عجيب أمر هذا الدين، إنه دين عملي واقعي، بعيد عن المثاليات والتنظير، مع العظمة والسمو والكمال، تنـزيل من حكيم حميد.
لقد بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أمة كانت تعيش قمة الفوضى والجهالة، وقلة الإنتاج، عالة على غيرها؛ اعتداء، أو استجداء، أو تكسباً، ليس لديها ما تقدمه للآخرين سوى وجود بيت رب العالمين في أرضها، وهذا لا فضل فيه ولا منة، بل هو تقدير واختيار الحكيم العليم. وما هي إلا سنوات معدودة، من بعثة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أولئك القوم يصبحون مضرب المثل في القدوة والجهاد والإحسان للآخرين، وبذلك استحقت أن تكون:"خير أمة أخرجت للناس".
ما سرُّ ذلك؟ وأين تكمن الحقيقة؟ وكيف الوصول إلى هذه القمة الشمّاء؟ إنه بكلمة واحدة: الالتزام العملي بالكتاب والسنة، وتحويل (نصوصهما) إلى واقع حي يمشي على الأرض.
دعونا نقرب المسألة أكثر فنقول: لو أن رجلاً ذهب إلى أبرع المهندسين، وأقواهم رؤية وتخطيطاً، ثم صمّم له بيتاً؛ يحسده من نظر إليه؛ لجماله وحسن مرآه، ولكن ذلك الرجل اكتفى بهذا المخطط، ولم يضع منه لَبِنَةً على الأرض، هل يقيه ذلك من الحر أو البرد؟ أو يحميه من العدو وهوام الأرض؟.
وهب أنه نفّذه تنفيذاً قاصراً، بخلاف ما رسمه له مصممه، كيف سيكون شكله؟ وهل سيتحقق الغرض من بنائه؟ بل قد يخرّ عليه السقف من فوقه فيكون فيه هلاكه وذهاب حياته، وسيقول له الناس: على نفسها جنت براقش، ويداك أوكتا وفوك نفخ، وهذه حال كثير من الناس –اليوم-، فمنهم المسلم بالاسم، ويصدق عليهم ما صدق على الأعراب من قبل:" قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا"، وآخرون "خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم"، وفئة اقتفت الأثر، وسارت على الطريق وقليل ما هم، " وقليل من عبادي الشكور".
وبالجملة "فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير". وأمتنا –اليوم- أحوج ما تكون إلى القوة، والانضباط، والاستغناء عن الآخرين، وبالأخص عن أعدائها؛ استعداداً للمعركة الفاصلة، مع هذا العدو الشرس الذي كشّر عن أنيابه، وأعلن عن أهدافه، فلم يعدِ الأمرُ سرّاً، ولا يحتاج إلى فراسة أو تنبّؤ، "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"، وتكافؤ المعركة يُوجب:" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".
إن هذا الدين سهلٌ ممتنع، يسير وعظيم، إنه مدرسة كبرى تتربى فيها الأجيال، ويعدّ فيها عظماء الرجال، تلك المدرسة التي خرّجت أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وسعداًَ، وخالداً، والمثنى، وأبا عبيدة، وأفذاذ الرجال من الصحابة والتابعين وخير القرون المفضلة –رضي الله عنهم أجمعين-.
إننا ونحن نعيش هذه الأيام –هذا الموسم العظيم- موسم الحج؛ الذي قال الله فيه:" ليشهدوا منافع لهم" بأمسّ الحاجة لتدارسه، واستخراج ما فيه من كنوز ودرر حتى لا يكون مروره كضيف عابر؛ مرّ مرور الكرام مر في أعوام خلت، وأزمان مضت.
ولأن هذه المساحة لا تتسع لبيان ما فيه من منافع تربو على الحصر، وبخاصة أن غيري قد يتناول منها ما يفتح الطريق، ويدل الناس إلى سواء السبيل.
لذا فسأكتفي بالإشارة -التي تناسب المقام- إلى أمر عظيم من تلك المنافع الكبرى، وهو ما يتعلق بالإنجاز، وضبط المواعيد؛ وذلك لسببين:
الأول: أن الأمة الإسلامية تعيش -منذ سنوات طويلة- في فوضى وبطالة وقلة إنتاج مع ما حباها الله من إمكانات هائلة؛ مادية ومعنوية، دينية ودنيوية، لا توجد عند غيرها من الأمم، ولذلك فهي اليوم عالة على غيرها، وبالأخص على عدوها، في أهم شؤونها، من مأكلها ومشربها وصنائعها وثقافتها، بل وعدّة جهادها، حتى أصبحت تلك الأمم قدوتها، وملاذها ومطلب الحماية منها –إلا من رحم ربي- وبالله عليكم كيف نرجو النجاة ( إن يكن الذئب راعي الغنم)؟؟.
