مقدمة

 

كنت في صباح ذلك اليوم كعادتي أمارس رياضة المشي  بين أحياء شرق المدينة.. حيث كل شبر وتحت كل حجر تقبع ذكرى ما..

وما أشجى الذكريات بشرق المدينة..

تحت إبطي رزمة من الورق هي نتاج عمل مضني من الكتابة على مدار عامين ..ولعل الدار التي اتفقت معي على نشر ذلك العمل قد مات صاحبها أو على الأقل نسي اتفاقه معي..

ـ " أعرف أن القصة تمثل لك ذكريات خاصة.. لكن تلك الذكريات لم تعد ملكاً لك وحدك ولابد للأجيال القادمة أن تطلع عليها وترسخ في وجدانها"

تلك العبارات التي دغدغ بها صاحب دار النشر مشاعري يومها ـ والتي لم تكن بحاجة لدغدغة حقيقة ـ مازالت ترن في أذني..

قلت له يومها.. أي منذ عامين :

ـ " أنت محق.. لكن هل تتصور أن ما حدث تستوعبه قصة "

ـ " أعرف أنها ملحمة كبرى تلك التي خاضها شعبنا  ضد الظلاميين.. لكن حتى إن لم تكن قصتك كافية فهي على الأقل ستكون ضربة المعول الأولى التي ستصنع شرخاً في حاجز الصمت.. بعدها سيتتابع الكتاب على إثرك وسيكون لك فضل أول محاولة.. ومن سن سنة حسنة..."

قلت له في ملل :

ـ " لقد نجحت في إثارة حماسي فعلاً.. لكن هذا العمل لن يكون سهلاً

إنه بحاجة لطول نفس وصبر.."

ابتسم وهو يتراجع في مقعده متمتماً :

ـ " متى يمكنك الانتهاء منها على أقصى تقدير؟ "

صمت برهة وشرد بصري قليلاً.. الجواب كان محفوراً في صدري..

ـ " ليس الآن "

لقد مر عامان على هذا الحوار.. اليوم أحمل قصتي تحت إبطي وأمر بها في جنبات شرق المدينة حيث وقعت أحداث القصة.. وكأنني أقارن بينها وبين معالم المدينة العجوز.. مراجعة أخيرة وعجيبة للقصة قبل أن تقع في يد الناشر..

والبداية كانت عند مقهى شرق المدينة العتيد..

مقهى المعلم فوزي الذي كان مأوى لجميع أطياف مجتمعنا..

العامل والموظف والجامعي  ومن لا عمل له.. اليوم صار معلماً سياحياً بعد حرب النضال التي خاضها شعبنا منذ عدة سنوات..

اليوم صار رواد ذلك المقهى  نجوماً في سماء تاريخنا الحديث..

لوحت بكفي  لرواد المقهى محسن والشيخ حسن الفقي وابتسمت متذكراً.. وتنهدت حسرات على تلك الأيام..

كان هذا المقهى هو نواة المقاومة التي اجتاحت شرق المدينة زمن الحرب.. الأن هو مجرد مقهى يساعدك على قتل بعض الوقت مع كميات من المشروبات الشعبية التي تدفع على (النوتة) غالباً.. لكنهاـ أي المشروبات ـ ليست من النوع الذي ينسيك نفسك والحمد لله.. ليس في هذا المقهى على الأقل .. فهذا المقهى له تاريخ لا ينبغي له أن يدنس..

تركت المقهى تطاردني أصوات ارتطام قطع الزهر و الدومينو المستفزة و أكملت السير الحثيث.. هنا لفحت أنفاسي رائحة (زفارة) السمك المعتادة كلما أقبلت على محل  سمكة.. كان الأخير يتسلى برش الماء على طاولة السمك ولم يكد يراني حتى أشار لي مبتهجاً أن هلم.. شكرته واضعاً كفي على صدري..

ـ " تعلم يا  سمكة أنني عاشق لعالم البحار.. لكن.. ليس الآن.."

وكالعادة يبدأ سيال الذكريات يتداعى.. وجه  سمكة معلم أخر من معالم شرق المدينة..

لكنها ذكريات أبعد ما تكون عن بيع السمك..

وتحسست قصتي تحت إبطي وكأنني اطمئن على تلك الذكرى قبل أن أترك محل المعلم سمكه..

ثم أحكمت غلق فتحتي أنفي استعداداً لـ...

لا أطيق رائحة الدواجن خصوصاً تلك التي امتزجت برائحة الدم والأحشاء.. لو تسللت الرائحة إلى أنفي ربما تقيأت في أية لحظة..

"طيور وزة ".. لافتة متسخة بجوارها رسم ساذج لدجاجة تشبه  الفيل .. وبجوار الأقفاص التي يرمقك منها الدجاج في ترقب يقف وزة ممسكاً بسكين مرعبة الشكل..

لوحت له بكفي الحرة وخرجت الكلمات من فمي خنفاء قليلاً بسبب ضغطي على فتحتي أنفي بيدي الأخرى :

ـ " مسك وعنبر يا وزة.."

ـ " تفضل يا أستاذ.."

قلت بنفس النبرة الخنفاء المثيرة للضحك  :

ـ " أريدك أن تذبح لي وزة ؟"

ابتسم كاشفاً عن صفي لولي! وقال واضعاً كفه على صفحة عنقه:

ـ " رقبتي يا أستاذ.. فقط تفضل وشرفنا.."

قلت مشيراً  للأوراق كي يفهم :

ـ " ليس الآن يا معلم وزة فلدي مشاغل.."

وتركته ومضيت .. فسمعته يصيح من خلفي ضاحكاً :

ـ " اسمي مكتوب؟.."

قلت  دون أن التفت :

ـ " جداً.."

وابتسمت للذكرى التي طفت على السطح.. وهمست لنفسي:

كانت لنا أوطان...

