النقلة الحضارية كانت مذهلة بحق ..لقد عدت  للوراء  عدة قرون .. لا عشرات الكيلومترات ..
تشممت الهواء النقي  الذي يدغدغ رئتي وأنا أتامل عالمي الجديد
من نافذة سيارة النقطة التي تنهب الأرض مثيرة خلفها عاصفة من الأتربة ..
القرية المصرية الأصيلة كما يقول الكتاب.. الحقول والقنوات التى تغذيها كالأوردة والفلاحين محنيو الظهور يقلبون الأرض بالفؤوس القصيرة ..البيوت الطينية المتناثرة هنا وهناك .. الأطفال الملوثين بالأوحال والخولي العتيد الذي يركب الحمار ويرتدي طربوش على منديل قماش أصفر ينسدل على كتفيه يتقي به حر الشمس وهو يزعق في هذا وينهر هذا ...
والكل ينظر لسيارة النقطة التي استقلها بنوع من الرهبة والتوقير
ورفع الأكف لتحيتنا بطريقة عسكرية مضحكة.. هنا قطع أفكاري صوت الشويش ديريني الذي يقود سيارة النقطة حيث قال وهو يرسم على وجهه الصخري أشنع ابتسامة يمكنك أن تراها واهتز شاربه الذي يقف عليه طائر الرخ :
- نورت كفور الصوالح يا فندم ..
أومأت له برأسي في غير اكتراث وسألته وأنا أرمق أبراج الحمام:
- هل هناك غيرك في النقطة ..؟
- الشويش عبد الرحيم  يا افندم ..لكنه في أجازة يا افندم..
 نقطة قوتها مكونة من ثلاثة أفراد .. تحمي قرية تعدادها حوالي ألفي نسمة .. كان ذلك نوع من الترف المبالغ فيه ..هبطنا من سيارة النقطة وجرى دريني ليحضر حقائبي على حين وقفت واضعاً كفيا في خاصرتي أتأمل نقطة كفور الصوالح..مقر عملي ومقر اقامتي كذلك ..مبنى حكومي بائس مدهون بالجيرمن طابقين الطابق الأرضي هو النقطة الفعلية والطابق الثاني غرفة الاستراحة ومقر الضباط  القادمين  من محافظات أخرى مثلي .. وجاء دريني مهرولاً بحقائبي ليبدأ سلسلة من التعارف بيني وبين النقطة ..
 الرفيق ديريني لا يكف عن الثرثرة  بعبارات الترحيب التي يجيدها القرويين والتي لا أدري من أين يأتون بها .. لكل كلمة رد مناسب منمق كنت بحاجة لمفكرة أكتب بها مصطلحات الرفيق ديريني التي قد أحتاج إليها يوم ما  ..كنت منهكاً من الرحلة فأمرته أن يضع حقائبي  وينصرف لحاله  .. تأملت الاستراحة التي صارت مقري الدائم هنا في كفور الصوالح فراش عليه ملاءة مليئة بالرقاع والبقع البنية والصفراء وخزانة ثياب تشبه توابيت مصاص الدماء بجوارها ستارة يبدو أنها تداري  وراءها مطبخ أو جثة متعفنة لعلها سبب تلك الرائحة ..هناك نافذة تشبه نوافذ الزنازين تطل على الحقول الممتدة إلى مالا نهاية الرائحة  كانت تدير رأسي حتى أنني بحثت عن الدلو العتيد الذي يضعونه للمساجين لقضاء حاجتهم .. فلم أجد فتنفست الصعداء .. لم يصل الأمر لهذا الحد بعد ..لكن ..إذا لم يكن هناك دلو فأين الحمام إذن..؟
 نظرت في ذعر للبقع الصفراء التي تلطخ ملاءة السرير .. وهززت رأسي مستبعداً الفكرة المقززة ..جلست على المقعد المجاور للفراش يبدو أنه يستعمل كأريكة للاستلقاء والاستمتاع بقرص الناموس والبراغيث في الليالي المقمرة ..وتأملت الستارة التي تغطي شئ ما وراءها ..ترى هل هذا هو المطبخ أم ..مددت يدي إلى الستارة بجوار الفراش وأزحتها ثم أطلقت شهقة فرح عارمة ..
لقد وجدت الحمام يا سادة ...
 