الثاني: بروز هذا الأمر -إنجاز العمل العظيم الكثير، في وقت قصير وظروف صعبة- وضبط المواعيد، وأداء الأعمال في أوقاتها، بدقة متناهية، تصل في بعضها إلى أن الدقائق مؤثرة في صحة العمل وسلامته، أو في فضله وكماله، قال جابر:" فلم يزل واقفاً –أي عند المشعر الحرام- حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس".
ومع بيان هذا الجانب ووضوحه في جميع أركان الإسلام، وبخاصة الصلاة،
إلا أنه في الحج أكثر بروزاً وأثراً وجلاء، وستكون تلك الوقفات مختصرة، تناسب المقام وتدل على المقصود، والحر تكفيه الإشارة، وسأكتفي من القلادة ما أحاط بالعنق،
فليس المراد هو الحصر والاستقصاء، وإنما المهم هو التذكير والاعتبار، ومراجعة النفس، واستثمار هذه الفرص العظيمة، والمواسم الجليلة، وتحويلها من نصوص، وعادات وأشكال إلى عبادة خالصة وواقع علمي، وأثر تربوي، وكائن يمشي على الأرض،فـ:"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
وإليكموها، -بارك الله فيكم-، وتقبّل منا ومنكم:
(1) بادئ ذي بدء فـ"الحج أشهر معلومات" ليس في كل وقت وحين، كالعمرة وكثير من العبادات، بل حددت بدايته ونهايته، ورسم لكل نسك وقت يناسبه، ويكون فيه أداؤه، لا يصح قبله ولا بعده، وهو على أنواع، فمن تلك المناسك ما هو واسع الوقت، يصح تقديمه أو تأخيره، ولكنه ضمن دائرة التحديد، لا يتجاوز أشهر الحج وأيامه، كسعْي الحج للقارن والمفرد، ومنه ما هو مضيق الوقت محدد الساعات، لا يصح أداؤه في غير تلك الساعات المحددة له، وقد يترتب على ذلك فوات الحج أو نقصانه "الحج عرفة"، "وقفت ههنا وجمع كلها موقف"، وفي حديث عروة بن مضرس، قال-صلى الله عليه وسلم-:"من شهد صلاتنا هذه –يعني بالمزدلفة- فوقف معنا حتى دفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه". وبينهما واجبات وأركان تتفاوت مددهما، ووقت أدائهما؛ كطواف الإفاضة ونحر الهدْي...وهلمّ جرّاً.
(2) تأمل معي-بارك الله فيك- أيام الحج الخاصة، ابتداء من يوم الثامن –يوم التروية- إلى اليوم الثالث عشر آخر أيام التشريق، ستة أيام فقط إذا أردنا مراعاة الأفضل والأكمل، وإلا فهي ثلاثة أيام بلياليها، بل أقل من ذلك حيث لا تزيد على (60) ساعة؛ لمن أراد الاقتصار على الواجب دون سواه، ومع ذلك كم يُنجز في هذه الأيام، أو بالأصح في هذه الساعات من أعمال عظيمة، لو ترك الأمر لاختيار المسلم وظروفه لربما بقي عشرات الأيام لم ينجزها، إن لم تكن شهوراً أو أعواماً؛ ممن طبيعتهم التسويف والتأجيل، وتأخير عمل اليوم إلى الغد، وقد تأتيه منيّته قبل أن يجيء غده.
وأشير إلى أهم تلك الأعمال؛ ابتداء من الإحرام يوم التروية، ثم الانتقال إلى منى والمبيت، ثم الذهاب إلى عرفة وما فيها من أعمال عظيمة ترتبط بعاجل المسلم وآجله، ويأتي الذهاب إلى مزدلفة والمبيت فيها، ومن ثم الوقوف عند المشعر الحرام وما فيه من دعاء وابتهال، ثم الانصراف إلى منى والبدء في رمي الجمرة، ثم النحر والحلق والإفاضة، كل ذلك قد يكون في ساعات معدودة، وبقية أيام التشريق لها أعمال معروفة، ومع ضيق الوقت وقصره، فهو ليس بالعمل الهيّن ولا اليسير نظراً لا جتماع الناس وازدحامهم.
وبعد أن تنتهي أيام التشريق يتعجب المرءُ من نفسه! هل حقيقة أدى تلك الأعمال الكثيرة العظيمة في تلك الأيام القصيرة؟ بل يجد لديه في أيام العيد والتشريق من الوقت والفراغ ما يستثمره في كثير من العبادات وطلب العلم وزيارة الحجّاج، مما ليس مفروضاً عليه، حيث تكون البركة، والحسنات بعضها يأخذ برقاب بعض، بل هناك من يمارس التجارة والتكسب مع قيامه بمناسك الحج أخذاً بقـوله –تعالى-:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم".