  اخترت  أحد الشوارع الجانبية الضيقة والتي تفضي إلى الطريق الرئيس.. لكنني كنت محظوظاً كالعادة فالشارع الضيق لم يكن خالياً!

 مجموعة من الصبية يلعبون الكرة بحماس شديد.. حتى أنهم لا يشعرون بأي شيء يدور من حولهم .. العالم كله صار رقعة لا تتجاوز عشرة أمتار طولاً في ثلاثة أمتار عرضا.. تتأرجح فيها كرة عابثة من هنا إلى هناك .. وعلى المار بين اللاعبين الصغار أن ينتبه لنفسه ويأخذ حذره وعينه على الكرة. كأنه تحول إلى لاعب أخر لكن بهدف مختلف.. الخروج من بينهم سالماً..

عندما كنا في مثل سنهم كنا نتوقف عن اللعب حينما يمر أحدهم حتى لا يصاب بأذى.. اليوم تتوسل عيناك لهؤلاء الصبية أن توقفوا قليلاً حتى أمضي في سبيلي ..

لكن جنون الكرة يصل للذروة فقط حينما يرون طلتك البهية..

وتطير الكرة لتنسف كل أمالك في المرور الهادئ.. وكيف تتحرك قيد أنملة وقد طارت نظارتك الطبية إلى حيث تنتظرها قدم حافية تدهسها بقسوة..

حاولت أن أتحسس الأرض بحثاً عنها بيسراي.. وفي نفس الوقت الذي أطبق بعضدي الأيمن على رزمة الذكريات كي لا تفلت وتحدث الكارثة.. وسمعتهم يتصايحون فيما بينهم..

الكل يتبرأ مما حدث.. هذه الكرة جاءت من الشارع الأخر!..

ـ ‌" أسف يا عمو.."

دنا الصوت الذي يخطو بحذر نحو الرجولة وشعرت بملمس نظارتي الحبيبة وهي تدس في يدي ..

بسرعة ارتديت النظارة متلهفاً العودة مرة أخرى للعالم.. وأول ما طالعت كان وجه الصبي الذي ناولني النظارة ..

ـ " أسف يا عمو .."

كان يرمقني في ترقب.. هل سأصفعه على وجهه ؟أم أكتفي ببعض السباب.. هو مستعد لأي رد فعل قاسي فيما يبدو..

كان الصبية قد تحلقوا من حولي وكأنهم يشاهدون فقرة في سيرك..

الوجوه المغبرة والأقدام الحافية والسراويل القصيرة وقصات الشعر العجيبة.. كل هذا كان أكثر مما تحتمله أعصابي ..

من حق هؤلاء الصبية أن يلعبوا.. لكن من حقهم كذلك علينا أن يفهموا طبيعة العالم من حولهم.. وأنه لا يقتصر على عشرة أمتار تركض فيها كرة من هنا إلى هناك..

اعتدلت قائماً ونفضت الغبار عن ثيابي وسعلت مرتين بفعل الغبار طبعاً.. بحثت بعيني المنهكة عن الساحرة المستديرة حتى وقعت عليها بالقرب من منزل خرب.. تتأرجح على حافة حفرة صنعها أحدهم بجوار باب البيت الخرب لسبب مجهول..

ولا إرادياً تحسست رزمة الأوراق كعادتي كلما لاحت لي ذكرى ما..

ذكرى دفعتني  دفعا لتوجيه السؤال التالي للصبية المتحلقين حولي :

ـ " هل يعرف أحدكم قصة شعبنا مع الظلاميين ؟ "

تبادلوا النظرات فيما بينهم .. هذا أخر ما يمكنهم توقعه مني .. لسان حالهم يتساءل : لماذا لم يمضي ذلك الكهل إلى حاله وتركنا لحالنا؟

ـ " لا تعرفون؟ "

تكلم الصبي الذي ناولني النظارة :

ـ " وهل كان لشعبنا قصة؟ "

شعرت بغصة في حلقي.. وصعوبة في التنفس.. لكنني بالرغم من ذلك عدت أكرر بصوت مبحوح :

ـ " لا تعرفون ! "

قال الصبي وهو يبتسم بلا مبالاة :

ـ " نحن لا نعرف سوى لعب الكرة .. إنها الإجازة الصيفية يا عمو.."

وتناثرت من حولي الضحكات.. وتردد صداها في أذني ممتزجاً بأصوات أخرى قادمة من ماضي ليس ببعيد .. ليس للحد الذي ينسى معه أبنائنا ما جرى وما كان ..

" ماذا تعرف أنت أيها الغر الساذج عن الظلاميين.. هه؟ "

" أريد فقط أن أفهم .."

" ليس الآن ..."

" لماذا ...؟ "

" ليس الآن .."

 استجمعت أنفاسي وكبحت جماح ذكرياتي وعبراتي..

الكابوس الذي كنت أخشاه قد تحقق.. ونشأ جيل لا يعرف ما جرى لشعبنا من جراء أفة النسيان..

 قلت لهم بمرارة :

ـ " اجلسوا معي ساعة .. أحكي لكم قصة شعبنا.."

تبادلوا نظرات الحيرى.. 

ـ " ليس الآن يا عم.. نريد أن نواصل اللعب .."

لكن صوتي هدر منذراً بالويل :

ـ " بل الآن .."

وجلست على الأرض.. وجلس الصبية من حولي ممتقعين..

 وبيد مرتجفة تناولت رزمة الأوراق.. وبأنفاس ملتهبة بدأت أقرأ لهم قصتهم التي يجهلونها..

