كيف تستقبل يومك؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ولي الصادقين، ورجاء الداعين، والصلاة والسلام على صفوة المرسلين، وعلى آله وأصحابه كواكب الدين، وبعد:
أخي المسلم: ها هي ساعات يومك تنقضي سريعاً، لتعقبها ساعات.. وساعات!
والكل يمضي سريعاً! وها أنت بين ذلك تنتقل من صباح إلى مساء.. ومن مساء إلى صباح!
فهل حاسبت نفسك يوماً، فنظرت في صحيفة يومك، بأي عمل افتتحتها؟!
وبأي عمل ختمتها؟!
قال بكر المزني رحمه الله: "ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: ابن آدم اغتمني، فلعله لا يوم لك بعد! ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا ليلة لك بعد".
كيف تستقبل يومك؟!!
سؤال جديد.. للقاء جديد..في صفحات هذه السلسلة: سلسلة المحاسبة.
فكم من أيام تمضي! وكم من أعمار تنقضي! وقليل أولئك الذين يحاسبون أنفسهم فيها!
قليل أولئك الذين يقرعون النفس بسوط المحاسبة!
تمضي أيام الكثيرين وهم في بحار الغفلة.. ودياجير طول الأمل!
قيل لبعض الحكماء: "بأي نية يقوم الرجل عن فراشه؟
قال: لا يسئل عن القيام، حتى ينظر كيف ينام؟! ثم يسأل عن القيام، فمن لم يعرف كيف ينام، لا يعرف كيف يقوم؟!".
أخي المسلم: ها هي الشمس تشرق وتغرب، فهل حاسبت نفسك يوماً:
ماذا قدمت من الصالحات؟! وبأي الأعمال استقبلت يومي؟!
نعم إن الكثيرين لا يفطنون إلى مرور ساعات يومهم!
ولكن أنفاسك يا ابن آدم معدودة ومكتوبة في تلك الساعات!!
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]
وقال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12]
أنفاس معدودة! وأعمال مكتوبة! لو وقف الغافلون عندها، لاحتاطوا لأنفسهم.. ولأمسكوا عن طريق الغي! ولكن قليل من وفق! وقليل أولئك الذين أبصروا الطريق!
قال بعض الحكماء: "إذا أصبح الرجل ينبغي أن ينوي أربعة أشياء:
أولها: أداء ما فرض الله عليه
والثاني: اجتناب ما نهى الله عنه
والثالث: إنصاف من كان بينهم وبينه معاملة
والرابع: إصلاح ما بينه وبين خصمائه
فإذا أصبح على هذه النيات أرجو أن يكون من الصالحين المفلحين!"
أخي المسلم: لقد جمعت هذه الكلمات أبواب الخير.. فتأمل فيها أيها العاقل.. وحاسب نفسك.. هل أنت من هذا الصنف؟!
فإن كنت منهم، فأكثر حمد ربك تعالى، واسأله المزيد من فضله، والثبات على الرشد.
وإن لم تكن منهم، فراجع الطريق قبل فوات الأوان، واسع إلى إصلاح أمرك، واسأل الله تعالى التوفيق إلى طريق الفلاح..
فيا غافلاً عن ساعات يومه!! اعلم أنك: غير مغفول عنك!
ويا لاهياً! اعلم أنك محصي عليك كل شيء!
ولا يخرج عليك صباح يوم، إلا هو يدعوك إلى ربك تبارك وتعالى..
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان، إنهما ليسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى، خير مما كثر وألهى، وما غربت شمس قط إلا وبعث بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق خلفاً، وعجل لممسك تلفاً».
مساكين أولئك الذين تمضي أيامهم سدى في غير طاعة ربهم عز وجل!
تبزغ شمس يومهم بالمعاصي! ويختمونه عند غروبها بالمعاصي!
فيا مسكين! وهل عمرك إلا أيام، إذا انقضت انقض عليك الموت؟! وإذا جاء الموت، فقد تصرمت أيامك!