ومن هنا فإن العبرة ليست بطول الوقت وقصره، وإنما بما يجعله الله فيه من بركة ونفع، ولذلك أسباب كثيرة كالإخلاص، والترتيب، والأخذ بالعزيمة والحزم، ولو فعلنا ذلك في كل أيامنا وليالينا لتغيرت أحوالنا
نعـيب زماننا والعيب فينا ........ومـا لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير حق ........ولو نطق الزمان بنا هجانا
ولننظر إلى هذه الدقة المتناهية في الالتزام بالوقت، وتأثير ذلك على العبادة؛ إما صحة أو كمالاً، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقف في عرفة ولا ينصرف حتى تغيب الشمس ويختفي القرص، مع حاجته الماسة، وحاجة الناس إلى أن يسيروا إلى مزدلفة في النهار، وما خيّر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وهو الذي قال:" خذوا عني مناسككم"، ولذلك فالقول الراجح: أن من انصرف قبل مغيب الشمس بدون عذر، ولم يرجع فقد أَثِمَ وعليه دم.
وفي مزدلفة يكون الانصراف –إن تيسر-بعد الإسفار جداً وقبل طلوع الشمس، وهو زمن يسير لا يتعدى دقائق معدودة؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ورمي الجمار أيام التشريق يكون بعد الزوال ولا يكون قبله، فمن رمى الجمار قبل الزوال فعليه إعادة الرمي على القول الصحيح، إلا أصحاب الأعذار يوم الثاني عشر،
فيجوز لهم التقديم، على القول الراجح.
ومن غابت عليه الشمس يوم الثاني عشر وتأخر في الخروج من منى بضع دقائق دون عذر؛ لزمه المبيت ورمى الثالث عشر.
إنها تربية للمسلم على أداء الأعمال في أوقاتها وتعويد له على الدقة في الالتزام، وسرعة الإنجاز، وضبط المواعيد،
"واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا"،
إن من مقتضيات المرحلة المقبلة، والمواجهة المحتملة؛ الإعداد المتكامل، والتربية الشاملة، وبناء المجتمع على أصول أصيلة، وقواعد متينة، تحقيقاً لقوله –تعالى-:" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، فمن الخطأ تغليب جانب على جانب، أو العناية بركن دون آخر، ومن أهم الميادين التي تتربى فيها الأمة تربية متكاملة متوازنة؛ أداء أركان الإسلام وواجباته كما شرع الله، " وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه"،
وهذه الشعائر والأركان ليست عبادات مجردة؛ لا علاقة لها بأمور دنياه، بل إن آثارها الدنيوية ظاهرة جلية، ولذلك قال –سبحانه- : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة: من الآية 45)، وقال: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: من الآية45) وقال: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: من الآية28)
وقال – صلى الله عليه وسلم -:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج – إلى أن قال - ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء.
فالارتباط وثيق بين أمور الدنيا والآخرة، بعضها آخذ برقاب بعض، والحج من أعظم تلك الميادين التي جمعت بين أمور الدين والدنيا، وتكاملت فيها العبادات القلبية، والبدنية، والمالية، بل هو نوع من أنواع الجهاد؛ كما ثبت عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة "جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"، وبذلك نحقق أمر الله لأبينا إبراهيم –عليه السلام-:"وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام".
ومن أجل أن يكون الحج مقبولاً، ويؤتي ثماره في العاجل والآجل؛ لابد من التزام المنهج الصحيح، والحج كما حج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حيث قال:" خذوا عني مناسككم"، مع البعد عن تعقيد مناسك الحج والإتيان بتفصيلات لم ترد في السنة، والأحاديث الواردة في مناسك الحج محدودة، ومن أعظمها حديث جابر الصحيح، وكثير من كتب المناسك المتداولة، جعلت الحج شاقاً وعسيراً، بينما كان هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- التيسير ودفع المشقة، "فما سئل – يومئذ - عن شيء عما يقدم أو يؤخر إلا قال افعل ولا حرج"، بل قال سبحانه" (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: من الآية78)
وأنصح الشباب بالبعد عن الخلاف في المسائل الفرعية، فقد قال ابن مسعود –رضي الله عنه-:"الخلاف شر"، وكان ذلك في الحج في قضية إتمام الصلاة في منى أيام الحج.
تقبّل الله منا ومنكم، وجعلنا ممّن وصفهم بقوله –في آيات الحج-:" ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار* أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،
فضيلة الشيخ العلامة أ.د . ناصر العمر
نشرت فى 11 نوفمبر 2009
بواسطة ahmedelbebani
عدد زيارات الموقع
285,872
ساحة النقاش