أخلاق العمل في الإسلام
الدكتور: مفرح بن سليمان القوسي[1]
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرَف الأنبياء والمرسَلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فللأخلاق أهميَّة بالغةٌ في حياة الإنسان؛ لما لها من أثرٍ كبيرٍ في سلوكه وما يصدر عنه من أفعال، ولأنَّ سلوك الإنسان مُوافِق لما هو مستقرٌّ في نفسه من معانٍ وصِفات، فكلُّ صفةٍ تظهر في القلب يَظهَر أثرُها على الجوارح، فأفعال الإنسان موصولةٌ دائمًا بما في نفسه من مَعانٍ وصِفات صلةَ فروعِ الشجرة بجذورها الضاربة في باطن الأرض.
وعليه يمكن القول: إنَّ صَلاح أفعال الإنسان مُرتَبِطٌ بصَلاح أخلاقِه؛ لأنَّ الفرع بأصله؛ فإذا صلَح الأصل صلَح الفرع، وإذا فسَد الأصل فسَد الفرع؛ يقول - تعالى -: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾ [الأعراف: 58].
وتُمثِّل الأخلاق ركنًا أساسًا في حياة الإنسان فردًا وجماعة، وضرورةً إنسانيَّة لازمة لحياة المجتمعات، وبدونها يُصبِح الإنسان ذئبًا يعدو على أخيه الإنسان، ولا يمكن عندئذٍ إقامة حياة اجتماعية سليمة.
وللأخلاق في الإسلام مكانةٌ عظيمة جِدًّا؛ فهي جوهر الإسلام ورُوحه السارية في جميع جوانبه، وهي أحد أقسام الأحكام الشرعيَّة الثلاثة التي شرعها الله لعِباده المسلمين[2]، ولهذه المكانة العظيمة دلائل كثيرة يَضِيق المقام عن ذكرها هنا[3].
وكما عُنِي الإسلام بالأخلاق عُمومًا، فقد عُنِي أيضًا بأخلاق العمل خصوصًا كما سيتبيَّن - إن شاء الله - من خِلال النصوص الشرعيَّة التي ستَرِدُ معنا لاحِقًا.
وهذا البحث المُوجَز إنما هو إضاءات سريعة تُسلِّط الضوء على أبرز ما شرعه الإسلام من أخلاقٍ في جوانب العمل المتعدِّدة.
وقد اشتَمَل البحث على:
مقدمة، وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة.
التمهيد
أولاً: تحديد مصطلحات البحث:
1- الأخلاق:
"الأخلاق" في اللغة العربيَّة: جمع "خُلُق"، وهو بضم الخاء واللام: السجيَّة والطبع، والمروءة والدِّين[4].
وأمَّا "الخُلُق" في اصطِلاح العلماء، فقد عرَّفه الغزالي بأنَّه: "هيئة في النفس راسِخة، عنها تصدُر الأفعال بسهولةٍ ويسرٍ، من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورَوِيَّة، فإنْ كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعًا سُمِّيت تلك الهيئة خلقًا حسنًا، وإنْ كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سُمِّيت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا[5].
وعرَّفه الأصفهاني بأنَّه: "اسمٌ للهيئة الموجودة في النفس التي يصدر عنها الفعل بلا فكر"[6].
كما عرَّفه ابن القيِّم بأنَّه: "هيئة مُرَكَّبة من علومٍ صادقة وإرادات زاكية، وأعمالٍ ظاهرة وباطنة مُوافِقة للعدل والحكمة والمصلَحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، فتكسب النفس بها أخلاقًا هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها"[7].
2- العمل:
"العمل" في اللغة العربية: المهنة والفعل، وجمعه أعمال، و"العامل": هو الذي يتولَّى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾ [التوبة: 60]، وهم السُّعاة الذين يَأخُذون الصدقات من أربابها[8].
و"العمل" في الاصطِلاح: هو كلُّ نشاطٍ جسمي أو عقلي يقوم به الإنسان بهدف الإنتاج في مؤسَّسة؛ حكوميَّة كانت أو خاصَّة، أو في حرفة أو مهنة[9].
والعمل بهذا المفهوم الشُّمولي لفظٌ واسع الدلالة، تدخُل فيه مفاهيم ألفاظ كثيرة، هي: الوظيفة، والحرفة، والمهنة.
