يشكل التراث الشعبي لكل أمة, الوعاء الذي يحوي كل مكونات وعيها التاريخي من فكر وعلم وأدب وفلسفة وفنون, وهو بذلك يشكل هوية الأمة ووجدانها, بل ويشكّل الى حد بعيد قوام شخصيتها وعنوان بقائها, في وجه كل تحديات الغزو الثقافي والهيمنة الحضارية.

واذا كان يحق لكل امة من الأمم أن تفخر بماضيها وبتراثها الثقافي, فليس هناك احق من العرب في أن يفخروا بما تركوه للإنسانية من تراث فكري وثقافي متعدد الجوانب, وما الشعر العربي القديم الا شاهدا حيا على ذلك, حيث انه يمثل مصدراً هاماً من مصادر دراسة التاريخ الاجتماعي والأدبي للعرب, حتى غدت المقولة الشهيرة (الشعر ديوان العرب) حقيقة تاريخية الى حد بعيد.

التراث الشعبي:

يختلف الدارسون حول تعريف محدد للتراث الشعبي, وهذا يعود الى أن التراث الشعبي نفسه يعنى بالجوانب الاجتماعية والأدبية والفنية, كما يهتم بالمعارف المتصلة بالعلوم الطبيعية, مما جعل الدارسين يتفاوتون في نظرتهم حسب خلفياتهم الجغرافية والحضارية والسياسية والثقافية ومهما يكن فهناك اتفاق واضح على ان التراث الشعبي هو (مجموعة العادات والتقاليد والآداب والفنون والحرف والمهارات وشتى المعارف الشعبية التي أبدعها وصاغها المجتمع عبر تجاربه الطويلة, والتي يتداولها أفراده ويتعلمونها بطريقة عفوية, ويلتزمون بها في سلوكهم وتعاملهم, حيث انها تمثل انماطاً ثقافية مميزة تربط الفرد بالجماعة, وتصل الحاضر بالماضي, وهو بذلك يشكّل هوية المجتمع وشخصيته الحضارية).

من هذا التعريف يتضح انه لابد لكل تراث شعبي من مقوّمات اساسية: كالجماعة, والمحتوى الثقافي, وطريقة التداول, والأسلوب الفني الذي تستحسنه الجماعة وتتذوقه. حيث تشكل هذه المقومات مجتمعة ما يسمى بالذاكرة الجمعية للامة.

الأغاني والموسيقى الشعبية: تشكل فنون الأداء الشعبي (الفنون الشعبية) احد أبرز مجالات التراث الشعبي الى جانب الادب الشعبي, والعادات والتقاليد وغيرها من جوانب الثقافة الأخرى. وتشمل الفنون الشعبية: الموسيقى والأغاني والأهازيج والرقصات والرزف, والحركات المسرحية التقليدية المستوحاة من الثقافة الشعبية الموروثة والمتداولة والتي يؤديها افراد المجتمع بصورة عفوية ومتعارف عليها, ويعتبر التراث الغنائي من أكثر الموروثات خصوبة وغنى في دولة الامارات العربية المتحدة, والأكثر توالداً خلال النصف الأول من القرن العشرين, حيث كان يعيش رواد هذا الغناء ومبدعوه.

 وقد تنوّع هذا الغناء تبعاً لحاجة الانسان اليه, فهناك الاغنية الشعبية الخاصة بالأطفال في مختلف مراحل اعمارهم. وكذلك الاغنية الشعبية المرتبطة بالعمل, وتلك الخاصة بالمناسبات الدينية, وأغاني المناسبات الاجتماعية كالفرح والأعراس, وتلك المرافقة لحالة الحرب... وغير ذلك.

