إهداء للسيد سليمان..

***

أشياء عديدة دفعتني دفعاً ؛لاتخاذ ذلك القرار الصعب ..

كلنا يعلم طبيعة عملنا الأمني وقواعده الصارمة ؛لابد أن تظهر خلاف ما تبطن ..لابد أن تغلف مشاعرك بجبل من الجليد ..

لكن حتى جبل الجليد يمكنه أن يذوب إذا ثار البركان الذي بداخله ..

أنا أمر بتلك اللحظة حالياً ..

 جبل الجليد الراسخ في سبيله للتخلى عن جموده وسرعان ما سيقذف بالحمم في كل صوب ..

ساعتها لا أحد يضمن النتائج ..

الرؤساء يعلمون جيداً تاريخي في الجهاز والتشدق كلمة لا وجود لها

في عملنا القائم على التفاني والكتمان ..لذا لاسبيل لإساءة الظن بي

وتفسير طلبي على غير المراد ..

لقد سقطت القشة التي قصمت ظهري يوم عدت مؤخراً من الخارج

بعد عملية الليل البهيم ..عدت للديار التي تفانيت في حفظها وحياطة

أمنها  على مدار ربع قرن من الزمان ..عدت كي أهنأ باستراحة محارب ..

يلتقط الأنفاس من ثم يعود ليمطتي جواده وينطلق مرة أخرى إلى الميدان ..لاداعي ههنا لذكر مواقف أسرية وعاطفية لم نتعود على البوح بها في عملنا .. المهم أنني بعد جلسة أسرية حميمة قررت أن

أجوب شوارع العاصمة ..

جولة حميمية  أعانق فيها الشوارع والميادين ..أتأمل بني وطني

بتركيز كأنني  أبحث في ملامحهم عن الأشياء التي نضحي في سبيلها بأرواحنا ذاتها ..وينتهي بي المطاف حيث مرسى النهر الخالد

لحظات من التأثر تدغدغ مشاعرك وتكاد تجرفك مع أمواج النهر

إلى حيث المصب لكنك تملك كبح جماح مشاعرك وراء جدار من الصلب ترسمه ملامحك باحتراف ..لا أحد يتخيل ولا أحد يمكنه أن يستشف شيئاً من وراء قناعك البارد ..

جلست بأحد الكافيتريات  التي تطل على الكورنيش وطلبت مشروباً شرقياً دافئاً ..

الأن أقترب أكثر من الناس البسطاء ..أراهم  وهم يحتسون

المشروبات الغازية !..يتهامسون ..يضحكون ..أشعر بالفخر والانتشاء وأجد أن ابتسامة  طفل أمن في حضن أمه تستحق ربع قرن من التضحيات ..

***

أسرة لطيفة كانت تجلس بجانبي مكونة من زوج وزوجة وطفل

لم يتجاوز الثلاث سنوات .. أسرة لطيفة أكلت كميات هائلة من الطعام و شربت كميات مريعة من المشروبات الغازية القاتلة ..لابد أن الحساب سيكون (على النوته).. لكنها كانت أسرة لطيفة على كل حال ..

بعد قليل حدث ما توقعته وانتظرته.. قام الزوج متثاقلاً واتجه للنادل

وسأله عن الحمام ..وبعد أن غاب الزوج  قامت الزوجة وحملت طفلها واتجهت إلى حيث ذهب زوجها وتركت خلفها حقيبة يدها الجلدية ..أسرة لطيفة تدفع الأن ثمن المأكولات والمشوبات غالياً ..

في الحمام !...

لكن يبدو أنهما قررا ألا يدفعا الثمن مرتين ..

 بعد نصف ساعة جاء النادل محنقاُ وتناول حقيبة يد الزوجة وقلبها . كانت خاوية!..

الخديعة ضلع أساسي في عملنا الأمني لكننا نقوم بخداع الأعداء لا خداع بعضنا البعض ..

أشفقت على النادل أحمر الأذنين فناديته ..التفت إلى كمن يستفيق من حلم مفزع .. أخرجت حافظتي وأنا أسأله في هدوء :

ـ أريد أن أدفع حساب الزوجين ..

