أكون أو لاأكون تلك هى المشكلة، قالها قديماً شكسبير على لسان هاملت، ونحن نقولها حديثاً: أحب - بكسر الحاء - أو أحب - بفتح الحاء- تلك هى المشكلة، والمشكلة الأكبر هى فى فك الإشتباك أو إزالة اللبس فيما بين الحب والجنس، هذا الإشتباك والإرتباط الذى وصل إلى درجة أن بعض الناس إعتبر الإثنين وجهين لعملة واحدة، واللبس الذى وصل أيضاً فى بعض الأحيان لدرجة أن بعض الناس على العكس من ذلك يؤثم ويدين كل من يلوث الحب - من وجهة نظرهم - بأدران الجنس.
ولكى نفهم التطور الذى طرأ على طريقة تناول المفكرين والمبدعين لهذه العلاقة فيما بين الحب والجنس،علينا أن نعرف أولاً أنه عندما كتب "وليم جيمس" مرجعه الكلاسيكى الهام "مبادئ علم النفس" 1890 كان نصيب الحب فى هذا المرجع الضخم مجرد صفحتين، وفى هاتين الصفحتين عندما تناول العلاقة فيما بين الحب والجنس كتب جيمس"إنها تفاصيل مقززة لانريد الخوض فيها"، ولكن مع التطور ومرور السنين تغيرت هذه النظرة التى تدين والتى تتربص، وتحولت إلى نظرة تحاول أن تفهم وأن تحلل، وصارت الأقلام أقل إرتعاشاً وأكثر جرأة فى تناول هذه العلاقة .
بنظرة سريعة على رواية عشيق الليدى تشاترلى والتى كتبها د.هـ.لورنس فى عام1962 نجد أنه أكثر شجاعة من من جيمس وأكثر صراحة ومواجهة، فالحب عند لورنس يتعمق كلما رفعنا عنه المحظورات، وينمو كلما قل إصرارنا على التعامل معه بأيادٍ معقمة، لأن هذه هى بداية وضعه على أسطوانة الأوكسيجين فى غرفة العناية المركزة.
ولنقرأ هذا الديالوج معاً من تلك الرواية التى هزت الدنيا حين صدورها وهو حوار مابين الليدى تشاترلى وعشيقها
قالت: ولكن ماذا تعتقد؟ قال: لاأعرف .
قالت: لاشئ تماماً مثل الرجال الذين عرفتهم .
ولف الإثنان الصمت للحظات كسرها هو حين أثار نفسه وقال "أنا أعتقد فى شئ واحد، هو أن أصبح دافئ القلب، ملتهب المشاعر بالنسبة للحب، أعتقد فى شئ هام هو أن أمارس الجنس مع قلب دافئ، لو كل الرجال مارسوا الجنس بمشاعر دافئة وكذلك النساء، كل شئ سيصبح على مايرام، أما إذا حدث العكس فإن الجنس سيصير ببساطة بلاهة وموتاً".
حتى وقت قريب كان موضوع الحب يدخل فى دائرة إهتمام الكتاب والشعراء والفلاسفة ولايصح للعلماء أن يقتربوا من قدس أقداسه حتى لايلوثوه بنظرياتهم، أى ببساطة لايقتربون حتى لا "يتكلكع"، وظل الجميع يرددون مع شاعرنا الكبير نزار قبانى "الحب فى الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لإخترعناه ".
وبما أنه من تخيلنا فقد كان رأيهم أنه لايصح أن نطبق عليه صراحة العلم ونهبط به من السماء إلى الأرض، وكأننا نعيش فى كوكب، والحب يعيش فى كوكب آخر لاتستطيع أى سفينة فضاء الوصول إليه لأنه بالرغم من أنه يجذبنا جميعاً إلا أنه خارج مدار الجاذبية، ولكن العلم الذى طرق جميع الأبواب إستطاع التسلل إلى حيث مفتاح غرفة الحب التى نصحنا الجميع بألا نطلع على أسرارها، ولكننا سنحاول أن نلقى الضوء على هذه العلاقة المعقدة والمتشابكة بين الحب والجنس والزواج، لكى نزيل ولو قليلاً من الإلتباس والإضطراب الذى يعشش فى الأذهان تجاه هذه العلاقات الثلاث، فهيا فى البداية نقرأ كف الحب لعلنا نصرخ مع الشاعر فرجيل "الآن أجدنى أعرف ماهو الحب".