أغاني الأطفال: وهي في الغالب تؤديها الأم وتترافق مع مراحل عمر الطفل وتعبر عن حالة تقدمه ونموه. فمثلاً (المهاواه) او اغاني المهد, كالأغاني التي تؤديها الأم لينام ابنها ومنها:

هوه هوه

هوه هوه

هوا هوا ياالهادي

محمد ساكن الوادي

هوه هوه يااسنادي

 لاماي ولا زادي

هوه هوه

هوه هوه

أمي أمي في البستاني

تقطع خوخ ورماني

أمي أمي في الطوياني

تمزر كل الوعياني

 وعندما يستيقظ الطفل في الصباح تبادره الأم بقولها:

صباحك صباحين

صباح الكحل في العين

صباحك مبكر

الحليب مع السكر

صباحك بدري

احبك وانته تدري

اما عندما يكبر الطفل ويبدأ المشي تنشد الأم:

لاقى حويله يمشي

قوموا اذبحو له كبشي

لاقى حويله يمشي

قوموا اذبحو له كبشي

ثم يتدرج الطفل في النمو, وتنمو معه مداركه, ويحتاج الى المعارف والإجابة على تساؤلاته الكثيرة, وهنا تظهر الحكاية المغناة (الخريريفة) وهي تصغير دارج لكلمة خرافة, وهي تعني القصة الخرافية غير القابلة للتصديق ومنها:

خريريفة

مجيريفة

سبع قطيوات...

معلقات في التنور

والتنور يبغي حطب

والحطب في السمرة

والسمرة تبغي جدّوم

والجدوم عند الحداد

والحداد يبغي افلوس

والفلوس عند العروس

والعروس يابت ولد

والولد سموه سند

ركاب الخيل

ماينام الليل

في ايده سجين (سكين)

ذابح مسجين (مسكين)

ومن الأغاني التي يغنيها الأطفال هناك اغنية (هطول المطر):

طاح المطر بيد الله

كسر حوي عبدالله

طاح المطر برعوده

كسر حوي سعوده

طاح المطر ع الخيمة

كسر حوي افطيمة

طاح المطر من فوق

كسر حوي بن طوق

ومن الاغاني التي ارتبطت بالمناسبات الدينية, ما سمي (حق الليلة), وينشدها الأطفال بمناسبة ليلة النصف من شعبان, تقول الأغنية:

اعطونا حق الليلة

والا بنذبح عييلة (عجيلة)

جدام بيتكم وادي

والخير كله ينادي

جدام بيتكم طاسة

وعيونكم محتاسة

اعطونا الله يهديكم

وبيت مكة يوديكم

الأغاني والرقص الشعبي: ارتبط الغناء بالرقص الشعبي وبالموسيقى الشعبية منذ القدم, وخاصة في المناسبات الاجتماعية والمناسبات المرتبطة بالمواسم وجني المحاصيل. وعلى الرغم من صعوبة ومرارة الكفاح من اجل لقمة العيش المغموسة بالعرق والجهد والكفاح, الا ان ذلك لم يمنع اهل هذه المنطقة من ساعات الفرح, في المناسبات الخاصة والعامة كالأعراس وجني المواسم المعروفة التي كان يحتفل فيها الناس, فيغنون الأغاني ويرقصون على أنغام الطبول. الا ان هذه الأغاني كان لها الطابع الحماسي كالحث على الرجولة, والإقدام والشجاعة وكيف لا؟ فهل هناك اكثر من الفنون تعبيراً عن مشاعر الناس وأخلاقهم؟

ومن أهم الأغاني المرتبطة بالرقص الشعبي: رقصة العيالة, والرزيف.

رقصة العيالة: وهي من اهم وأشهر الرقصات في مجتمع الامارات, وتتضمن حركات بدنية متسقة يقوم بها رجال ينتظمون في صفين متقابلين ويحملون عصي الخيزران. وأمام الرجال تقف النعاشات وهن بنات صغيرات يقمن بتطويح شعورهن يمنة ويسرة على إيقاع الموسيقى. ويشارك في الرقصة مجموعة من العازفين على الطبول والدفوف والطوس الذين ينظمون الموسيقى الايقاعية المميزة لرقصة العيالة.

وهناك ايضا الحوامة, وهم رجال يحملون سيوفاً او بنادق ويتحركون حول العازفين وقد يقفزون في الهواء وهم شاهرون سيوفهم او يطوحونها في الهواء ثم يلتقطونها بمهارة فائقة, وعندما تبدأ الموسيقى التي تعتمد اساسا على الطبل يقوم الصفان بأداء حركات منتظمة بأجسادهم وعصيّهم التي ترمز الى السيوف, ثم يتقدم رجال أحد الصفوف شاهرين عصيهم في الهواء في اداء تمثيلي رمزي يوحي بالانتصار والقوة, بينما رجال الصف الثاني المقابل ينكّسون رؤوسهم مصحوبة بإيماءات ضعيفة, كما أنهم يوجهون عصيهم نحو الارض تعبيرا عن الهزيمة والانكسار, ثم بعد ذلك يعود الصف الأول المهاجم متقهقراً الى الوراء حيث يقف الرجال في وضع الفريق المهزوم, بينما يرفع رجال الصف الثاني عصيهم الى أعلى, ويتقدمون في حركات تدل على الانتصار, ويتكرر هذا الأداء الحركي الراقص بين الفريقين دون ان يحدث بينهما احتكاك مباشر او تلاحم.