                      ***                                
ولقد جاء هذا الكشف في وقته تماماً... والكشف التالي كان بعد عدة أيام وجاء صادماً ..
                               
الأيام في كفور الصوالح تشبه بعضها بعضاً كحبات الخرز في مسبحة ولعلك بحاجة إلى قطعة من الطباشير كي تميز بها بين الأيام التي تترى .. كل شئ يتكرر بحماس منقطع النظير ..حتى المشاكل التي قد تدخل في نطاق عملك .. نفس المشاكل ونفس الوجوه ونفس الإدعاءات ونفس النهايات .. في النهاية يتعانق الفلاحان المتشاجران وهما يلعنان الشيطان الذي أوقع بينهما .. وتجد نفسك مضطراً لتمزيق المحضر بدلاً من تمزيقهما وأنت تردد من بين أسنانك : الأيام في كفور الصوالح تشبه بعضها بعضاً كحبات الخرز  في مسبحة ..
حتى دعوات عمدة القرية  هي سلسلة من الدعوات الروتينية المليئة
بأصناف الطعام الدسم الذي يعطيك نفس إحساس البنج ..وتتسائل كيف يستطيع هؤلاء الحركة بعد كل هذا الدسم .. العمدة كان عبارة
عن خمس عمد تم حشرهم في جبة وقفطان ..ومع ذلك كان خفيف
الحركة والروح كذلك وهو كسائر أهل القرية طيب القلب لكنهم
يهابونه هنا بشدة ويتحاشون النظر إليه ..
 
وفي المساء أعود  للنقطة متخماً لأنصت على ضوء القمر إلى حكايات الديريني التي يصدع بها رأسي وهو يصب لي الشاي الأسود القاتل  ..لكنها تبدو كذلك كحكاية واحدة تتم روايتها في كل مرة بشكل مختلف ..
وهي في غالبها تتراوح بين حكايات النداهة التي جعلت خاله يجن ويلقي بنفسه في الرياح .. وعن خاله مرة أخرى الذي قابل جنية  يوما عند الرياح وهو عائد من الحقل ..و لعله بدا لها  فاتناً وهو عائد من الحقل ملطخاً بالطين لأنها عرضت عليه الزواج ..قلت له وأنا أرشف رشفة قوية من الشاي الأسود القاتل :
- خالك جن من النداهة ؟  أم عرضت عليه الجنية الزواج ...؟
- لا لا .. يا فندم ..خالي الذي جن غير خالي الذي عرضت عليه الجنية الزواج ..أنا لي أربع أخوال ..
-  وكلهم حمقى ..؟
نظر لي مفكراً في بلاهة كأنما يجري عملية حسابية لعدد الحمقى في عائلته ثم قرر أخيراً أن ينفجر ضاحكاً على دعابتي بافتعال لا شك فيه وهو يثني على خفة دمي التي لم يعهدها مع الضباط السابقين الذين خدموا في القرية ..ثم عاد ليذكر لي حكاية  عمه الذي مات ثلاثة أيام ثم عاد للحياة من قبره ..
وهكذا يأتى الديريني على كل أقاربه فلم يبق منهم أحداً لم تخطفه جنية الرياح أو جن بسبب النداهة أو اشتعل به الحمام لأنه قرر شرب الدخان وإلقاء عقب السيجارة في الحمام فوقع على قفا أحد الجان ..
هذة الحكاية بالذات جعلتني أخشى حمام غرفتي وأفكر جدياً في أستعمال الدلو كبديل مؤقت ..
 
تباً لذوق القرويين ..
أي تسلية تلك في ليل الحقول  التي تترامى أمامك بلا نهاية  حيث تلعب الظلال لعبتها الأبدية ..
لم أكن أومن بتلك الأشياء لكنني لم اتخلص بعد من موروثات الخوف الطبعي الأولي الذي ورثناه عبر القرون ..  
الخوف ..الخوف ..ذلك الشئ الأبدي الذي لا مفهوم له يتحرك تحت جلدك محدثاً القشعريرة الشهيرة ويتحول جلدك لجلد أوزة .. وينتصب الشعر في مؤخرة رأسك .. تباً لك يا ديريني الكلب ...
وأخذت أذرع غرفتي جيئاً وذهاباً وأنا أقرأ في كتب الشيوعية والماركسية بصوت مسموع ..كنت أول من استعمل تلك الكتب  بحسب علمي  في طرد الجن والأرواح ..جن وأرواح ..!!
لكنني لا أومن إلا بالمادة التي لها وزن وكثافة .. هنا ظهر لي ماركس بثيابه التي لا تمت لواقعنا بصلة وكان يرغي ويزبد :
-        

<!--[endif]-->

هل جئت ههنا لتغير أم لتتغير ..
توقفت في منتصف الغرفة متسائلاً :
-        

<!--[endif]-->

بماذا تنصحني إذن كي اتغلب على مخاوفي ..
أشار عبر النافذة إلى الحقول المترامية وقال في حزم :
-        

<!--[endif]-->

تحدى الخوف ..
وتسمرت عيناي على النافذة المطلة على الحقول الانهائية ..
ولم لا ..
 