اذكر الموت غدوةً وعشية *** وارع ساعاتك القصار الوحيه
هبك قد نلت كل ما تحمل *** الأرض فهل بعد ذاك إلا المنية
قيل لمحمد بن واسع رحمه الله: "كيف أصبحت؟
قال: ما ظنك برجل يرتحل إلى الآخرة كل يوم مرحلة؟!"
وقال دواد الطائي رحمه الله: "إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاضْ من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك".
وقال سحيم مولى بني تميم: "جلست إلى عامر بن عبدالله وهو يصلي، فأوجز في صلاته، ثم أقبل علي فقال: أرحني بحاجتك، فإني أبادر!
قلت: وماتبادر؟!
قال: ملك الموت رحمك الله!
قال: فقمت عنه، وقام إلى صلاته!".
أخي المسلم: هكذا كان الصالحون يعرفون قدر ساعات عمرهم، فيحرصون على إمضائها في طاعة الله تعالى..
فحري بكل عاقل، أن يحاسب نفسه.. ويقودها إلى طريق الطاعات، وهو يستقبل يومه الجديد..
وإذا آواه الليل إلى فراشه أعاد حسابها وسؤالها..
وطريقة المحاسبة كما قال الماوردي رحمه الله: "أن يتصفح في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن الليل أخطر للخاطر، وأجمع للفكر، فإن كان محموداً أمضاه، وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل".
كان ابن عمر رضي الله عنهما: إذا فاتته صلاة جماعة أحيا تلك الليلة، وأخر ذات ليلة صلاة المغرب، حتى طلع كوكبان، فأعتق رقبتين.
وكان الأحنف بن قيس رحمه الله يجيء بالمصباح، ويضع أصبعه فيه، ثم يقول: "حس ثم يقول: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟!! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟!!".
أخي المسلم: هكذا كان الصالحون يحاسبون أنفسهم، فلا تمر ساعات أيامهم سدى.. ولا ينقضي عمرهم في غير طاعة!
فلا يفوتك أيها العاقل، أن كل يوم تحياه، يعد غنيمة ينبغي أن تشكر الله عليها!
قال سعيد بن جبير رحمه الله: "كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة".
حقاً إن كل يوم يحياه المؤمن يعد غنيمة، لأن في ذلك فرصة للاستزادة من الخير، وادخار الصالحات، وفرصة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
ولكن قليل أولئك الذين يفهمون هذا، فينتفعوا بساعات يومهم!
وأما أكثر الناس، فتراهم غافلين عن ساعات يومهم، بل عن ساعات أيامهم، فتمر أيام وأيام، وتنقضي أعمار وهم في غفلتهم!
ألهتهم الدنيا بأمانيها.. وصدتهم عن طريق الرشد بزخرفها! ومد لهم الشيطان حبال الأمل!
قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]
قال الحسن البصري رحمه الله: "ويتولد من طول الأمل، الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه، إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]
أخي المسلم: إن العاقل من جعل أيامه مزرعة للآخرة، فغرسها وسقاها من العمل الصالح، ليحصد ثمارها غداً، يوم لا يجد أمامه إلا ما قدمه من خير أو شر!
والعاقل من علم أن يومه من عمره، فعمل فيه ما ينفعه، وبادر إلى اغتنامه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويسمي كافراً، أو يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
عن مجاهد قال: "قال لي عبدالله بن عمر: يا مجاهد إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك قبل مماتك، ومن صحتك قبل سقمك، فإنك لا تدري ما اسمك غداً".
أخي المسلم: ماذا أعددت في يومك ليوم تفرد فيه في قبرك؟!
هل أنت ممن ألهاك الأمل؟!
أم من المبصرين الذين عملوا في يومهم لغدهم؟
قال نصر بن محمد السمرقندي: "ويقال: الناس بصبحون على ثلاثة أصناف: صنف في طلب المال، وصنف في طلب الإثم، وصنف في طلب الطريق، فأما من أصبح في طلب المال، فإنه لا يأكل فوق ما رزقه الله تعالى وإن أكثر المال، ومن أصبح في طلب الإثم لحقه الهوان والإثم، ومن أصبح في طلب الطريق آتاه الله تعالى الرزق والطريق".