فالوظيفة: هي العمل الذي يقوم به الموظف في القِطاع الحكومي أو الخاص الذي ينتَمِي إليه في مجالات العمل الكتابي أو العمل الإداري ونحوه.
والحرفة: هي العمل اليدوي والبدني الذي يُمارِسه الحرفي في الورشة أو المصنع أو الخدمة في البيوت ونحوها، وليس بالضرورة أنْ يكون إتقان مَهارات هذا العمل الحرفي عن طريق الدراسة النظريَّة المكثَّفة، بل يُمكِن اكتِساب ذلك عن طريق تكرار المشاهَدة والتجرِبة.
وأمَّا المهنة: فهي عملٌ يشغَله العامل بعد أنْ يتلقَّى دراسةً نظرية كافية وتدريبًا عمليًّا طويلاً في مراكز علميَّة أو معاهد وجامعات متخصِّصة، فالمهنة تتطلَّب مجموعةً من المهارات والمعارِف النظريَّة والقواعد التي تُنظِّم العمل بها[10]، كمهنة الطب والهندسة والتعليم.
وبناءً على ما تقدَّم يمكن القول بأنَّ كلَّ وظيفةٍ عملٌ، وكلَّ حرفة عملٌ، وكل مهنة عمل.
3- أخلاق العمل:
يُراد بها هنا: مجموعة المبادئ والمُثُل والقِيَم الفاضلة التي حَثَّ الإسلام على تَمَثُّلها والالتِزام بها في أداء العمل.
ثانيًا: أهميَّة العمل ومكانَته في الإسلام:
للعمل في الإسلام مكانةٌ كبيرة ومنزلة رفيعة؛ حيث ينظر الإسلام إليه نظرةَ احتِرام وتكريم وإجلال، ولذلك مظاهر كثيرة في دين الله، أبرزها ما يلي:
أولاً: أنَّ الإسلام قرن العمل بالجهاد في قوله - سبحانه -: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20].
ثانيًا: أنَّه اعتَبَر العمل جهادًا، فقد رُوِي أنَّ بعض الصحابة رأوا شابًّا قويًّا يُسرِع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فردَّ عليهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان خرَج يسعى على ولده صِغارًا فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان))[11].
بل إنَّ عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - يفضِّل العمل والكسب على الجهاد؛ حيث يقول: "لَأَنْ أموت بين شعبتي رَحلِي أَضرِب في الأرض أبتغي من فضل الله أَحَبُّ إليَّ من أنْ أُقتَل مُجاهِدًا في سبيل الله؛ لأنَّ الله - تعالى - قدَّم الذين يضرِبون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين"[12]، يعني في قوله - تعالى - في الآية الآنِف ذكرُها ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20].
ثالثًا: أنَّ الإسلام جعَل الإرهاق والإجهاد من العمل من مُكفِّرات الخطايا والذنوب؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفورًا له))[13].
رابعًا: أنَّ الله - سبحانه - خفَّف على عِباده قِيام الليل من أجْل انشِغالهم بالعمل بالنهار؛ حيث يقول - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20].
خامسًا: أنَّه - سبحانه - جعَل العمل سنَّة أنبيائه ورسله بالرغم من انشِغالهم بالدعوة إلى الله وتبليغ رسالته إلى أممهم وأقوامهم؛ يقول - سبحانه -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20]، يقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "أي: يبتَغُون المعايش في الدنيا... وهذه الآية أصلٌ في تناوُل الأسباب وطلَب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك"[14].
وقد عَمِلَ آدَم في الزراعة، وكان إبراهيم بزازًا، ونوح نجارًا وكذا زكريا، كما كان لقمان خياطًا وكذا إدريس، وكان موسى راعيًا[15]، وأخبر - سبحانه - عن داود - عليه وعليهم جميعًا أفضلُ الصلاة وأَتَمُّ التسليم - أنَّه كان يصنع الدروع؛ فقال - تعالى - عنه: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]، وقال أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10 - 11]، وقد أخبر نبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كان يعمَل برعي الأغنام؛ حيث يقول: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))[16]، كما كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخرج إلى الشام للاتِّجار بمال خديجة - رضي الله تعالى عنها.
لذلك كلِّه حثَّ الإسلام على العمل والسعي في طلَب الرزق؛ يقول - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]، ويقول أيضًا: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "رُوِي عن بعض السلف أنَّه قال: مَن باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارَك الله له سبعين مرَّة؛ لقوله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]"[17]، ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده))[18]، ويقول أيضًا: ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلةٌ فإن استَطاع ألاَّ يقوم حتى يغرسها فليفعلْ))[19].
