يتميّز المنهج الإسلامي بإعتماده في تربية الأبناء على مفاهيم العقيدة الإيمانية وسلوكها الفاضل الذي تغفل الأنظمة الجاهلية عنها ولا تتعامل معها، فكان من ثمرات هذه التربية القويمة حسن رعاية الآباء لأبنائهم بروح التضحية والمحبة وبشعور الشفقة والحنان، يقابلها من الأبناء واجب الإحسان بآبائهم وطاعتهم لهم والبر بهم والتكريم القلبي لهم طيلة حياتهم مما يحقق للأسرة سعادتها وطموحاتها ومودتها الدائمة.
برّ الوالدين من أعظم الواجبات الإيمانية: لقد اعتبر القرآن الكريم البر بالوالدين وطاعتهما والإحسان إليهما من أهم الواجبات السلوكية بعد واجب توحيد الله وعبادته مكافأة لهما على تضحياتهما المتفانية في رعاية الأبناء ووفاء بحقوقهما الكبيرة فقال سبحانه: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (النساء/ 36)، كما أوضح القرآن الكريم مواقف البر والإحسان الفريدة التي يجب أن يقفها الأبناء تكريماً لآبائهم فقال جلّ وعلا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 23-24).
وتحمل وصية القرآن الكريم تذكيراً بجهود الأبوين المضنية وما تحملاه من هموم ومشاقَّ في سبيل رعايتهما المتكاملة وما يتوجب لهما من شكر وتقدير بعد شكر الله المنعم فيقول سبحانه: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان/ 14)، ويعلق سيد قطب – يرحمه الله – على هذه الآية الكريمة بقوله: (إنّ الوليد في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولى الذاهب في أدبار الحياة بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة، وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلوه، ولو وقف عمره عليها، والأُم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في إنعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق، روى الحافظ أبو بكر في مسنده بإسناده عن بريدة عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أُمّه يطوف بها فسأل النبي (ص): هل أديت حقها، قال: ولا بزفرة واحدة، هكذا ولا بزفرة في حمل أو وضع وهي تحمله وهناً على وهن".
ولعظيم فضل الوالدين ووجوب البر بهما أوضح الهادي المربي (ص) عجز الأولاد عن مكافأة والديهم مهما بذلوا من جهد وتضحية فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله (ص): "لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه"، ويبشر الهدي النبوي الأبناء بمكافأتهم على بر آبائهم فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله (ص): "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم".
أهم مظاهر البر بالآباء: يشمل برّ الأبناء بآبائهم جوانب سلوكية متنوعة وواجبات تربوية عديدة نذكر أهم مظاهرها التي كلفهم المنهج الرباني بها وبخاصة في فترة استغاء الأبناء عن آبائهم وإستقلال شخصياتهم بما يلي:
أوّلاً: وجوب الإحسان إلى الوالدين وتكريمهما وإظهار محبتهما تقديراً لجهودهما وإعترافاً بفضلهما، وقد أكد الهدي النبوي واجب البر بالآباء وفضله العظيم فعن عبد الله قال: "سألت النبي (ص): أي العمل أحب إلى الله قال: الصلاة على وقتها قال: ثمّ أي؟ قال: برّ الوالدين، قال: ثمّ أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله"، وعن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – عن رسول الله (ص) قال: "بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم فقال بعضهم انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة فادعوا لله بها لعله يفرجها، فقال أحدهم: اللّهمّ إنّه كان ليّ والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالديَّ أسقهما قبل ولدي وإنّه ناء بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أو أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما يتضاغون عند قدميَّ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك إبتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء... إلى آخر الحديث"، ومن معاني الإحسان إلى الوالدين وجوب الإنفاق عليهما عند حاجتهما وحقهما في التصرف في مال أولادهما فعن عائشة قالت: قال رسول الله (ص): "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"، وعن جابر بن عبدالله: (أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال رسول الله (ص): أنت ومالك لأبيك".
ثانياً: وجوب حسن صحبتهما والتلطف في معاملتهما وعدم التضجر منهما أو نهرهما: كما قال سبحانه: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء/ 23-24)، ويوضح ابن كثير – يرحمه الله – هذه الواجبات الخلقية فيقول: "وذلك بأن لا نسمعهما قولاً سيِّئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيِّئ، ولا تنهرهما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح وقل لهما قولاً كريماً أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم مع التواضع لهما بفعلك)، ويؤكد الهدي النبوي هذا الواجب التربوي فعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: (أقبل رجل إلى النبي (ص) فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال: فهل من والديك أحد حي، قال: نعم بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما"، وعن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله فقال: مَن أحق بحسن صحابتي قال أُمّك: قال: ثمّ مَن؟ قال: أُمّك: قال: ثمّ مَن؟ قال: أُمّك، قال: ثمّ مَن؟ قال: أبوك.
ويعلق الإمام السندي في حاشيته على صحيح البخاري عند هذا الحديث بقوله: "يحتمل أن تكريرها لمزيد حقها أو لقلة صبرها فتغضب بأدنى تقصير في مراعاة حقها". ويقدم لنا المعلم الهادي صورة من التلطف بالأبوين ولو كانا من الرضاعة فعن عمر بن السائب (بلغة أن رسول الله (ص) كان جالساً يوماً فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد ثمّ أقبلت أُمّه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثمّ أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله (ص) فأجلسه بين يديه".
ثالثاً: وجوب طاعتهما بالمعروف والتواضع لهما: فقد أوضح القرآن الكريم هذا الواجب في طاعة الوالدين فيما ليس فيه معصية ولو كان الوالدان كافرين لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فقال جلّ وعلا في محكم التنزيل: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان/ 15)، ويفسر ابن كثير معناها بقوله: (إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً أي محسناً إليهما، واتبع سبيل من أناب من المؤمنين، وقد روى الطبراني أن سعد بن مالك قال: نزلت فيَّ هذه الآية: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ)، قال: كنت رجلاً برّاً بأُمّي فلما أسلمتُ قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت، لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال: يا قاتل أُمّه، فقلت: لا تفعلي يا أُمّه فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوماً وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أُمّه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فأكلت". وكان المعلم الهادي يدعو الأبناء إلى طاعة آبائهم بما يكسب رضاهم ويطمئن قلوبهم فعن أبي سعيد: (أن رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله (ص) فقال: هل لك أحد باليمن قال أبواي قال: أذنا لك قال لا قال: فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما".
وعن عبدالله بن عمر قال: "كانت تحتي إمرأة وكنت أحبها وكان أبي يبغضها، فذكر ذلك عمر للنبي (ص) فأمرني أن أطلقها فطلقتها". وقد ربط الرسول المعلم بين رضاء الله ورضاء الوالد فعن عبدالله بن عمرو عن النبي (ص) قال: "رضى الرب في رضى الوالد وسخط الرب في سخط الوالد".
رابعاً: وجوب الإقلاع عن عقوق الوالدين بمختلف صوره القولية والفعلية لأنّه من أكبر الكبائر عند الله وأفدحها خطراً بعد الشرك بالله عزّ وجلّ، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله (ص): "ألا أحدثكم بأكبر الكبائر قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين قال: وجلس وكان متكئاً فقال: وشهادة الزور أو قول الزور فما زال رسول الله (ص) يقولها حتى قلنا ليته سكت"، وقد حذر الهادي النذير (ص) من عاقبة سخط الوالدين ودعائهما على ولدهما، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنّ: دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده"، وعن أبي بكرة عن النبي (ص) قال: "كل الذنوب يؤخر الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنّ الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات".

المصدر: كتاب مزايا نظام الأسرة المسلمة

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,385,738