ماهو الحب؟...
محاولة الإجابة على هذا السؤال وتعريف الحب هى أصعب مهمة على أى إنسان سواء كان مفكراً أو فيلسوفاً أو شاعراً أو عالماً، وهذه المحاولة تشبه إقتناع إنسان بأنه مادام صار قادراً على الميزان بميزان الذهب فإنه يستطيع بسهولة أن يزن الجبال !!.
بجانب الحب الذى نتحدث عنه ونقصده وهو حب الرجل للمرأة والعكس، توجد أنواع مختلفة وأصناف متباينة وأنماط شديدة التنوع للحب، يوجد حب الآباء لأولادهم، حب الوطن، حب الرب، وحب القمر والشيكولاته والآيس كريم، أو حب مدينة أو مكان له ذكرى فى الوجدان ...الخ .
بالرغم من أن كل الأنواع السابقة تندرج تحت عنوان كبير واحد وهو الحب، فإن كلاً من هذه الأنواع له معنى ومذاق مختلف، وإذا كانت اللغة الإنجليزية تقتصر على كلمة LOVE للتعبير عن الحب وقاموسه الواسع، فإن اللغة العربية كانت أشمل وأكثر قدرة على الإحاطة بهذا الشعور المستعصى على التعريف، والمراوغ لمن يحاول وضعه فى قفص التصنيف والتبويب، ففى اللغة العربية نجد الهوى أول مراتب الحب، إلى أن نصل إلى الهيام فى آخر درجاته مروراً بالكلف والعشق والشغف واللوعة والجوى وغيرها من الكلمات والتعابير التى لكل منها معنى مختلف ومميز عن الآخر .
ونحن حين نتحدث عن حب شخص لشخص آخر يطالعنا أبسط تعريف قدمه روبرت هينلين فى كتابه "غريب فى أرض غريبة"، وهو أن "الحب هو هذه الحالة التى تصبح فيها سعادة شخص آخر ضرورية لك"، هذا هو بالطبع الحب الذى قصده شكسبير فى مسرحيته الرائعة روميو وجولييت، وغنى له خوليو إجليسياس وشارل إزنافور وعبد الحليم حافظ، وترك من أجله إدوارد الثامن أهم وأغلى عرش ملكى فى العالم، وهو عرش إنجلترا لكى يرتبط بإمرأة أحبها طيلة حياته .
فى أى نوع من أنواع الحب التى ذكرناها أو تناولتها التعريفات يظل العنصر الأساسى الذى يشملها جميعاً، والعصب الأساسى الذى يغذيها كافة، هو شئ واحد فقط، الإهتمام، فالإهتمام بالشخص المحبوب هو أهم الضروريات، أو على الأصح هو الحد الأدنى لأى تعريف، وبدون هذا الإهتمام يصبح مايشبه الحب مجرد رغبة أو نزوة، وهنا يكمن الفرق فيمابين الحب والرغبة (LOVE and DESIRE)، فمثلاً من الممكن أن يصرح مراهق فى الخامسة عشرة لصديقته بقوله "أنا أحبك" وهو فى الحقيقة يحاول إقناعها بأن تمارس معه الجنس، وفى حالات أخرى كثيرة تكون الرغبة فى الحصول على ثروة أو مكانة إجتماعية أو سلطة....الخ، تكون الرغبة فى كل هذا هى التى تؤدى بالشخص لأن يتظاهر بحب شخص ما لكى يصل إلى هذه الأهداف .