إن الموفق حقاً من أخذ من يومه ليوم حوجته.. وإن الشقي حقاً من ضيع ساعات يومه في غير طاعة ربه تعالى.. ولم يعمل ليوم حوجته.
فأي شقاء أعظم من رجل مد له في الأجل، ثم أتى ربه قليل الحظ من الحسنات؟!
فإن في ساعات يومك مهلة فاغتنمها.. ولا تؤخرن فعل الخيرات إلى غد!
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً *** فثـــنِّ بإحســان وأنــت حميــد
فيومـك إن أغنيتـــه عـاد نفعــه *** عليك وماضي الأمس ليس يعود
ولا تــرج فعل الخير يوماً إلى غد *** لعـــل غـــداً يــــأتي وأنت فقيد
أخي المسلم: إذا دخل يومك الجديد.. فحاسب نفسك.. وراقب عملها في يومك..
ولو حاسب الكثيرين غفلوا عن عيوب النفس وآفاقها، فضاعت أيامهم في غير الطاعات.. ومضى العمر سريعاً وهم لا يشعرون!
فيا من جعلت يومك مطية لشهواتك! أفق.. واعلم بأن العمر مهما طال، فإن أيامه ستنقضي.. وليس بعد ذلك إلا الموت!
فبادر إلى محاسبة النفس.. واعلم بأن الدنيا دار الغرور.. وما وثق بها إلا جاهل غافل!
فإن أصبحت فاستفتح يوك بذكر الله تعالى، كما علمك النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمدلله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور».
وأيضاً: «اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور».
ثم استقبل يومك بنية صادقة، عازمة على فعل الطاعات، واجتناب المعاصي، مع سؤال الله تعالى التوفيق إلى ما يرضيه.
ولا تنس نصيبك من ذكر الله تعالى، فلا يمضين يومك بغير ذكر لله تعالى.
وقم بفرض الله تعالى، الذي افترضه عليك من الصلوات الخمس، وحيث ينادي بهن.
وكف أذاك عن المسلمين، وارحم ضعيفهم وبصر جاهلهم.
وتبسم في وجه أخيك المسلم، فإن ذلك صدقة.
وأحب الخير للمسلمين كما تحبه لنفسك.
ولا تستحقر عملاً من المعروف، وإن كان صغيراً في نظرك.
ولا تدع فرصة تقربك إلى الله إلا اغتنمتها.
واحرص على تكثير رصيدك من الحسنات، كحرصك على تكثير رصيدك من الأموال.
وابتعد عن مواطن الشبهات، وفر بدينك أن يخدش.
وابتعد بنفسك عن كل شيء، يوقعك في معصية الله تعالى، أو يقربك منها.
وأخيراً: اجعل من نيتك دائماً، فعل الصالحات، واجتناب المحرمات، فإن في عقد النية على فعل الخير ثواب وأجر.
أخي المسلم: إن أبواب الخير كثيرة، وليس ذلك إحصاءً لها، وإنما هو تنبيه على بعضها، والموفق من جعل يومه من أيام سعادته، فسعى فيه إلى ادخار خير ذخر من الطاعات، والباقيات الصالحات..
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلاً، كلما غدا أو راح».
باع عبيد بن عبدالله بن عتيبة أرضاً له بثمانين ألفاً.
فقيل له: لو اتخذت لولدك من هذا المال؟!
فقال: أنا أجعل الله عز وجل ذخراً لولدي من بعدي، وأجعل هذا المال ذخراً لي عند الله!"وقسم المال على الفقراء
فتزود أخي المسلم من يومك ليوم معادك.. ولا تملين في صحيفتك إلا ما يسرك غداً أن تراه..
فافتتح يومك بالصالحات.. واختمه بالصالحات..
والحمدلله تعالى، والصلاة والسلام على النبي والآل والأصحاب..
أزهري أحمد محمود
دار ابن خزيمة
موقع وذكر الإسلامي<!-- / message --><!-- sig -->
ساحة النقاش