وقد فقه صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك، فاجتَهدوا في العمل لكسب الرزق؛ حيث رُوِي أنَّ أبا بكرٍ كان بزازًا، وكان عمر بن الخطاب يعمل بالأدم (الجلد)، وكان عثمان بن عفَّان يعمل بالتجارة، وقد أجر علي بن أبي طالب نفسه أكثر من مرَّة ليكسب قوت يومِه[20].
وكان عبدالرحمن بن عوف يعمَل في البز، وكذا طلحة بن عبيدالله، وكان الزبير بن العوَّام وعمرو بن العاص خرازين، وعمل خبَّاب بن الأرتِّ حدادًا، وقام سعد بن أبي وقاص بصنع النِّبال، وعمل عثمان بن طلحة خيَّاطًا، وغيرهم كثيرٌ من الصحابة، وكذا التابعين - رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين[21].
أخلاق العمل في الإسلام
توطئة:
العمل في الإسلام مرتبطٌ بالأخلاق ارتباطًا وثيقًا؛ لأنَّ القِيَم والأخلاق الإسلاميَّة هي التي توجِّه العمل الوجهة الصحيحة، كما سنرى - إن شاء الله - في الصفحات التالية.
وعندما تأمَّلتُ في مجموعة المبادئ والقِيَم الخلقيَّة التي حثَّ الإسلام على تمثُّلها في أداء العمل وجدتُ أنَّه يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى منها في طبيعة العمل، والثانية في العامل نفسه، والثالثة في رب العمل.
ولذا جعلتُ كلَّ مجموعةٍ منها في مبحثٍ مستقلٍّ، وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: الأخلاق في طبيعة العمل:
لقد جاء الإسلام بكثيرٍ من القِيَم الخلقيَّة التي ينبغي على أطراف العمل الالتزام بها، ولعلَّ من أبرز هذه القِيَم ما يلي:
1- مشروعية العمل:
إذا كان الإسلام يحفِّز على العمل، ويدفَع الناس إليه لكي يعيشوا في كرامةٍ وعزَّة، ويترك الحريَّة لهم في اختِيار أيِّ عملٍ بدني أو ذهني يخدم المجتمع، ويدفع بالأمَّة إلى طريق التقدُّم والرُّقي في كافَّة المجالات، فقد جعَل الإسلام العمل المشروعَ من أبرز المبادئ التي ينبغي أنْ يقوم عليها طلب الرزق، فالواجب على كلِّ مسلم تحرِّي العمل المشروع المباح واجتِناب جميع الأعمال التي نهى عنها الإسلام وحذَّر منها؛ يقول - تعالى - مُوجِّهًا لذلك: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، ويقول - تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 267].
"فالمسلم مُطالَب بأنْ يأكُل من حَلال، وإذا أنفق فعليه أنْ يُنفِق من طيِّبات ما كسب، ولا يتحقَّق ذلك إلا بأنْ يكون العمل الذي اختاره وعَمِلَ فيه مشروعًا قد أباحَه الإسلام"[22].
ويعني ذلك أنَّه لا يجوز للمسلم أنْ يعمل في أيِّ عملٍ يعدُّه الشرع معصية، كما أنَّه لا يجوز له أنْ يعمل عملاً يُؤدِّي إلى مفسدة، وهو ما يُطلَق عليه في العرف الحديث "الكسب غير المشروع" أو "العمل غير اللائق".
"وخلاصة آراء الفُقَهاء في مشروعيَّة العمل والكسب الحلال: أنَّ عمل المسلم وكسبه يجب أنْ يكونَا من وجهٍ مشروع، فعلى المسلم أنْ يتحرَّى وجوه العمل والكسب قبل الإقدام عليها، فإنْ وجدَه عملاً حَلالاً طيبًا عمل فيه، وإنْ كان عملاً مشبوهًا أو غلب عليه الحرام فعليه اجتنابه"[23].
كما أنَّ الإسلام حرَّم كلَّ عملٍ من شأنه إهلاكُ العامل أو إلحاق الضرر به، وذلك وفق قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وقد قصَد الشارع الحكيم بذلك حفْظ الضروريَّات الخمس للإنسان وأوجب حمايتها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل.
