اليوم العالمي للعصا البيضاء 15 تشرين أول/ أكتوبر:
"تحية إلى كل من لا يستطيع أن يرى ويقرأ هذه السطور"
بقلم الدكتور غسان شحرور ..جمعية اليرموك للأسرة
لا أستطيع أن أنسى صديقي"أحمد"، وهو طالب جامعي مكفوف، قابلته ولأول مرة، في غرفة الإسعاف، عندما راجعني وقد أصيب بجرح كبير في وجهه، إثر تعثره في الشارع المؤدي إلى منزله. وقد تكرر الحادث معه بعد ثلاثة أشهر، داخل المدينة الجامعية، وقد حدثني في أكثر من مناسبة عن معاناته المتكررة، وذكر لي حوادث كثیرة، تعرض لها أقرانه المكفوفين، فقد بعضهم حياتهم على أثرها، بينما أصيب الآخرون منهم، بكسور وجروح مختلفة، ويرجع "أحمد" ذلك إلى عدة أسباب أهمها عدم ملائمة منازلنا وشوارعنا ومراكزنا التجارية والصحية، وبلداتنا بشكل عام لحاجات هؤلاء المكفوفين، فهناك الحواجز والحواجز، والصعوبات الكثيرة التي تواجه المكفوفين في كل مكان وزاوية من مجتمعنا، وكذلك يرجع إلى عدم اتقان العديد منهم لمهارات "التعرف والتنقل" أو ”التوجه والحركة“، كما یسمیها البعض، والضرورية لكل مكفوف، فلا يدرك الأهل والمجتمع بشكل عام الحاجة إلى هذه المهارات، وأهمية توافر التدريب والتوجيه اللازمين لذلك في كل مراحل التربية والتعليم..
للعصا البيضاء يوم عالمي:
شهد عام 1980 أول احتفال بهذا اليوم العالمي، ولم يكن ذلك إلا ثمرة جهود بذلتها جمعيات المكفوفين من أجل إلقاء الضوء على قدرات وحاجات الأشخاص المكفوفين في العالم، والعصا البيضاء - كما هو معروف- أداة مُساعدة يستخدمها الشخص الكفيف في حياته اليومية فتعينه على الحركة والتنقل هنا وهناك، وتزيد من اعتماده على نفسه في استكشاف وتعرّف الأشياء المحيطة به في المنزل والطريق، فتكون بذلك النور الذي يبدد عالمه المظلم، وقد اختير لها اللون الأبيض تمييزا لها وتعريفا للناس أن من يحملها ويستعملها هو كفيف البصر.
تغتنم الجمعيات والمراكز التي تعني بالأشخاص كفيفي البصر هذه المناسبة العالمية السنوية فتقيم الندوات واللقاءات والمناشط المختلفة من أجل توعية فئات المجتمع المختلفة وتعريفها بالقدرات التي يتمتع بها المكفوفون والإنجازات التي أمكن تحقيقها والخدمات التي تقدمها كما تلقي الأضواء على الصعاب والتحديات التي تواجههم في حياتهم من أجل كسب تأييد المجتمع وحفزه لتذليلها والتغلب عليها.
تمكن العصا البيضاء المكفوف من الحصول على معلومات حول طبيعة الأرض أمامه... عن طريقة انسيابها، شكلها، وغير ذلك، كذلك يستطيع أن يحدد وجود عائق في طريقه، أو وجود درجة، أو حاجز حجري، أو أي تغير في سطح الأرض أمامه.
هناك ميزة أخرى للعصا البيضاء، حيث تعد رمزاً قانونياً، وعالمياً، لكف البصر، فالأشخاص المكفوفون يتجولون بها في الأماكن العامة المختلفة، بين الناس، الذين يعرفونهم من خلال العصا البيضاء، فينتبهون إلى وجودهم فيسارعون إلى تقديم المساعدة إذا اقتضى الأمر.
لقد ازداد الاهتمام باستخدامها والتدرب عليها خلال الخمسين سنة الماضية، وقد شعر الأهل بأهميتها في جعل أطفالهم المكفوفين يتجولون بثقة أكبر، وينتقلون هنا وهناك، ويستكشفون البيئة المحيطة بهم. وتضع الآن الأمم المتحدة اللمسات الأخیرة على ”الاتفاقیة الدولیة الشاملة والمتكاملة لحمایة ودعم حقوق الأشخاص المعوقین وكرامتهم“، والتي تؤكد على حاجات وحقوق المعوقين، لا سيما في ما يتعلق بالتعرف والتنقل.