وبما أن الحب والرغبة الجنسية كليهما ممكن أن يختلط مع الآخر فى الأذهان لدرجة أنه من أشد الأشياء صعوبة هى أن نفرق بينهما من حيث الدرجة أو من حيث الشدة أو الأسبقية، وكانت نقطة التفرقة الأساسية عند الكثيرين تكمن فيما وراء الشعور، أى فى الشعور الخفى وليس الظاهر، بمعنى أنه عموماً توصف الرغبة الجنسية بأنها أضيق، ولذلك فمن السهل أن يفقدها الإنسان بسرعة، أما الحب فهو أكثر إتساعاً وبالتالى أكثر تعقيداً، ولذلك فإن الحب عاطفة ثابتة لاتفقد بسهولة، وبتوضيح أكثر فإن الرغبة الجنسية غير الناضجة تفتقد إلى عنصرى الإهتمام والإحترام، ولايمثل هذان العنصران نواة صلبة للعلاقة التى ينقصها النضج كما ذكرنا كأغلب علاقات المراهقين، ولذلك فإن الرغبة دائماً تعرف عن الطريق الجسدى أو الحسى وليس إطلاقاً عن الطريق الروحى، بينما يحتوى الحب فى داخله على شغف جنسى ورغبة فى الإتحاد بالطرف الآخر، إلا أنها فى كل الأحوال لابد أن تحتوى على العنصرين السابقين، وهما الإهتمام والإحترام وبدونهما يصبح الإنجذاب إلى أى شخص هو حب مزيف، مجرد تقليد، من الممكن أن نطلق عليه أى شئ إلا كلمة حب، فالإحترام يسمح لنا بأن نقدر هوية وتكامل شخص المحبوب، ويمنعنا من أن نحوله إلى مادة للإستثمار أو الإستغلال بطريقة أنانية، والإحترام الذى أقصده حتى لاتختلط الأمور ليس الإحترام المرسوم فى أذهاننا بالنسبة للأداء الجنسى، فما نعتبره نحن إباحياً وقلة أدب فى هذا الأداء من الممكن أن يكون قمة الإحترام بالنسبة لرغبات الطرف الآخر، ولكن الإحترام الذى أقصده هو إحترام أحاسيس الطرف الآخر وتقدير هويته .
لعل هذه المعانى السابقة هى التى وردت على ذهن د. لاجاش أستاذ علم النفس بالسوربون حين أراد أن يحدد العلاقة والفرق أيضاً بين الحب والرغبة الجنسية، فهو يقول "لاسبيل لنا إلى تفسير الحب تفسيراً صحيحاً لو أننا إقتصرنا على إرجاعه إلى مجرد الحاجة الجنسية، والواقع أن الحب إنما يتجاوب مع الإرتقاء النفسى للبشر، من حيث أنهم فى حاجة إلى أن يحبوا وأن يحبوا بكسر الحاء وفتحها، أعنى أن الفرد فى حاجة إلى فرد آخر، وكل ماتفعله يقظة الغرائز الجنسية هو أنها تساعد على خلق الجو النفسى الملائم لمولد الحب، إذن فإن الدلالة الحيوية للحب لا يمكن أن تكون هى التناسل بل هى التحرر من العزلة النفسية، ومعنى هذا أن الحب يحرر الذات من ضغط القوى الأخلاقية التى قيم السدود فى مجه عملية إشباع الغرائز، ومن هنا فإن الحب هو تلك الإمكانية التى تسمح لشخصين أن يكونا هما وهما فقط . نعود ثانية إلى الإهتمام والإحترام اللذين كانا محوراً أساسياً فى كتابات مفكر كبير آخر هو "إريك فروم" الذى كان لكتابه "فن الحب" الذى صدر فى عام1956 أكبر الأثر فى كافة الدراسات التى تناولت هذا الموضوع فيما بعد وأصبح بعد الآن من الكلاسيكيات فى فلسفة الحب
المصدر: د. خالد منتصر
نشرت فى 7 أكتوبر 2011
بواسطة alenshasy
هدى علي الانشاصي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
10,399,680
ساحة النقاش