ولكي تتحقَّق حماية هذه الكليَّات الضروريَّة والمحافظة عليها، اعتَبَر الإسلام أنَّ كلَّ عملٍ يخلُّ بها أو يؤثِّر عليها أو يكون سبيلاً إلى ذلك من الأعمال المحرَّمة التي يجب على المسلم اجتنابها والبعد عنها، ومن جملة هذه الأعمال المحرَّمة العملُ في صنْع الأصنام، وإنتاج الخمر، والعمل بالقمار، والميسر، والربا، والرشوة، والسحر، وتربية الخنازير، والسرقة، وقطع الطريق، والتغرير بالناس وخداعهم، وكذا الأعمال التي تؤدِّي أو تُعِين على فعل الحرام، أمثال: جمع العنب أو بيعه لِمَن يجعله خمرًا، وبيع السلاح لِمَن يُحارِب المسلمين أو يهدِّد أمنهم، والعمل في أندية وملاهي فساد الأخلاق والاعتداء على الأعراض[24].
2- إبرام عقدٍ للعمل:
شرع الإسلام إبرامَ عقدٍ للعمل بين العامل وربِّ العمل، يتمُّ الاتِّفاق فيه على أمورٍ مهمَّة جدًّا، تَضمَن تحقيق العدل بين طرفي العقد، واجتناب التنازُع والخصام بينهما، وهي:
أ- بيان نوع العمل وحجمه.
ب- بيان المدَّة أو الزمن المشروط للعمل.
ج- تحديد أجرة العمل.
وجعَل الإسلام أساس هذا العقد ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، والتزامًا بصفات المؤمنين المذكورة في قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].
والحكمة من الأمر بالوفاء بالعقد هنا ترجع إلى أنَّ العقد شريعة المتعاقِدين فيما لا يُخالِف الشرع، فهو الضابط الذي يَحكُم العلاقة بين الطرفين، ويجعَلُها تسير في طريقٍ مأمون العثار، وهو الذي يحدِّد حقوق وواجبات كلٍّ منهما تحديدًا واضحًا، فتبقى العلاقة بينهما في إطارها الأخلاقي الصحيح[25].
3- إسناد العمل إلى مَن تَتوافَر فيه الكفاية له:
يوجِّه الإسلام إلى عدَم إسناد العمل إلا لِمَن تتوافَر فيه الأهليَّة والكفاءة لهذا العمل؛ يقول - تعالى - على لسان يوسف - عليه السلام -: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، فعبَّر بقوله: "إني حفيظ عليم" عن توافر الكفاءة فيه لتولِّي خزائن أرض ملك مصر، ويقول - سبحانه - على لسان ابنة الرجل الصالح شعيب حين طلبت من أبيها استِئجار نبيِّ الله موسى - عليه السلام -: ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]، فعبَّرت بقولها: "القوي الأمين" عن توافر الكفاءة فيه للعمل عند أبيها في رعي الماشية والقيام على شؤونها.
ولَمَّا طلب أبو ذرٍّ - رضِي الله عنه - من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يستعمِلَه في الولاية ضرَب بيده على منكبه ثم قال: ((يا أبا ذرٍّ، إنَّك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلاَّ مَن أخَذَها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها))[26].
فأبو ذرٍّ هنا لا تنقصه الأمانة، فهو صحابي جليل من صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما الذي ينقصه الكفاءة، وهو ما أشار إليه - عليه الصلاة والسلام - بقوله: ((يا أبا ذرٍّ، إنَّك ضعيف))، والمقصود أنَّ في طبع هذا الصحابي الجليل لينًا ورقة لا تناسب ما تقتَضِيه الولاية من قوَّة وشدَّة تُرهِب الظالم المعتَدِي وتردعه عن الاعتداء والظلم.
وقد جعَل - صلَّى الله عليه وسلَّم - من علامات الساعة إسناد العمل إلى مَن ليس له بأهل؛ حيث قال حينما سُئِل: متى الساعة؟: ((إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهلِه فانتظر الساعة))[27].