***

 

 

 


                                  تمهيد


لا يذكر تحديداً متى أظلمت من حوله الموجودات..
عندما قرر والده أن يترك الأسرة وينضم لقائمة خرج ولم يعد.. أم عندما ترك مدرسته صغيراً ليعمل ويساعد أمه ؟..أم عندما وضعته أمه.. وجاءت به لتلك الحياة.. 
كذا سأل والدته يوماً..
ـ "الظلام هو أصل الأشياء.. كذا قال لي والدك قبل أن يرحل"
ـ " رحل إلى أين ؟ "
أخبرته أنه ذهب إلى قاع المدينة.. واختفى في فجوة أرضية من تلك الفجوات التي تملأ القاع.. أخذه الظلاميون إلى غير رجعة.. 
ـ " من هؤلاء الظلاميين ؟"
ـ " مخلوقات تعيش في الظلام تحت الأرض.. إنهم يأتون ليلاً من أجل الأطفال المزعجين كثيري الأسئلة.." 
لم ينس حركة إصبعها التحذيرية أمام ناظريه وهي تقول:
ـ " إياك أن تقترب من قاع المدينة.. لن تعود.."
ابتلع ريقه متمتماً :
ـ " أمن الممكن أن ألقى والدي هناك يوماً ؟ "
تهزه بعنف صارخة :
ـ " لا أحد يظل حياً في قاع المدينة.. الشيطان يسكن هناك "
نظر لها في رعب.. وأقسم أنه لن يقترب من القاع.. لن يقترب.. 
ابتسامة منتصرة ارتسمت على وجه أمه.. لقد نجحت في زرع الرعب الأبدي في قلب ابنها.. هكذا هي تحميه للأبد من الضياع كما ضاع والده الأحمق.. الذي ظن أن الفشل سبب وجيه للفرار إلى قاع المدينة.. لقد شعرت أن ابنها سيصيرنسخة أخرى من والده.. لذا هو مرشح للضياع كما ضاع أبيه.. لكنها لن تسمح له بذلك.. 
ومازال الفتى يتساءل متى أظلمت من حوله الموجودات؟.. 
عندما ماتت أمه وتركته وحيداً..
أم عندما طرد من عمله للمرة الثالثة..
ـ " أنت فاشل ابن فاشل.."
نظر لصاحب العمل في غل :
ـ " هل كنت تعرف والدي؟ "
دفعه صاحب العمل خارجاً وهو يسبه :
ـ " وهل يخفى القمر.. الحمار الذي ترك زوجته وفر إلى قاع المدينة ولم يعد.. لعله الأن ينتظرك هناك مع الظلاميين.. أذهب إليه فمن شابه أباه ما ظلم " 
أم لعلها أظلمت حقاً عندما عاد إلى الغرفة التي يسكن بها ليجد حاجياته قد ألقيت في الشارع بجوار الرصيف.. صاحب البيت كان عملياً.. وحينما رفع طرفه إلى نافذة حجرته رأى وجه جديد يطل عليه منها.. 
الساكن الجديد..
حمل حاجياته على كتفه وانطلق هائماً على وجهه..
لا يكاد يرى أي بصيص من ضوء.. ظلام.. ظلام.. ليل سرمدي يزحف على كل شبر من عالمه لا يترك له أي أمل في نهار جديد.
" الظلام هو أصل الأشياء "
تباً لصاحب العمل.. تباً لصاحب البيت.. تباً للعالم أجمع..
عملياً لا يوجد مكان يأوي إليه غير.. غير قاع المدينة..
قاع المدينة!
لكنه لم يرتجف هذه المرة.. ولم لا.. قاع المدينة المكان الوحيد الذي لن يطرده منه أحد.. ولن يطالبه بأجر..
" الشيطان يسكن هناك "
فكر أنه لم يتعامل طوال حياته إلا مع شياطين.. حتى أمه التي كانت تخوفه من الشيطان.. كانت شيطان أخر في صورة أم.. ماتت ولم يستفد منها إلا الرعب من قاع المدينة التي ابتلعت أبيه يوماً ما..
ما الذي يخيف في قاع المدينة.. الظلام؟
" الظلام هو أصل الأشياء "
لا يدري لماذا بدا له والده في تلك اللحظة عبقرياً..
تأمل اللافتات التحذيرية التي يضعها رجال السلطة لمنع الزائرين وابتسم في مقت.. هو لا يخشى ما يحذرون.. أي جحيم سيلقاه سيكون أفضل بالتأكيد من الجحيم الذي لفظه..
ـ " قف.."
تجمدت الدماء في عروقه.. استدار حيث الصوت فرأى دورية جوالة من دوريات السلطة التي تحوم حول القاع لمنع الحمقى من التوغل..
كان قد اتخذ قراره.. هو لن يعود.. لن يعود.. 
وهكذا ألقى بأحماله وانطلق يعدو بجنون..
ـ " قف.. قف.."
لن يتوقف.. لن يتراجع.. لقد اتخذ قراره.. سيلحق بوالده.. 
سيهبط إلى باطن الأرض.. لن يعود.. لن يعود.. لن يعود..
إلا............
لينتقم...

***

متى شعر بقدمه تنزلق في إحدى الفجوات؟
حاول التشبث بشيء.. أي شيء.. لكن سرعة انزلاقه مع المفاجأة أفقدته التحكم بنفسه.. فراغ مظلم دامس غاص فيه لثوان.. 
ثم تدحرج جسده على ما يشبه المنحدر.. شعر بوخذات عديدة في جسده.. وحينما سكن جسده أخيراً تحسس نفسه فأدرك أنه قد جرح في أكثر من موضع.. 
ظلام دامس ورائحة عضوية خانقة.. إنه في إحدى ممرات الصرف الصحي لقاع المدينة والتي لم تعد تستعمل منذ عقود..
هي الآن مسكن الطائفة الظلامية التي يخشاها سكان السطح..
بالرغم من ذلك لم يشعر بالخوف.. كان قلبه يدق بعنف لكنها لم تكن بسبب الخوف.. إنها دقات تخبره أنه قريب جداً منه..
ـ " أبي !"
صرخ فتردد صدى صرخته عبر ممرات الصرف العتيقة..
ـ " أبي! "
صرخ وهو يتوغل أكثر وأكثر...
ـ " أبي! "
صرخ وهو يسمع صوت حركة خافتة بجواره.. إن لم يكن فأراً فماذا يكون؟
ـ " أبي! "
صرخ وهو يتساءل عن تلك الأنفاس الكريهة التي تلفح وجهه الآن.. إن لم تكن أنفاسهم فماذا تكون؟.. 
ـ " أبي! "
ـ " شششششششششش"
توقف عن الصياح وتوقف قلبه عن النبض.. أغمض عينيه.. وبدأ يسمع الصوت الهامس في أذنيه :
ـ " لا تلوث الظلام.. "
ومن قلبه تمنى أن تكون النهاية أسرع وأرحم.. ولأول مرة في حياته يشعر بالرضا.. 
فعما قليل سيلقى والده.. 

