستان...
في هذا الوقت المبكر؟
إني أحب البكور.
ولكنك لم تخرجي للبستان منذ فترة, وكنت ملازمة لجناحك, حتي ظننت انك ستعتزلين حياتنا....
لم يكن هناك ما يروقني,ولكن الشمس اليوم بديعة, والجو صحو, فآثرت الخروج للاستمتاع بالطبيعة.
هل كنت بمفردك؟
ترددت ـ نفرتاري ـ قليلا, ثم أجابت:
كنت مع ـ أحمس ـ...
استشاطت الملكة غضبا, وارتفع صوتها, وقالت:
ألم أمنعك من مقابلة ـ أحمس ـ؟!
قالت ـ نفرتاري ـ بتوسل:
أمي....
قاطعتها الملكة قائلة:
لا تقولي أمي مرة ثانية..
قالت ـ نفرتاري ـ بإصرار:
ولكنك أمي...
بل أنا الملكة ـ اعح حوتب ـ زوجة الملك الراحل ـ سقنن رع ـ الذي صعدت روحه في ميدان الحرب, ومات ميتة ملك عظيم, وأنا أم الملك ـ كامس ـ, الذي سيكمل مشوار والده في تحرير الوطن.
أنا لا أعرف لماذا جلالتك غاضبة مني؟...
لأنك لا تستمعين إلي كلماتي. ولا تنفذين أوامري...
اومرك أن ألا القي ـ أحمس ـ مرة ثانية؟
بل أوامري أن تتزوجي من الملك ـ كامس ـ...
شعرت نفرتاري بان الأرض تميد بها, وسألت الملكة باستعطاف:
لماذا يا أمي لا ترغبين في سعادتي, أنت تعرفين إني وأحمس متحابان, فلماذا تريدين التفريق بيننا؟
لأنكما طفلان صغيران, لا تدريان ما يجب عليكما عمله..
وما هو الواجب الذي علينا عمله؟
كامس أخوك الأكبر ملك شجاع, وقوي, ويجب أن نكون جميعا إلي جواره, نعضده بزوجة ذات دماء ملكية, يرضي عنها الشعب المنقسم علي نفسه, تكون لكامس زوجة, وأختا تقف إلي جواره, ووراءه في حروبه القادمة ضد الهكسوس, الرعاة, المغتصبين..
يمكنك أن تختاري له أميرة أخري.
قلت لك ليس هناك أميرة ملكية سواك, تصلح لهذا الدور, يجب أن تضحي في سبيل الوطن يا نفرتاري, لهذا خلقت...
يمكنني التضحية بحياتي عن طيب خاطر, ولكن بحبي؟... بأحمس؟...
قاطعتها الملكة قائلة:
أن قلبي ينفطر من اجل أحمس ولدي الحبيب, لكنه صغير, وسينسي مع مرور الوقت أما أنت فاعرف أنك قوية مثل أمك, وستؤدين ما هو مطلوب منك, لأنك ملكة, وابنة ملك, وحفيدة ملك, ستظلين شامخة طوال حياتك, وستؤدين دورك علي أكمل وجه..
ترقرقت الدموع في عيني ـ أحمس نفرتاري ـ, وقالت:
أرجوك يا أمي.. لا تسلبيني حبي الوحيد , فمنذ تفتحت عيناي علي الدنيا.. لم أر سوي ـ أحمس ـ, ولم أحب سواه, وسنكون معا عونا لكامس في حروبه. أرجوك.. أرجوك يا أمي...
قالت الملكة بحزم:
ليس هناك مجال لتوسلات الأطفال هذه, بعد عدة أيام, سيتم تتويج كامس ملكا علي مصر, وسيتم زواجكما في نفس اليوم, حيث سيضطر للسفر بعد ذلك لملاقاة الهكسوس.. إلا ترغبين في الثأر لأبيك من قتلته؟... إلا تساعدين الملك علي النيل من أعدائه, وأعدائنا؟!..
هل تسمح لي مولاتي بالتحدث مع جدتي الملكة العظيمة محبوبة رع ـ تتي شيري ـ في هذا الشأن؟
حسنا نفرتاري.. أتعتقدين أن جدتك سيكون لها رأي أخر, وستقف إلي جوارك في موقفك هذا؟.. اذهبي إليها, ولكن اعلمي أنها منذ وفاة ولدها, وزوجي ـ سقنن رع ـ وهي في حالة حزن دائم, حتي أنها أحيانا لا تعي ما يحدث حولها.