وقد راعى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته الكرام هذا الأمرَ فيما يخصُّ الولايات والمسؤوليات، فوضعوا كلَّ عامِلٍ في مكانه المناسب، ومن ذلك على سبيل المثال: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - اختار معاذ بن جبل - رضِي الله عنه - ليوليه القضاء في اليمن؛ لفقهه ورجاحة عقله، واختار مصعب بن عمير - رضِي الله عنه - ليكون داعية الإسلام في المدينة؛ لحكمته وعلمه وحسن أسلوبه، واختار عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - عامِلاً على الصدقات؛ لحزمه وعدله، واختار خالد بن الوليد - رضِي الله عنه - قائدًا للجيش؛ لمهارته وحنكته العسكرية، واختار بلالاً - رضِي الله عنه - لبيت المال؛ لزهده وتَقواه وحسن تَدبِيره، واختار أبو بكرٍ - رضِي الله عنه - زيدَ بن ثابت - رضِي الله عنه - لمهمَّة جمعِ القرآن؛ لعلمه وقوَّة حفظه...
فيجب أنْ يكون معيارُ اختِيار العامل وتوظيفه هو أهليَّته لهذا العمل، لا قرابته من المسؤول أو صداقته، أو وجود مصلحة شخصيَّة في اختياره وتقديمه على غيره، أو نحو ذلك من المعايير الزائفة.
إنَّ الأمَّة التي تَشِيع فيها المحاباة والوساطات، وتَعبَث فيها المصالح الشخصيَّة بالمصالح العُليَا لها، فتَتجاهَل أقدارَ الأكفاء وتُهمِلهم وتقدِّم عليهم مَن دونهم - لا شكَّ أنَّ ذلك سيُولِّد لديها اضطرابًا، ويُوجِد عندها ضعفًا وعجزًا يدبُّ في أوصالها ومختلف مؤسَّساتها، ويُعِيق تقدُّمها ونموَّ اقتصادها ويضعها في آخر الرَّكب بين الأُمَم.
4- التكليف بالمستَطاع من الأعمال:
من مَزايا دينِ الإسلام أنَّه لا يُكلِّف بأمرٍ يشقُّ على الناس القيام به؛ يقول - تعالى -: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، ويقول: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، ويقول أيضًا: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وينبغي من هذا المنطلق ألا يُكلَّف العامِل بعملٍ يؤدِّي قيامُه به إلى هلاكه أو إلحاق الضرر به، فضلاً عمَّا يشقُّ عليه القيام به.
وقد أكَّد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ذلك فقال: ((إنَّ إخوانكم خَوَلُكم جعلَهم الله تحت أيديكم، فمَن كان أخوه تحتَ يده، فليُطعِمه ممَّا يأكل، وليُلبِسه ممَّا يلبَس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم))[28].
يقول ابن حجر - رحمه الله - في تعليقه على الحديث: "ويلتَحِق بالرقيق مَن في معناه من أجير وغيره"[29].
5- أداء الواجبات قبل المطالبة بالحقوق:
ومن المبادئ والقِيَم الخلقيَّة التي ينبغي الالتِزام بها في طبيعة العمل الحرصُ على أداء الواجبات قبلَ المطالَبة بالحقوق، فهذا ما ينبغي أنْ يكون عليه خُلُقُ المسلم في علاقته ببني جنسه، سواء كان عاملاً أم رب عمل أم أي طرف من أطراف عقد العمل، فيبدأ أولاً بأداء ما عليه من واجبات، ثم يُطالِب بعد ذلك بحقوقه المشروعة، ذلك أنَّ الواجب الذي يؤدِّيه أيُّ طرفٍ من أطراف العقد هو في الحقيقة حقٌّ للطرف الآخر.
ولو التزم أطراف العقد بهذا المبدأ الخلقي زالت أسباب الخلاف والنِّزاع بينهم، وسادَتْ روح التعاون والإخاء في أجواء العمل، ممَّا سيكون له الأثر الإيجابي الفاعل في سرعة إنجاز العمل وكميَّته وجودته.
ولقد أكَّد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على هذا المبدأ الخلقي في تقريره حقوق الله - عزَّ وجلَّ - وحقوق عباده؛ حيث صَحَّ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال لمعاذ بن جبل - رضِي الله عنه -: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟))، قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((أنْ يُعبَد الله ولا يُشرَك به شيءٌ))، قال: ((أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟))، فقال: الله ورسوله أعلم، قال: ((ألاَّ يعذِّبهم))[30].