***















" سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة..
سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. 
هذا عهدي لك.." 





                               (1)


في ذلك الوقت كنا لا نعرف تحديداً من أين جاءوا..
هناك نظريات عدة تتحدث عن أصل النشأة لما كنا نسميهم بالظلاميين..
في البداية كان الحديث عن تحور طرأ على بعض أبناء شعبنا نتيجة ظلم 
طبقي صارخ أدى بهم إلى اللجوء إلى الكهوف والمغارات والسراديب تحت الأرض..
من هنا نشأ جيل لا يعرف النور .. ومن هنا أطلق عليهم البعض الظلاميين .. 
لكن بعض الجمعيات الخيرية كانت تعتبر هذه التسمية زيادة في الظلم
والقهر لهذه الطائفة المطحونة.. 
ـ " ما يحدث على أرض شعـ.. شعبنا الأسمر جريمة بكل مقاييس الشعوب المتحضرة.. 
فصـ.. فصيل كامل من أبناء الشعب يحيا في باطن الأرض والويل كل الويل له
إن فكر في الخروج للنور.. هذه قصة تصـ.. تصدم كل إنسان متحضر.." 
هكذا تكلم الدكتور العوادلي في إحدى الندوات التي كانت تسمح لها السلطة
بالانعقاد في تلك الفترة من أجل التعبير عن الرأي.. تحديداً في غرب المدينة 
حيث تسكن النخبة المثقفة من شعبنا والمرفهة كذلك..
ـ " سياسة القمع وتكميم الأفواه هي ما انتجت لنا ما نسميه زوراً بالطائفة الظلامية " 
والعوادلي هو أحد أبناء شعبنا لكنه قضى معظم حياته يعمل عند الشعب الأصفر..
وهذا كان مدعاة للتشكيك فيه من قبل أصحاب النظرية المضادة حول حقيقة 
الطائفة الظلامية..
البعض يعتبره بطلاً ثائراً من أجل حرية الشعوب..
.. والبعض الأخر وكانوا قلة في ذلك الوقت يعتبرونه رجل الشعب الأصفر
والذي يتولى تمهيد الأرض لمقدمهم.. لكن ما علاقة ذلك بالظلاميين يا ترى؟.. 
حاول بعضهم أن يتساءل في تلك الندوة :
ـ " لكن يا دكتور هناك وجهة نظر لدي سلطتنا أن..."
هنا تمت مقاطعة المتسائل البريء من قبل الحضور ولم يستطع أن 
يواصل أمام سيل التهم التي انهالت على رأسه..
ـ " هذا عميل للسلطة مدسوس علينا.."
ـ " يسمحون لنا بعقد الندوات ثم يزرعون بيننا من يفسدها علينا "
وقال المتسائل وهو مبهوت :
ـ " والله أنا منكم فقط كنت أعرض وجهة النظر الأخرى ليرد عليها الدكتور العوادلي .."
هنا تكلم العوادلي :
ـ " يا عزيزي هناك نقاط محد.. محددة تم الاتفاق عليها لتتم مناقشتها 
في الندوة ولا يـ.. يحق لأي أحد أن يخرج على تلك النقاط.. واضح؟.."
وجلس المتسائل ممتقعاً وهو يداري أفكاره السوداء..
بعدها عاد العوادلي يواصل كلامه عن القمع وتكميم الأفواه!
لكن ما حقيقة النظرية الأخرى التي تتبناها السلطة.. والتي لم يسمح العوادلي بعرضها في ندوته..
النظرية المضادة تتحدث عن الظلاميين كشعب غامض مخيف لا يمت بصلة لشعبنا الطيب المسالم..