سأحاول معها.. فأنا اعرف أنها تحبني...
قالت الملكة بنفاد صبر: ليس هناك في هذا العالم, من يحبك أكثر مني.. ولكنه الواجب الاقوي منا جميعا يا ابنتي... اذهبي إليها, ولكني اعرف مسبقا ما ستقوله لك.
استقبلت الجدة ـ تتي شيري ـ حفيدتها ـ أحمس نفرتاري ـ استقبالا حارا, وكللت عباراتها بكلمات المديح, والود لها. وقد كان الحزن باديا علي كل قسمة من قسماتها, فحارت ـ نفرتاري ـ, وتساءلت بينها وبين نفسها: أيكون من المناسب, طرح موضوعها للحديث.. أم تترك الجدة لأحزانها؟ وكأنما سمعتها الجدة فقالت لها بحزم:
لا تقلقي علي يا ابنتي, إنني قوية وصلبة مثل شجرة سامقة, تهزها الريح, وتعبث بأوراقها, ولكنها أبدا لا تقتلع جذورها.. قصي علي ما جئت من اجله..
فتشجعت ـ نفرتاري ـ, وروت لها كل شيء.. ثم جلست متكئة علي مقعد وثير في انتظار ردها..
قالت ـ تتي شيري ـ: أنت طفلتي المحبوبة, ويصعب علي تقويض فرحتك.. ولكننا يا ابنتي نحن الحكام لا نملك الاختيار, فيما يتعلق بمصائر شعوبنا, مكانك إلي جوار أخيك ـ كامس ـ وليس هناك من تحل محلك في أداء دورك هذا في ذلك الوقت العصيب, فنحن جميعا نعيش محنة الاحتلال.
ولكن يا جدتي..
قاطعتها الجدة قائلة: استمعي إلي, والي خبرة سنوات طويلة عشتها: هؤلاء الرعاة دنسوا أرضنا, وقتلوا ولدي ـ سقنن رع ـ بعد أن عز عليه الاستماع لنصائحي..
كيف ذلك يا جدتي؟
في يوم من الأيام جاءه رسول من ملك الهكسوس ـ ابيبي ـ يخبره أن الملك مستاء من أصوات أفراس النهر الموجودة في شرق طيبة حيث تزعجه أصواتها في صحوه , وفي منامه. وهل يمكن أن تصل أصوات افراس النهر من طيبة إلي اواريس؟
بالطبع لا يا ابنتي.. ولكنه كان يريد إيصال رسالة إليه, بأنه يعرف بأمر التدريبات المسلحة, التي تجري في طيبة, ويأمره بوقفها...
وهل استجاب أبي؟
بالطبع لا.. ولكنه لم يكن مستعدا للحرب بعد..
وبماذا نصحته؟
نصحته إلا يستجيب لاستفزازات ـ أبيبي ـ ورجاله, ولا يقدم علي الحرب إلا وهو علي أتم استعداد لها, ولكنه لم يستمع إلي كلماتي.. لكم افتقد ولدي, ولكن عزائي, انه مع ـرع ـ في رحلته الأبدية.
وهل تريدين الثأر يا جدتي؟
وأنت.. ألا تريدين الثأر من هؤلاء الخادعين الحفاة الذين ينهبون خيرات بلادنا؟
بل أريد الثأر, واسعي إليه..
إذن طريقك إليه هو زواجك من ـ كامس ـ ستكونين أميرة للجهاد, ضد هؤلاء الغزاة المحتلين.
كان موكب المحتفلين يجوب مدينة طيبة منذ الأمس, احتفالا بتتويج الملك ـ كامس ـ خليفة لأبيه الملك ـ سقنن رع ـ كذلك لمراسم زواجه من أخته الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ التي تتم اليوم.. وقد قام الكاهن بإجراءات الزواج داخل القصر الملكي وحضرت الاحتفال الملكة ـ تتي شيري ـ وكانت هذه أول مرة تشهد فيها احتفالات بعد احتجابها, اثر مصرع ولدها بفأس أسيوية في رأسه أثناء حروبه ضد الهكسوس..