المبحث الثاني: الأخلاق في العامل نفسه:
لقد جاء الإسلام بكثيرٍ من القِيَم الخلقيَّة التي ينبغي على العامِل أنْ يلتَزِم بها ويحرص عليها في أداء عمله، بغضِّ النظر عن نوع الوظيفة أو الحرفة أو المهنة التي يُزاوِلها، بحسبان هذه القِيَم صفات أخلاقيَّة ومبادئ إسلامية واجبة على كلِّ مسلم مهما كان موقعه من العمل الذي يُمارِسه، ولعلَّ من أبرز هذه القِيَم ما يلي:
1- القوة:
"القوَّة" في اللغة العربية: نقيض الضعف[31]، وتُستَخدَم تارةً بمعنى القدرة كما في قوله - تعالى -: ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ [البقرة: 63]، وتارةً أخرى بمعنى التهيُّؤ الموجود في الشيء، نحو أنْ يُقال: النوى بالقوَّة نخلٌ؛ أي: متهيِّئٌ ومترشِّح أنْ يكون منه ذلك.
وهذه القدرة تكون في البدن، وهي قوَّة حسيَّة؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]، وتكون أيضًا في القلب وهي قوَّة معنويَّة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12][32]، "أي: تعلَّم الكتاب بجدٍّ وحرص واجتهاد"[33].
وينبغي أن يتَّصِف العامل بصفة القوَّة الحسيَّة والمعنويَّة؛ ليكون مُؤَهَّلاً للعمل الذي يقوم به، وذلك بأنْ يتَّخذ جميع الوسائل والأساليب المشروعة التي تجعَلُه قويًّا في بدنه وجاهزيته للعمل وقويًّا في جدِّه واجتهاده، وقويًّا في معلوماته ومهاراته وفي إدراكه لاحتِياجات ومتطلَّبات العمل الذي يَرغَب في القِيام به؛ ليُحَقِّق أقصى درجات الخدمة للمنتَفِعين من هذا العمل؛ ولذا جاء وصْف موسى - عليه الصلاة والسلام - على لسان ابنة الرجل الصالح شعيب بـ"القوي الأمين".
وتختَلِف محددات "القوة" ومعاييرها من عملٍ إلى آخَر، وذلك بحسب طبيعة هذا العمل والقدرات الذاتيَّة اللازمة للقِيام به، يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "والقوَّة في كلِّ ولاية بحسبها؛ فالقوَّة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب، وإلى القدرة على أنواع القتال، والقوَّة في الحكم بين الناس ترجع إلى العمل بالعدل الذي دَلَّ عليه الكتاب والسنَّة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألاَّ يشتري بآياته ثمنًا قليلاً، وترك خشية الناس[34].
2- الأمانة:
وهي من أهمِّ الأخلاق التي يجب أنْ يتَّصِف بها العامل؛ لأنها من الدِّين، ولثقلها أبَت السماوات والأرض والجبال حَمْلَها وحمَلَها الإنسان، كما قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، ووَرَد في القرآن الكريم ما يؤكِّد أهميَّة هذا الخُلُق الكريم في العامل في أكثر من موضع، من ذلك على سبيل المثال قولُه - تعالى -: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]، وقوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27]، وقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُؤَكِّدًا على أهميَّة الأمانة: ((لا إيمان لِمَن لا أمانة له))[35]، ويقول كذلك: ((أدِّ الأمانة إلى مَن ائتَمنَك، ولا تخن مَن خانَك))[36].
"والأمانة في نظَر الإسلام واسعة الدلالة؛ فهي ترمز إلى معانٍ شتَّى، مناطها جميعًا شعور المرء بتبعته في كلِّ أمرٍ يُوكَل إليه، وإدراكه الجازم بأنَّه مسؤولٌ عنه أمامَ ربه على النحو الذي فصَّلَه الحديث الكريم: ((كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته؛ فالرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ وهي مسؤولةٌ عن رعيَّتها، والخادم في مال سيِّده راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته))[37] [38].
وللأمانة هنا معانٍ وصورٌ كثيرة، منها:
1- أنْ يحرص العامِل على وقت العمل، وأنْ يستثمره في سرعة إنجاز العمل الموكول إليه، وأداء واجبه كاملاً في عمله؛ مصنعًا كان أو مزرعة أو متجرًا أو مكتبًا أو غيره، وعدم إضاعة الوقت وتبديده في الانشِغال بأمورٍ لا علاقة لها بالعمل، سواء كان ذلك داخل مقرِّ العمل أو خارجه، ويقتضي ذلك منه أنْ يرعى حقوق الناس التي وُضِعت بين يديه؛ فليس أعظم خيانة من رجل تولَّى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعَهَا.