***

" لا تقترب " 
هذه اللافتة ستجدها بكثرة بالقرب من قاع المدينة.. 
حيث تكثر تلك الفجوات التي توصل لعالم سفلي يمر عبر شبكات معقدة تحت أرض المدينة..
لكن ماذا لو تجاهل أحدهم تلك اللافتات.. 
بعض من قرروا الولوج في قاع المدينة والاقتراب من الفجوات الأرضية.. 
لم يعودوا ليخبروا ذويهم بما رأوا.. ولم يتوقف الأمر على المغامرين فقد جرت 
حوادث قتل عديدة وغريبة لأفراد من شعبنا بعيداً عن قاع المدينة وكان
التفسير عند السلطة أن هذه الحوداث جراء تسلل ليلي لأحد كائنات الظلام.. 
وفي الصباح كنا نجد جثة أو جثتين وأحياناً كان يتم خطف الأجساد إلى سرداب غائر 
في قاع المدينة أو كهف عميق في أحد الجبال .. ماذا كان يحدث للمختطفين .. ؟ 
حول هذا تدور التكهنات .. ويمكنك أن تستنتج ذلك بسهولة لو علمت أن الجثث التي 
وجدت كانت خالية من الدماء.. لكن طبعاً هناك من يشكك في نسبة ذلك للظلاميين
أصلاً وتبقى الأمور عائمة.. وهذه النظرية التي تبناها رجال السلطة عندنا عاملوا
الطائفة الظلامية من خلالها..
كنا نسمع بين الحين والحين أن السلطة جردت حملة شعواء على كل البؤر 
القريبة للكائنات الظلامية ..
لا أحد يغامر بإنزال قوات السلطة لتلك البؤر لذا يتم ضرب تلك البؤر بقاذفات اللهب .. 
وكان هذا يثير الجمعيات الحقوقية لدى شعبنا والتي تتصل مباشرة بشعوب
الخارج خصوصاً الشعب الأصفر ..ويبدأ الضغط العالمي على شعبنا من أجل رفع
الأكف عن طائفة مقهورة يدفعها القحط والظلم إلى اعتداءات فردية غير مسئولة. 
والحل...
ـ " الحوار ...."
هكذا قالها السيد الأشقر نوسام المندوب السامي عن الشعب الأصفر أمام حشد
من رجال الصحافة والإعلام في مؤتمر عالمي صاخب ..
سأله أحد الصحفيين: 
- " وكيف يتم الحوار مع طائفة تحيا في السراديب والكهوف ولا أحد يعلم لهم متحدث 
رسمي يمكن التفاهم معه ."
هنا أشرق وجه الأشقر وقال بحماس يحسد عليه :
ـ " الحوار لغة الشعوب المتحضرة وإذا كنت تحاور همجياً بربرياً بنجاح فهذا
يعنى أنك غلبته بتحضرك ..أما الفشل فقد يعنى أنك لست متحضراً كما تدعى ..."
كانت كلماته تتنزل على أذان السيد المسئول الأكبر عن شعبنا كالكرابيج والرسالة
باتت واضحة .. نحن فاشلون في دمج تلك الطائفة المسكينة في باقي أطياف الشعب ..
ولم يكن أمام السيد المسئول الأكبر سوى دعوة السيد الأشقر للقاء كائنات الظلام
ولسان حاله يقول :
ـ " عسى أن تبتلعه حفرة من حفر الظلاميين أو يغوص في كهف من كهوفهم
إلى الأبد وتكف سلطة شعبه عن الحديث حول الحوار معهم" 

***

في تلك الأثناء غادر السيد وسام دائرة الظل التي لا يفارقها إلا في حالة حدوث أمر جلل.. 
كان فارع القامه أصلع الرأس لم يبق إلا بعض الشعر التذكاري على جانبي رأسه 
لكن له عينان سوداوان عميقتان تجذبانك جذباً ناحية هاويه بلا قرار ...
وكان كذلك مندوباً من سلطة شعبنا لاستقبال نوسام القادم للحوار مع الظلاميين ..
وسام وإن كان يظهر بمظهر الدبلوماسي الحاذق لكنه في نفس الوقت رجل 
أمن من الدرجة الأولى .. بطل من أبطال شعبنا المنسيين..
وهو كذلك خبير في مواجهة الطائفة الظلامية 
( فهو ممن يتبنون النظرية الأخرى عن الظلاميين ) 
وكان خير مبعوث من شعبنا لاستقبال السيد الأشقر واصطحابه
إلى شتى البؤر التي يريد زيارتها في محاولته الاتصال بالكائنات السفلية ...
ـ " السيد وسام "– قالها نوسام – " أنت أخر شخص اتوقع وجوده في استقبالي."
نظر له وسام وابتسم في مقت قائلا ً:
ـ " المسئول الأول عن شعبنا يهتم بدعوتك للحوار.."
ـ " أظن أن مجيئي كان من أجل الحوار .. لا الحرب.."
ـ " لست هنا بصفه أمنية .. أنا معك بصفة دبلوماسية بحتة.."
طبعا ًلم يقتنع السيد الأشقر وما اهتم وسام بإقناعه.. عليه فقط 
أن ينهي تلك المهمة السمجة ويعود بتقريره الموعود للمسئول الأكبر ...
ـ " إذن هلا بدأنا جولتنا..."
قالها السيد نوسام في مرح فرد عليه وسام في سماجه:
ـ " هل تحب أن تبدأ بالحفر في قاع المدينة أم بالكهوف في الجبال؟"
ـ " معي فريق علمي متكامل سيحدد لنا الهدف بدقة..."
تجاهل وسام الرد على عبارته الأخيرة وإن كان عقله قد اشتعل 
بها وصار كالأتون الملتهب.. فريق علمي.. سيحدد الهدف ..
وإلى جوار السيد الأشقر كان هناك ثلاثة شباب يرتدون المناظير 
الطبية ومعهم حقائب متوسطة الحجم قدمهم نوسام بانتشاء لوسام :
ـ " رجال الفريق ب.. لديهم وسيلة علمية ترصد تحركات الظلاميين بدقة.."
قال وسام من بين أسنانه :
ـ " هل شكلتم فريق كامل لاختراع وسيلة رصد لكائنات الظلام .. 
هذا مجهود شاق واهتمام فائق لو أردتم رأيي."
ـ " السلام العالمي هو أسمى أهداف شعبنا الأصفر كما تعلم ومن 
أجل هذا الهدف نبذل الكثير والكثير..."
فرك وسام أذنه قائلا ً في ملل :
ـ " هذا يحفظه كل طفل يشاهد طائراتكم وهى تقصف بيوتهم ليل
نهار من أجل السلام العالمي..."
مط نوسام شفتيه معلنا ً عبثيه الحوار مع وسام في تلك النقطة 
ثم إنه أعلن في حبور عن بزوغ فجر جديد ..فجر الحوار التاريخي مع كائنات الظلام . 
وسطعت أضواء عدسات التصوير على وجهه ووجوه رجال الفريق ب . 
وظهر وسام الذى فضل أن يوليه لعدسات التصوير... 
فهو لم ينس بعد حسه الأمني الرافض لأضواء الصحافة والإعلام ..
وسمع همس نوسام في أذنيه :
- " ليس الظلاميون وحدهم من يخشى الأضواء يا عزيزي.."
ولم يجد وسام رداً أفضل من أن يبتسم له مكشراً عن أنيابه ....