جلست الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ في قاعة الاحتفالات الكبرى في القصر علي كرسي فخم مصنوع من الخشب المغطي برقائق من الذهب الخالص, تحوطها الزهور, والرياحين من كل جانب, وهي ترتدي ثوب عرس بديع من الكتان الشفاف الأبيض الفضفاض, ذا ثنيات طولية تزيد من اتساعه, وحول وسطها الرشيق يتدلي حزام عريض, مرصع باللآليء, والزمرد, والعقيق.. وقد صنعت ـ سادهي ـ من شعرها عدة جدائل, ووضعت تاجا صغيرا بين الجديلتين الأماميتين..
كانت أصوات الصلاصل , والطبول , والقيثار, تصدح في جوانب المكان, والمغنيات ينشدن أغاني تبعث علي الفرح, والسرور, بينما تتمايل الراقصات في خفة, واستعراض لوقع خطواتهن, واتساقها مع إيقاعات الموسيقي الصادرة من مختلف الأدوات الموسيقية, وقد راق للمغنية أن تناشد ـ حتحور ـ إلهة الحب أن تغدق من عطفها علي هؤلاء المحبين رجالا, ونساء, وان تجعل حياتهم المقبلة حياة سعيدة, عامرة بالفرحة.. وفي وسط فرحتها الغامرة, لاحظت الملكة ـ اعح حوتب ـ أن ابنتها لا ترتدي عقدا, فأشارت إلي احدي الخادمات فأتت لها بصندوق مجوهراتها, حيث أهدت لابنتها عقدا من الأحجار الكريمة مكونا من عدة ادوار, كما حلتها ببعض الأساور الذهبية, وحينما اطمأنت لزينة ابنتها وتمامها ابتعدت قليلا, وهي ترقب الباب الذي سيدخل منه ـ كامس ـ ولدها الحبيب, وماهي سوي لحظات حتي دخل ـ كامس ـ في رداء كتاني جميل, موشي بالذهب, وهو يمسك شارات الملك في يديه ـ الصولجان والعصا المعقوفة ـ, ويرتدي التاج المزدوج علي رأسه ـ تاج الدلتا والصعيد ـربما لتذكير من يراه بأنه حاكم مصر الرسمي, والأوحد, وما هؤلاء الرعاة إلا مغتصبون يحكمون لفترة مؤقتة, وان طالت.
جلس ـ كامس ـ علي كرسي ملكي, بجوار ـ أحمس نفرتاري ـ وبمجرد جلوسه, جاء المهنئون يقدمون هداياهم من كل الأنواع, وكانوا يمثلون كل فئات الشعب. ورجال الدولة, وقد تقدم من حكام الأقاليم: ـ تيتي بن بيبي ـ و ـ باماي ـ و ـ حسي رع ـ وكلهم من أمراء منطقة الدلتا, التي سيطر عليها الهكسوس مؤخرا, قدموا لتهنئة الملك, وقدموا جميعا فروض الولاء, والطاعة, وعرضوا مساعدة الفرعون في حروبه القادمة, وكان ـ تيتي ـ أكثرهم تباهيا بنفسه, وأكثرهم تحدثا, حيث أكد للملك أن روحه, وجسده, وأمواله فداء للملك, فقال له ـ كامس ـ:
ابلغ تحياتنا لوالدك بيبي, فنحن نعرف ولاء أسرتكم لنا, ولولا أن والدك قد بلغه الكبر, وأصبح عاجزا عن الحركة, لظل في منصبه حاكما للإقليم, ولكننا رأينا أنك جزء من نفسه, وهو بالتأكيد سعيد, لأنك أنت الذي شغلت منصبه.
بالتأكيد يا مولاي هو سعيد من اجلي.. وقد كان يريد الحضور لتهنئة جلالتك بنفسه, لولا عجزه عن الحركة, لذا أرسل معي الكثير من الزيوت, والعطور, والحنطة, والعسل, كذلك بعض القطع الذهبية هدية لمولاي, كما انه لم ينس أن يعد بعض القرابين لتقديمها لمولانا العظيم, محبوب آمون ـ سقنن رع ـ ليسعد معنا بهذه المناسبة.
هداياك مقبولة أيها الأمير...