2- أنْ يجتنب في أداء عمله الغشَّ بكافَّة أشكاله وصُوَرِه، فهو محرَّم شرعًا؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن غشَّنا فليس مِنَّا))[39].
3- ألاَّ يستغلَّ موقعه في العمل لجرِّ منفعة شخصيَّة له ولقرابته وصداقته، أو للاستِيلاء على المال العام بطُرُق ملتويَة، أو لصرف العهدات الماليَّة ونحوها في غير ما خُصِّصت له، أو للتكسُّب المادي غير المشروع؛ كتلقِّي الهدايا والرَّشاوَى مقابل خدمات وتسهيلات للمُهدين أو الراشين.
يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن استعمَلناه على عملٍ فرزقناه رزقًا، فما أُخِذَ بعد ذلك فهو غلولٌ))، وفي روايةٍ أخرى: ((مَن استعملناه منكم على عملٍ فكتمنا مخيطًا فما فوقَه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة))[40].
ويقول - عزَّ وجلَّ - عن هذا الغلول: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
ويَروِي الإمام البخاري في "صحيحه" عن أبي حميدٍ الساعدي - رضِي الله عنه - أنَّه قال: استعمَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً من بني أسدٍ يُقال له: ابن الأَتبِيَّة على صدقة، فلمَّا قدم قال: هذا لكم وهذا لي، فقام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المنبر فحَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بالُ العامل نبعَثُه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأمِّه فينظر أيُهدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيءٍ إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إنْ كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَرُ))، ثم رفَع يديه حتى رأينا عفرتي إبطَيْه وقال: ((ألاَ هل بلغت)) ثلاثًا[41].
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنَّه قال: "لعن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الراشي والمرتشي"[42].
4- المحافظة على أدوات العمل وأجهزته ومعدَّاته ووسائله، وعدم استِخدامها أو تسخيرها لقضاء مصالح شخصيَّة ومنافع ذاتيَّة، للعامل أو لمعارفه وأصدقائه ومَن له مصلحة معهم؛ ذلك أنَّ هذه الأدوات والأجهزة والمعدَّات أمانة عند العامل أيًّا كان عمله، وسيُحاسَب يوم القيامة إنْ فرَّط في المحافظة عليها، وقد تقدَّم معنا حديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته)).
5- المحافظة على أسرار العمل وكتمانها، فذلك من الأخلاق الحميدة التي حَثَّ عليها الإسلام، وجعَل لها ثوابًا جزيلاً وفضلاً عظيمًا عند الله وفي حياة الناس.
وهذا الخُلُق الكريم من أقوى أسباب النجاح، وأدوم لصلاح الأحوال وتحقيق الطموحات، يقول الماوردي: "اعلم أنَّ كتمان الأسرار من أقوى أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح"[43].
ويقول أبو حاتم البستي: "مَن حصَّن بالكتمان سِرَّه تَمَّ له تدبيرُه، وكان له الظَّفَر بما يُرِيد، والسلامة من العيب والضَّرَر، وإنْ أخطَأَه التمكُّن والظَّفَر"[44].
ولا يقدر على هذا الخلق النبيل إلا مَن اتَّسَمت شخصيَّته بقوَّة الصبر والوفاء والأمانة، وكان من أصحاب العزائم القويَّة، يقول علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه -: "سِرُّك أسيرُك، فإن تكلَّمتَ به صرتَ أسيره"[45].
ويقول عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -: "القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئٍ مفتاح سرِّه"[46].
ويقول أبو حاتم البستي: "والحازم يجعل سرَّه في وعاء، ويكتمه عن كلِّ مستودع، فإن اضطرَّه الأمر وغلَبَه أوْدَعَه العاقل الناصح له؛ لأنَّ السرَّ أمانة، وإفشاءَه خيانة"[47].
وقد ورَد في القرآن الكريم الأمر بحفْظ السر ضمنًا في آية الوفاء بالعهد؛ لأنَّ السرَّ من العهد؛ يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34]، ولذا نبَّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحد أمرائه في العراق - وهو أبو عبيد بن مسعود الثقفي - إلى هذا الخلق الكريم بقوله: "وأحرز لسانك ولا تفشينَّ سرَّك؛ فإنَّ صاحب السر ما يضبطه متحصن لا يُؤتَى من وجهٍ يكرهه، وإذا ضيَّعه كان بمضيعة"[48].