رزفة البدو أو (الرزيف): يأتي الرزيف في المرتبة الثانية بعد العيالة, وهو فن رجالي يشبه العيالة من حيث تقابل الصفوف, ولكنه يمكن ان يؤدى بدون مصاحبة الطبول, وتتفاوت نبرة الغناء بين البطء والسرعة والهدوء وعلو الصوت. ومن الأهازيج المرافقة لهذه الرقصة:

البارحة في الليل ياني (جاني)

طيرن يبشر عن حبيبي

الأخضر سباني بالمحبة

والأبيض قطع الوصول عنّي

ثالثاً: أغاني العمل: ارتبطت اغاني العمل بالمجتمع الحضري اكثر منها في قبائل البدو, وهذا امر طبيعي, حيث اشتغل الحضر بشكل جماعات وخاصة في البحر, فكانت الأغاني تعبر عن علاقة الانسان بالبحر وبوسائل العمل فيه, فهناك (التقصيرة) وهي تغنى على سطح السفينة أثناء تقصير حبل الشراع. وهناك (الهولو) وهي أغنية يغنيها البحارة اثناء جر الماشوه وهو نوع من السفن, وكثيرا ما يغنى هذا النوع من الغناء حمدا لله على سلامة العودة. وكذلك هناك غناء (الخطيفة) ويغنى اثناء سحب الحبال لرفع الأشرعة.

رابعاً: الموّال: وهو ضرب من الغناء يعتمد على السجع وتبسيط الشعر وتطويعه تلقائياً بصورة تتناسب مع متطلبات الغناء, وهو قريب الى فن الموشح, ولكنه لا يلتزم بالوزن كما هو الحال بالشعر. ويتناول الموال موضوعات كثيرة, ويرتبط بمناسبات متعددة كالمواويل الدينية وحفلات الزواج وغير ذلك, وهناك الموال المرتبط بالعمل ايضا وكثيرا ما تؤكد المواويل على القيم الاجتماعية والأخلاقية مثل:

يا ليل يا عين

يا ليل يا عين

الصبر لو له تقاوي

لأزرعه فدادين

وأرويه بدمع الندم

وأسجيه بدمع العين

احنا سمعنا مثل

من اللي جبلينا قالوا

اللي انكتب ع الجبين

لازم تشوفه العين

وأخيراً... فانه مهما طرأ على المجتمع من طفرات ومتغيرات مختلفة, فان هوية المجتمع ووجدانه سيظلان مرتبطان الى حد بعيد بتراثه الثقافي, هذا التراث الذي صنعته اجيال واجيال, وسلمته الى من جاء بعدها ليبقى رمزاً لخصوصية الشعب.

فالتراث الذي ارتبط بالفرح والحزن وبحالات الغنى والفقر والحرمان, وكذلك بمشاعر النصر والانكسار, سيبقى اللغة الحية التي تربط الماضي بالحاضر, وسيبقى الشعلة التي يستنير بها القادمون الى عالم جديد. واذا كانت الامارات العربية المتحدة قد استوعبت في الماضي انماطاً كثيرة ومتنوعة من الفنون الجديدة, بالاضافة الى ما استنبطته واستولدته على أرضها المميزة بطبيعتها الجغرافية, فإنها ستبقى على الدوام مناخاً خصباً للتوالد الثقافي والامتزاج الحضاري, منطلقة من خصوصية مجتمعها وتراثها العريقين.

المصدر: بقلم: محمد عمران
ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

  • Currently 129/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
42 تصويتات / 1073 مشاهدة
نشرت فى 31 ديسمبر 2009 بواسطة ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

ahmedsalahkhtab
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

613,484