وتقدم بعد ذلك ـ باماي ـ, وهو أمير شاب في نفس عمر ـ تيتي ـ وقدم هداياه, وشرع يصوغ عبارات المديح, والشكر للفرعون باعتباره واحدا من الرعية, التي يغمرها الفرعون بإحسانه, وانه يتوقع أن يتم الخلاص من الهكسوس علي يده, وكان أثناء حديثه يتطلع من طرف خفي لأحمس نفرتاري, يرمقها بنظرات كلها إعجاب, ووله, ولولا خشيته من ـ كامس ـ لخصها بحديثه, وسألها عن تلك النظرة الحزينة في عينيها, بل لعبر لها عن حبه المشتعل منذ أول مرة رآها فيها, وهي طفلة صغيرة تلعب في بستان القصر, ولكنه قال محدثا نفسه: أن كل ذلك قد فات أوانه, وولي..
تقدم ـ حسي رع ـ بعدهما, وقدم هداياه.., وكان ـ حسي رع ـ رجلا مهيبا, تشع الطيبة من عينيه, فتحدث بصدق إلي الفرعون, وأكد له انه رهن إشارته في حروبه المقبلة.
وبعد وقت غير قليل من السعادة والبهجة التي عمت المكان, والبعد قدر الإمكان عن حديث الحرب, والهكسوس, أشارت الملكة ـ اعح حوتب ـ بيدها, فاصطف الحرس علي الجانبين يحملون المشاعل, ومشي العروسان وسطهما, متجهين لجناحهما الخاص, كي ينعما ببعض الراحة,وكانت ـ أحمس نفرتاري ـ في أثناء ذلك تبحث بعينيها عن ـ أحمس ـ الذي ذاب وسط الجموع, فلم تره منذ بدأت المراسم, وكانت تخطو خطواتها الأولي نحو حياتها الجديدة, وتتمني من أعماقها منقذا يخرجها في اللحظة الأخيرة من هذه الحياة البائسة, وظلت تتمني حدوث تلك المعجزة, وظهور ذلك المنقذ, ولكن من النادر أن تتحقق المعجزات....
لم يقض ـ كامس ـ سوي عدة أيام مع عروسه, وأثناء تلك الأيام كان يتابع استعدادات جيشه, فهو يجهز نفسه لشن حملة علي منطقة مصر الوسطي ليستعيد بعض المدن التي غزاها الهكسوس, ويخلصها من أيديهم, ولما اطمأن إلي استعداد رجاله, قرر الخروج بالأسطول الملكي, ووقف مودعا أمه الملكة ـ اعح حتب ـ قائلا:
أمي.. أنت فرعون مصر الحاكم الآن كما كنت دائما أثناء حروب والدي الملك ـ سقنن رع ـ العظيم..
بالطبع يا ولدي..
يمكنك أن تدعي أحمس يساعدك..
استمع أحمس إلي تلك الكلمات فتدخل غاضبا.
بل أكون في معيتك أيها الفرعون, فلا تحرمني من نيلي ذلك الشرف.. نظرت الملكة الي ولدها الفرعون, ثم ما لبثت أن قالت:
أحمس ولي عهدك يا كامس فلا تحرمه شرف المشاركة في تلك الحملة. قال كامس:
لم اقصد حرمانه أيتها الملكة المعظمة, بل أردت استبقاءه هنا ليكون عونا لك.
قالت الملكة:
افهم ذلك يا ولدي ولكن لا تنسي أن معي ابنتي الرقيقة , القوية في ذات الوقت.
نظر ـ كامس ـ باتجاه ـ أحمس نفرتا ري ـ وقال:
معك كل الحق يا أمي , فلم أر أصلب من تلك الفتاة, ولا ارق منها حقا, ستكون
نعم العون لك...
لم يتحمل ـ أحمس ـ ذلك الموقف فاستأذنهم, وانصرف ليكون مع البحارة علي متن المركب الملكي, ولكنه لم ينس قبل أن ينصرف أن يودعهم جميعا بنظرة طويلة مشبعة بدفء الحب, والحنان شملت أمه , وأخته ـ نفرتا ري ـ..
الأهرام المسائي يوم 31مايو 2010م / الاثنين 17 جمادى الآخرة 1431 هـ ، العدد 6973