فينبغي على العامل المحافظةُ على أسرار عمله، ولأنَّ إذاعة هذه الأسرار قد تترتَّب عليها كثيرٌ من الأضرار على طبيعة العمل نفسه، وكذا على المُرتبِطِين بالعمل موظفين وعاملين ومراجعين، ولا شكَّ أنَّ بعض معاملات المراجعين تحوي أسرارًا لا يحسن اطِّلاع الناس عليها، ممَّا يتعلَّق بأمورٍ شخصية ومسائل عائليَّة خاصَّة هي ملكٌ لأصحابها.
3- إتقان العمل:
من القِيَم الخلقيَّة المهمَّة في مجال العمل والإنتاج إحسانُ العمل وإتقانُه، ذلك أنَّ الإسلام يَحُضُّ على إتقان العمل وزِيادة الإنتاج، ويعدُّ ذلك أمانة ومسؤوليَّة، فليس المطلوب في الإسلام مجرَّد القيام بالعمل، بل لا بُدَّ من الإحسان والإجادة فيه وأدائه بمهارة وإحكام؛ فذلك مدعاة لنَيْل محبَّة الله ومرضاته - سبحانه - يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله يحبُّ إذا عمِل أحدُكم عملاً أنْ يُتقِنه))[49]، ويقول أيضًا مُرَغِّبًا في هذا الخُلُق الفاضل وحاثًّا عليه: ((إنَّ الله كتَب الإحسان على كلِّ شيءٍ؛ فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتلَة، وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذبح، وليُحِدَّ أحدكم شفرتَه وليُرِح ذبيحته))[50].
ومن إتقان العمل: شعورُ العامل بالمسؤولية تجاه ما يُوكَل إليه من عمل، وحسن رعايته لعمله، وتطويره، والإسراع في إنجازه، وبذْل الوسع والطاقة في اجتِناب الوقوع في الأخطاء في أداء العمل وإنتاجه، وألاَّ يفرِّق بين عمله في قطاع حكومي أو مؤسَّسة خاصَّة وعمله لخاصَّة نفسه، فهو مُطالَب بإتقان العمل وإجادته وإحسانه سواء كان له أو لغيره.
وممَّا يُعِين على إتقان العمل:
أ- أنْ يختار العمل الذي يُناسِبه ويستطيع أداءَه بكفاءة ومقدرة، فمن غير المناسب أنْ يختار عملاً لم يُؤَهَّل له ولا يستطيع أداءَه.
ب- أنْ يعرف العامل متطلَّبات العمل ومستلزماته؛ كي يَتمَكَّن من الوَفاء بها على الوجْه الأمثل.
إنَّ إتقان العمل وأداءَه بصدقٍ وإخلاص إنما يَزِيد من الإنتاج وينمي الاقتصاد، وهذا يَعُود بالنَّفع والفائدة على العامل نفسه، وعلى ربِّ العمل، وعلى المجتمع كذلك.
4- الإخلاص:
من لَوازِم الأمانة الإخلاص في العمل وعدم التهاوُن به؛ لأنَّه لا يمكن القِيام بالعمل على أكمل وجهٍ وأحسنه إلاَّ إذا تحقَّق فيه الإخلاص من العامل نفسه؛ فالإخلاص هو الباعث الذي يحفِّز العامل على إتقان العمل، ويدفعه إلى إجادَتِه، ويُعِينه على تحمُّل المتاعب فيه، وبذْل كثيرٍ من الجهد في إنجازه، وتوافر هذا الخلق الكريم في العامل من العوامل الرئيسة التي تَحُول دون وقوع الخلل والانحِراف عن الطريق الصحيح في أداء العمل، فهو بمثابة صمام الأمان ضدَّ الفساد بكلِّ صوره وأشكاله.
ومن معاني الإخلاص وصوره المتعدِّدة وجودُ الرقابة الذاتيَّة في العامل، ومبعث هذه الرقابة إحساسُ العامل واستِشعاره بأنَّ الله - تعالى - يرى سلوكه وكلَّ تصرُّفاته في أداء عمله، وأنَّه سائله عنها ومُجازِيه عليها يوم القيامة؛ يقول - تعالى -: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ �
ساحة النقاش