صاح في لهفة :

ـ هل تعرفهم ؟..

ـ أنا لا أعرفهم ..فقط أعرف أنهم لن يعودا ليدفعا لك الحساب ..

بعد إلحاح شديد قبل أن يأخذ مني الحساب .. كان ممتناً وهو يردد  الكثير من عبارات الشكر ..والكثير من اللعن على الزوجين معدومي الضمير لكنني كنت مهموماً بأمر أخر فصرفته برفق وعدت لتأملاتي.. ربع قرن من الكفاح في سبيل أسرة تتهرب من دفع حساب المشروبات !..

بعد قليل دخل شاب وفتاة  وجلسا  في نفس الطاولة التي كان يجلس عليها زوجي النصابين .. الشاب كان قد حول شعره إلى شجرة كريسماس هائلة وكان فخوراً بذلك أما الفتاة فكانت تلبس عقداً ثميناً لذا قررت من باب تقليل التكاليف الاكتفاء بلبس العقد على ما يبدو ..

كنت أتوقع الأسوأ.. والأسوأ جاء سريعاً مريعاً ..

شجرة الكريسماس لم تفلح في إخفاء العبث الفج والانحلال المزري.. قد أتفهم ذلك في بلاد الأعداء وأنا مشمئز ..لكن هنا ..في وطني !..

بعد دقيقتين كنت أغادر الكافيتريا ووجهي البارد محتقن من أثر المجهود الخرافي الذي أبذله في سبيل كتمان مشاعري الحانقة ..

غادرت فقط لأصطدم بمظاهرة لشباب حانق يصر على أن الإصلاح يبدأ بحرق السيارات والمنشئات العامة والتحلية برجال الشرطة ..

أين هؤلاء وأين نحن..؟

هل يعرف هؤلاء ما يحيق بهذا الوطن من المخاطر ..هل لو علموا

لظلوا على ما هم عليه ..  هل ذهبت أعمارنا سدى ؟..

في تلك اللحظة الفارقة ..اثناء محاولتي للخروج بسيارتي  من وسط الزحام والهتافات قبل أن تتحول إلى كومة فحم ..اتخذت القرار الحاسم الذي من أجله قدمت تلك المقدمة .. أنا لن استطيع  أن أقف مرة أخرى في وجه الخطر بظهر مكشوف ..كفاني ربع قرن من الكفاح المتواصل ..

لذا أرجوا من السادة الرؤساء تفهم طلبي والتكرم بقبول .....

 استقالتي ..

انتهيت من إلقاء خطبتي العصماء ووقفت هنيهة أتأمل وجهي الجامد في المرآة ..

 لقد وقفت هذه الوقفة عشرات المرات على مدار ربع قرن وفي كل مرة لا يتجاوز قرار استقالتي حديثي لنفسي أمام المرآة ..

أنا أعرف نفسي جيداً ..وأعرف أنني لم أضيع عمري في سبيل أسرة تتهرب من دفع حساب الكافيتريا ولا من أجل شباب ماجن ولا من أجل متظاهرين يخربون بيوتهم بأيديهم ..

كل هذه الصور المحزنة لم تفت في عضدي يوماً ولم تثنيني عن أداء مهامي..

وكنت دائماً ما أهمس لنفسي بذلك البيت من الشعر العربي

القديم، مسلياً ومعزياً :

" بلاد ألفناها على كل حالة

  وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن ..

ونستعذب الأرض التي لا هواء بها ..

  ولا ماؤها عذب ولكنها وطن .."

 

                         ***          

                                                   عمرو مصطفى 

                                   الجمعة 20  جمادى الأول 1435 هـ

                                      21  مارس 2014 مـ

 

 

 

 

 

 

amrmuostafa

عمرو مصطفى

  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 261 مشاهدة
نشرت فى 22 مارس 2014 بواسطة amrmuostafa

ساحة النقاش

عمرو مصطفى

amrmuostafa
قصص وروايات ومقالات »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

57,313