دعوة إلى إدخال برامج تدريبية لتنمية مهارات "التعرف والتنقل:
نظرا لافتقار معاهدنا وجمعياتنا العاملة مع المكفوفين، شانها في ذلك شأن معظم الدول العربية، إلى برامج تدريبية خاصة لتنمية مهارات "التعرف والتنقل" لدى المكفوفين، فإننا ندعو إلى إدخال هذه البرامج الضرورية، والتوعية بأهميتها لحياة المكفوفين الاجتماعية، ليس فقط للأطفال والشباب منهم بل إلى فئة الكبار أيضاً، ومما يتضمنه التدريب:
- استكشاف وفهم البیئة.
- التدریب على استخدام الحواس ا لأخرى.
- التدریب على ا لاستعانة بما تبقى من البصر) البقایا البصریة)
- تقنیة المرشد المبصر.
- التجول بواسطة العصا البیضاء.
- التدریب واكتساب الخبرة في التجول في المنزل أو المدرسة بالإضافة
إلى المسكن، مكان العمل، المرافق العامة، مركز المدینة أو القریة.
- استخدام وسائط النقل العامة.
- غيرها.
تحية لا بد منها:
وفي هذا اليوم لا بد أن نتوجه بالتحية والتقدير إلى أبناء مجتمعنا من المكفوفين، الذين لا يستطيعون رؤية وقراءة هذه السطور، من خلال تحية عائلاتهم، وجمعياتهم، ومراكزهم ومؤسساتهم، والعاملين فيها، ومن خلال تحية المتطوعين ومنظماتهم، التي قدمت وتقدم خدمات جليلة للأسرة والمجتمع، تسهم في بناء مجتمع متماسك، یعیش فیه مواطنوه جنبا إلى جنب، یتمتعون فیه جمیعا بكرامتهم، وكامل حقوقهم.
ولا أنسى في هذه العجالة ما قالته لي إحدى السیدات الكفیفات، خلال لقاء للمتطوعين في إحدى الجمعيات الأهلية:
”إن إصابتي الحقیقیة، لیست في بصري، الذي فقدته منذ خرجت إلى الحیاة،إنها في المجتمع الذي یأبى أن یتقبلني كما أنا مواطنةً عادیةً“
لقد تركت هذه الكلمات في نفسي أثراً كبیراً....
نعم.. لقد فقدَت البصر، لكن بصیرتها یفتقدها الكثیرون.
لم يمنع فقد حاسة البصر العديد من الأشخاص المكفوفين من التفوق والإبداع ولم يكن ذلك ممكنا لولا إرادتهم القوية ومساندة أُسرهم ومجتمعاتهم. وفي هذه المناسبة لا يغيب عن ذاكرتنا العديد من الأدباء والشعراء والموسيقيين والمبدعين الذين برزوا وقدموا إسهامات كبيرة للمجتمع الإنساني كالشاعر الإغريقي "هومر" صاحب الإلياذة الشهيرة، و الأديب الإنجليزي "جون ميلتون"، و "هيلين كيللر" الأمريكية، و "فاطمة شاه" الباكستانية"، والشاعر الفيلسوف "أبو العلاء المعري"، صاحب "رسالة الغفران"، وعميد الأدب العربي "طه حسين" صاحب العديد من المؤلفات، والذي شغل مناصبا رفيعة، والشاعر البردوني، وغيرهم من الأدباء، والمؤرخين، والتربويين.
ومن يبحث في انتاجهم الفكري، يجد إضافات قيمة للفكر والمجتمع، بل يجد منهم من يفاخر بقدرات وذكاء المكفوف، فهاهو" بشار بن برد" الشاعر المكفوف، يعتقد أن الأعمى أكثر ذكاء من عامة الناس، وأخذ يفاخر بذكائه قائلا:
عميت جنينا والذكاءُ من العمى
فجئت عجيبَ الظن للعلم موئلا
وغاض ضياءُ العين للقلب اغتدى
بقلبٍ إذا ما ضيّع الناسُ حصّلا
وحتى في مجال التصوير البصري، نجده يرسم أروع الصور البصرية رغم فقده حاسة البصر، فيقول:
كأن إبريقنا والقطر في فمه
طير تناول ياقوتا بمنقار
ولا يغيب عن ذاكرتي أيضا قول الشاعر الكفيف:
إن يجرح الدهر مني خير جارحةٍ
ففي البصائر ما يُغني عن
كذلك لا يقتصر النجاح على المبدعين والموهوبين، وإنما يمتد إلى سائر الناس المجتهدين والمثابرين، فهناك أيضا العديد من أمثلة النجاح التي نشاهدها بين الأشخاص المكفوفين في مجتمعاتنا وحياتنا اليومية كبعض المعلمين والمربين، والحرفيين المهرة، ورجال الدين والمجتمع، و لايغيب عن ذاكرتي أكثر من معلمة، وربة منزل، وطالبة من المكفوفات المتفوقات في الحياة والمجتمع.
"بالتعاون مع اليرموك للإعلام الخاص في الهيئة الفلسطينية للمعوقين"
ساحة النقاش