***




                                 (2)


قاع المدينة ...
حيث تكثر الفجوات التي توصل لعالم سفلى تحكمه طائفة الظلام ..
لا أحد يمرح ويسرح ليلاً بالقرب من تلك الفجوات إلا إذا كان مخبولاً أو مخموراً ... 
وغالباً لن يعود ليحكي ما حصل ..ليؤكد أو ينفي .. وتبقى الأمور عائمة..
لكن ذلك الشاب اليافع الذى يمضى قدماً في سبيله لا يلوى على شيء تؤكد
خطواته الواثقة الحازمة أنه ليس مخبولاً أو سكيراً .. ذلك الشاب يمضي ناحيه الخطر بإصرار ...
لم يبق إلا الانتحار ... ذلك الفتى يريد أن ينتحر بولوجه إلى قاع المدينة في ذلك الوقت من الليل ..
ـ " قف .."
صرخة حازمه لا تخرج إلا من حنجرة مدربة على الصراخ بهذه الطريقة الأمنية الحازمة ... 
تجمد الشاب في مكانه ثم التفت ببطء إلى مصدر الصوت.. 
ـ " هل أنت معتوه ...؟ "
قالها رجل السلطة وهو يقترب من الفتى.. تلفت حوله في حذر ثم أمسكه من كتفه هامساً :
ـ " هل تريد الانتحار ..؟ "
نظر له الشاب نظرة خاوية... وتساءل :
ـ " لماذا تنزعج بهذه الطريقة يا رجل السلطة ...؟ "
ـ " ألا تفهم ... أنت تقترب منهم ...."
ـ " تقصد أبناء الظلام ... ألم تعلن السلطة عن دعوتها للحوار معهم وجاء 
وفد من الشعب الأصفر لبداية الحوار ... لماذا نخاف من الاقتراب إذن ..هه..؟ "
وسكت الشرطي.. 
كان شيخاً قد جاوز الخمسين لكنه وقف حائراً تائهاً لا يعرف كيف يرد على ذلك الفتى اليافع ..
ـ " ما اسمك أيها الشاب ...؟ "
ـ " نادر...من شرق المدينة ..."
رتب الشرطي عاتقه في رفق قائلاً :
ـ " تعال إذن معي بعيداً ... المكان هنا خطر جداً .."
دفع نادر كفه بعيداً وصاح بحنق :
ـ " خطر!... كيف سنتحاور إذن مع ذلك الخطر ...؟ "
ـ " ليس هذا من شأنك .."
جاءت العبارة القاسية الحازمة من خلفهما فأجفلا ... 
تراجع رجل السلطة للخلف ممتقعاً وهو يؤدى التحية العسكرية بيد ترتجف 
على حين ظل الشاب على وقفته المتحفزة كالسهم الذى يستعد للانطلاق في أيه لحظه ...
ـ " السيد وسام شخصياً .."
مد السيد وسام كفه ناحيه الفتى مصافحاً ولم ينكر الشاب مدى قوة الشخص الذى يواجه..
كأن تياراً كهربائياً مر عبر أعصابه وهو يصافحه ...
ـ " أنت شاب من شبابنا الواعد كما أرى.. ولا يتوجب عليك أن تقف من سلطتك هذا
الموقف الحانق المتشكك ..." 
حاول نادر السيطرة على أعصابه وهو يقول :
ـ " أريد فقط أن أفهم .."
نظر وسام في ساعته قائلاً :
ـ " ليس الآن..."
ـ " لماذا ...؟ "
ببطء يرفع وسام عينيه إلى الشاب ..وبهدوء وثقة يكرر :
ـ " ليس الآن.."
هنا وجد الشاب حشداً مرعباً من رجال السلطة في الأزياء الرسمية يحول بينه 
و بين السيد وسام حتى لا يكاد يرى سوى صلعته اللامعة وعينيه العميقتين المطمئنتين....
نظر إليه نظرة متسائلة بمعنى : هل اطمئن؟.. فنظر إليه وسام نظرة أبوية مطمئنة بمعنى :
اطمئن هذا وعد .. و بينما حمل نادر حملاً بعيداً عن المشهد عقد وسام كفيه خلف
ظهره ورمق المكان في برود قائلاً :
- " هل المكان جاهز..؟ "
اقترب منه سليمان ساعده الأيمن و همس في أذنه بشيء ما .. فرفع ساعته إلى عينيه و قال :
ـ " على بركة الله..."
بعدها ظهرت السيارة الدبلوماسية تحمل شعار الشعب الأصفر و بداخلها وفد الحوار الموعود ....