                                                     ***
من الذي يخشى الحقول في الليل ..؟
من قال أن الحقول تخيف في الليل .. ؟ ها أنا ذا أسير وسط الحقول  الممتدة إلى ما لا نهاية  ..
 أنا لا أخشى شيئاً ..مجدي سليمان لا يخشى أساطيركم يا أهل كفور الصوالح .. صوت صرصور الغيط ونقيق ضفادع القنوات كأن لسان حالها يتسائل عن ذلك الأحمق الذي يظن نفسه ليس كذلك .. القمر يشرف على المشهد ويضفى عليه لمسة ساحرة .. فلولاه لصارت الرؤية مستحيلة ههنا ..لاشئ سوى صوت صرصور الغيط ونقيق الضفادع ..
هل هذا هو كل مالديك يا كفور الصوالح .. ؟ صراصير وضفادع ..
أين شياطينك ونداهتك وعنقائك إن كنت تعرفين شيئا كهذا ..؟
أين ذلك الأحمق ديريني ليرى أن ...
أعووووووووووووووووو ..
ازدرت لعابي  متحسساً مسدسي الميري القابع تحت أبطي ..ذئاب !
هذا هو التجديد الحق يا كفور الصوالح ..حقول  بدون ذئاب مثل صحراء بدون عقارب ..  هنا سمعت صوت حفيف ..توقفت.. فعلاً صوت الحفيف قادم من هذه الجهة .. و ..و رأيته .. مشكلة تلك الكلاب السوداء التي تبرز لك من بين الحقول .. مشكلة حينما تظهر ومشكلة حقيقية حينما تختفي كانها لم تكن هنالك .. عقلي عجز عن التفسير لكن فيما بعد رجحت أنه خداع بصري ناتج عن الخوف الطبعي ..لكن قل لي  هل جربت الهرولة في الليالي المقمرة وسط الحقول ..؟
إذن فاتك الكثير يا رفيق .. أنا جربت ..جربت جداً
 وشعرت أنني سأصاب بالذبحة الصدرية لو لم اتوقف عن الجري..لابد أن أتوقف ..حتى صرخات كارل ماركس لم تجعلني اتوقف ..المشكلة يا رفيق في كيفية إقناع ساقيا بالتوقف ..؟
 مرت دقائق كأنها ساعات وأيام وسنوات لعل الشيب انتشرفي شعري وانا أعدو كالمجانين ..أخيراً قررت ساقيا الاستجابة  والتوقف ..هنا لمحته قادماً من الاتجاه المقابل  .. كان الشويش ديريني قادماً ومعه كلوب في يده اليمنى ومعلقاً بندقية على كتفه  وعلى وجهه أثار النوم ولما لمحني واقفاً ألهث صاح في جزع :
 
- خير يا فندم ..لقد لمحتك وأنت تتجه بمفردك للحقول ..هل حدث لك مكروه ..؟
قلت له بأنفاس متلاحقة  :
- لا شئ يا ديريني .. كنت أقوم بجولة ليلية ..
- بمفردك يا فندم ..هذا خطر جداً ..
قلت في شمم :
-  أنت لم تعرفني بعد يا ديريني ..
ثم تحركت في تؤدة متجهاً جهة اليسار فصاح بي ديريني :
-        

<!--[endif]-->

الطريق من هنا يا فندم ..
فقلت له في شمم    :
-        

<!--[endif]-->

تمويه يا غبي ..
كانت هذه ليلة استثنائية  من ليالي كفور الصوالح ..كسرت فيها حاجز الملل ..وتصورت أنني سأعود مرة أخرى لرتابة أيامي
وكنت واهماً .
 
                             ***
                             
























































































amrmuostafa

عمرو مصطفى

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 295 مشاهدة
نشرت فى 27 أغسطس 2013 بواسطة amrmuostafa

ساحة النقاش

عمرو مصطفى

amrmuostafa
قصص وروايات ومقالات »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

57,315