***

تم اختيار الفجوة بعناية فائقة ..
وقام الفريق ب بوضع أجهزة دقيقة وتوصيلها بأسلاك متصلة ببعض
الشاشات و أخرج الأشقر آلة حاسبة و أخذ يضرب أخماس في أسداس و بعد ساعة 
أعلن أن هذه الحفرة أو الفجوة مثالية تماماً ...
كان السيد وسام يراقبه من داخل عربة خاصة من وراء منظار داكن و بيده اليمنى 
تناول علبه عصير ورقيه و قام برشف رشفات منها ثم التفت
متسائلاً إلى سليمان الجالس إلى جواره بالسيارة :
ـ " هل أحضرتم بعض اللب و الفول السوداني ...؟ "
قال معاونه في هدوء :
ـ " اعتقدنا أن السيد الأشقر سيكون أكثر تسلية من اللب و الفول السوداني يا سيدى .."
بالفعل كان مسلياً وهو ينبطح على وجهه جوار الحفرة و يسترق السمع.. 
ثم يعتدل و يخلع سترته و يشمر عن ساعديه معلناً أنه مستعد الأن للنزول..
كان هناك عدد لا بآس به من كاميرات التليفزيون وكاميرات عدة قنوات عالمية 
و محلية تنقل الحدث الجلل لحظه بلحظه..
الحدث العالمي .. اللقاء المرتقب مع أبناء العالم السفلى تتبناه حكومة الشعب الأصفر ..
ـ " الأن سأنزل و معي الفريق ب مزودين بكاميرا لنقل الحدث .. 
لا حراسه و لا سلاح ... هذا هو القانون ... اليوم سنكشف لكم جانب خفي
ظل مستوراً لعقود عن الطائفة الظلامية ..."
و همس سليمان في أذن السيد وسام :
ـ " ترى هل سيعود ...؟ "
ضغط وسام على أسنانه و قال :
ـ " سيعود ... بنى الأصفر لا يتهورون .. و لا يضحون برجل مثل نوسام ." 
ثم ألقى نظرة من أسفل منظاره الداكن على نوسام والفريق ب وهم يثبون
داخل الحفرة حاملين معدات التصوير اللازمة... وعاد ليقول لمعاونه في حسم :
ـ " من أجل هذا تم تكليفي بتلك العملية.."
الملايين علت شهقاتهم المنبهرة بما فعله نوسام وفريقه منذ ثانية واحده.. 
مذاعاً بالبث الحى عبر الاقمار الصناعية.. يا لشجاعته!.. يا لبسالته!.. 
وتفانيه من أجل قضية الحوار .
هكذا كانت عبارات الإعجاب و الانبهار عبر شعوب العالم ...
واحد فقط أبتلع كل هذا بداخله وحافظ على هدوء أعصابه رغم ما يعتمل في نفسه
من قلق و شك و ريبه.. هذا الواحد هو وسام رجل الشعب الأمني ... 
قال لمعاونه في برود لا يخلو من حدة :
ـ " شغلوا البث المباشر..." 
كانت سيارته مزوده بجهاز مرئي صغير الحجم لكنه أستطاع رؤيه ما يحدث بدقه ...
حشد الصحافة والإعلام يتابعون ما يجرى داخل الفجوة عبر شاشة مرئي مسطحه ..
كان الأشقر يتحرك داخل الفجوة الأرضية في حذر..
تأملته أم نادر في انبهار عبر الشاشة و هي تضع صفحة الطعام أمام ولدها لكنه
كان قد استعاض عن الطعام بأصابعه التي كان يعض عليها متابعاً الأحداث على الشاشة ..
ـ " إنه يشبه ذلك الممثل الذي يحبه أخوك مدحت.."
نظر لها نادر ولم يعلق ..ابتلع أفكاره وعاد يتابع العرض ..
الأشقر يتعثر يعتدل فيتنفس المشاهدين الصعداء... 
كان نوسام يقدم عرضاً سينمائياً لا تستطيع معه أن تغمض عينيك... 
ممر ضيق طويل يبدو بلا نهاية و يبدو من صوت أنفاس الأشقر أن الهواء 
بدأ يقل و من قلبه دعي عليه السيد وسام بأن يلفظ أنفاسه الأخيرة..
هنا سمع المشاهدون عبر الشاشات صيحة الأشقر المنتصرة ..
ـ " مرحى... هل ترون ما أرى ...؟ "
ولمح المشاهدون ذلك الجسد النحيل المضطرب يتحرك من اليمين لليسار
و سمع الكل صيحة حادة أشبه بصيحة وطواط منزعج
ـ " تعال يا صغيري ... لا تخشى شيئاً.. بابا جاء إليك للحوار..
أعرف أنك مبعوث من قبل عشيرتك... أعرف أنك تفهمني مثلما أفهمك ...
دعنا نثبت للعالم أنكم أناس مسالمون..." 
مره أخرى تحرك الجسد النحيل و بدا للحظه وجهه أمام الشاشات 
فعلت صيحات الدهشة و الفزع من ملايين المشاهدين و رجال الصحافة المحيطون بالفجوة ... 
أما وسام فقد أراح ذقنه على راحته وهو يتمتم :
ـ " إنه هو ..كما توقعنا .."
قال سليمان في بطء حذر :
ـ " كان ينبغي أن نبيد تلك الطائفة الملعونة.."
لم يعلق وسام ..وعاد يتابع المشهد ..
كان نوسام الآن قد جلس متربعاً.. 
جذب نفس عميق ثم تمتم في انبهار وهو ينظر في الجهة التي يختبئ فيها الكائن :
ـ " مذهل ... لقد حدث تبدل مزرى لهذه الطائفة البائسة..." 
و تحركت الكاميرا لتتركز الصورة على الكائن ... 
كان شبيهاً بالبشر في أطرافه مع نحول شديد وشحوب في البشرة 
وله عينان واسعتان جداً و شفتين و أذنيه تشبه أذني الوطواط...
وشعره أسود فاحم منسدل على كتفيه و يرتدي معطف طويل أسود ومهترئ..
ـ " مصاص دماء.."
هكذا تمتم نادر وهو يتأمل الكائن على الشاشة..
بالفعل هذا هو ما كان يبدو عليه ذلك الكائن بالنسبة لغالب المشاهدين .. 
حتى أن الأشقر بدأ يتحسس عنقه وهو يقترب منه حثيثاً ..
ـ " هل تفهم لغتي...؟ " 
لمعت عينا الكائن للحظه ثم .. انفرجت شفتيه فبرزت أسنانه الحاده لتزيد الطين بلة..
وشهق نوسام وحبس المشاهدين أنفاسهم .. و 
ـ " نعم أفهم ..." 
ودوت الشهقات المذهولة عبر حناجر ملايين المشاهدين... 
المفاجأة كانت مذهلة... وصاح الأشقر مهللاً :
ـ " مرحي... أنتم تتكلمون بلغة الشعب الأسمر...
هذا سيسهل مهمتي و سيوضح قضيتكم أمام العالم ... 
العالم كله الأن يستمع إليكم ... و لأول مرة بعد عقود من الاضطهاد و العنف الذى عانيتموه في القاع..." 
مرة أخرى تلكم الكرابيج تهوى على أذن وسام ...
هذا التبكيت الموجه كالصواريخ الموجهة.. لابد أن صاروخاً وصل لحجرة السيد المسئول الأكبر
الأن وهو جالس يتابع الأحداث من مكتبه ...
كان وسام يعرف أن حكومة الشعب الأصفر تصطاد في الماء العكر 
و أنها ستستغل قضية الكائنات الظلامية أسوأ استغلال ...
لكن المدهش هنا بالنسبة لأبناء شعبنا هو: كيف قررت تلك الكائنات الوحشية 
أن تبدل سياستها مع سكان السطح و تقرر الجلوس على مائدة الحوار؟.. 
و لماذا يتم هذا مع بنى الأصفر... وسام يعلم أنهم يجيدون لغتنا لأنهم أصلاً
من بنى شعبنا و لأنه واجههم كثيراً و له معهم ملف حافل بالأسرار...
لكن المدهش هنا هو هذا الكائن الذى جاء ليوصل للعالم رسالة ما من عشيرته...
رسالة ربما تقلب العالم على رؤوس سلطة شعبنا.... 
كان يتكلم الأن بصوت كالفحيح يتناسب مع هيئته التي تشبه الصورة التقليدية لمصاصي الدماء ...
ـ " لم تمتد إلينا أيدي البشر إلا بالقتل و الحرق..." 
اعترض نوسام قائلاً : 
ـ " تقصد أيادي شعبكم الأسمر فأنتم بشر مثلهم لكنه القهر الغير مبرر.." 
ـ " نحن لا نفرق ... كل الكائنات التي تحيا في النور تتشابه ... "
ـ " صدقني هذا التشابه شكلي فقط ... و إلا ما أرسلت من قبل شعبي الأصفر
لإجراء هذا الحوار معكم ... نحن نختلف عن الأخرين ."
ـ " إنه لمن دواعي سرور شعبنا الظلامي أن يجد أخيراً من يستمع 
إليه... نحن طائفة عاشت لعقود طويلة تحت الأرض و في الكهوف لكننا لم ننس أصلنا أبداً ...
لكن البعض حاول على مدار السنوات أن يجعلنا ننسي ... و نقنع بباطن الأرض ... 
و نحن نعلم أولادنا جيل بعد جيل ... أننا و أبناء ظهر الأرض إخوة لكنهم بغوا 
علينا و لابد أن نعود يوماً للسطح و ننعم بالضياء مثلهم ."
مسح نوسام عبرة كادت تغادر مقلتيه!.. ثم قال في تأثر :
ـ " هذا فظيع !..." 
ـ " مهما تكلمت أيها السيد القادم من السطح فلن أعبر عما يجيش به شعبنا 
من مشاعر المرارة و الحسرة و الظلم ... و لم يكتف إخواننا بهذا بل أثاروا حولنا الشائعات
المغرضة التي زادت من الفجوة بيننا و بينهم فوق الأرض ..." 
ـ " لا تظلم جميع إخوانك ... لعلها طبقه معينة تتحكم بمصير هم على مدار العقود
و تعمى عيون الجميع عن الحقيقة ..." 
ـ " أعرفهم ... و نسميهم عندنا تنانين النار ... لأننا لم نري منهم سوى الحرق بالنيران ..." 
قالها ثم خلع رداءه واستدار كاشفاً ظهره للكاميرا ..
فظهرت فقرات ظهره جلية مع عظام قفصه الصدري و معها علامات 
حرق بشعه جعلت نوسام يكتم فمه بكفه مانعاً شهقة جزع عارمة!...
كان ظهر الكائن الظلامي قد حفرت فيه أخاديد بفعل النيران ..
" لا أحد يغامر بإنزال قوات شرطية لتلك البؤر .. لذا ..يتم ضرب تلك البؤر
القريبة للكائنات بالنابلم .." 
كانت قبضة وسام تسحق علبه العصير الورقية وكان من داخلة يصرخ :
هذا عبث .. هذا خطر ..هذا للأسف لا يمكن إيقافه لأنه يشاهد من قبل الملايين .. 
وكان الكائن الظلامي قد عاد بوجهه للشاشات ليستطرد : 
ـ " نحن لا نطالب إلا بحقنا في النور .. أن تلسع جلودنا حرارة الشمس و ننعم بضيائها .. فهل تسمحون ..؟ "
تنحنح نوسام ثم قال في جدية :
ـ " أيها السيد الظلامي .. باسم شعبنا الشعب الأصفر .. أبلغكم تضامننا الكامل مع قضيتكم ..
و دعمنا الكامل لكم في حياة متكافئة مع إخوانكم فوق الأرض... 
و ستتحمل حكومة شعبنا عبء التفاوض مع شعبكم حتى يسمح 
لكم بالعيش معكم على السطح سواء بسواء .."
و مد يده إليه مصافحاً وهو يكمل بدبلوماسية :
ـ " شرفت بلقائكم .. أنا نوسام مندوب الشعب الأصفر."
ومد إليه الكائن كفاً نحيلة باردة وهو يقول :
ـ " شرفت بلقائكم .. أنا يسرم مندوب الشعب الظلامي .."
وكان التصافح الحار عبر الشاشات و أمام ملايين المشاهدات وتحت سيل العبرات..
يقول بكل وضوح أن الأيام القادمة حبلى.. 

***

 

 

 

amrmuostafa

عمرو مصطفى

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 406 مشاهدة
نشرت فى 27 فبراير 2016 بواسطة amrmuostafa

ساحة النقاش

عمرو مصطفى

amrmuostafa
قصص وروايات ومقالات »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

57,313