صلة الأرحام وتقوية الروابط الأسرية

إن الإسلامَ يهدِف إلى بناءِ مجتمعٍ متراحمٍ متعاطِف ، تسودُه المحبّةُ والإخاء ، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء ، والأسرةُ وحْدةُ المجتمع ، تسعَد بطاعة الله وصلة الرّحِم ، لذلك اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها ، وتثبيتِ بُنيانها ، فجاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ الوالدين ، قال جلّ وعلا :                                                       

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى

[النساء : 36]

     وقُرِنَت مع إفرادِ الله بالعبادةِ والصّلاةِ والزّكاة فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ )) .

[ متفق عليه ]

     وقد أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها ، قال سبحانه :

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى

[ البقرة : 83]

     ودَعا إلى صِلتها نبيُّنا محمّدٌ e في مَطلعِ نُبوّته ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ : (( كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا ، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ e مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا نَبِيٌّ ، فَقُلْتُ : وَمَا نَبِيٌّ ؟ قَالَ : أَرْسَلَنِي اللَّهُ ، فَقُلْتُ : وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ : أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ ...)) .

[ رواه مسلم ]

     وسأل هِرقل أبا سفيانٍ عن النبيّ ما يقول لكم ؟ قال : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ : (( سَأَلْتُكَ : مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ ، وَالصِّدْقِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ )) .

[رواه البخاري ومسلم]

     وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه إلى المدينة ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ ، وَقِيلَ : قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، ثَلَاثًا ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ )) .

[ رواه الترمذيّ وابن ماجه واللفظ له]

     وهي وصيّة النبيّ e ، قال أبو ذر: (( أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرَت )) .

[ رواه الطبراني ]

     فصِلةُ ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( ... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ...)) .

[ متفق عليه ]

صلةُ الحرم عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات ، يقول عمرو بن دينار : "ما مِن خَطْوةٍ بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خَطوةٍ إلى ذي الرّحم " .

ثوابُها معجَّل في الدنيا ، ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة ، قال e : (( ليس شيء أُطِيعَ اللهُ فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم )) .

[ رواه البيهقيّ ]

والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة ، يقول عليه الصلاة والسلام عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : (( ... وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ، ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ ، رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى ، وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ )) .

[رواه مسلم]

     أمَرَ الله بالرّأفة بالأرحام كما نرأَف بالمِسكين ، قال عزّ وجلّ :

وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ

[الإسراء : 26]

     وحقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والمساكين ، قال سبحانَه :

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ

[البقرة : 215]

     وللسخاءِ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ العالمين ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ )) .

[ النسائي وابن ماجه ]

     وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : (( كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا ، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ : ] لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : ] لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ ، فَقَالَ : بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا ، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ ، قَالَ : أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ ، وَبَنِي عَمِّهِ )) .

[ متفق عليه ]

     فالباذلُ لهم سخيُّ النّفس ، كريم الشّيَم ، يقول الشعبيّ رحمه الله : " ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه " .

ماذا تعني كلمة الأرحام ؟


الأول : رحم الدين ، وهي رحم عامة تشمل جميع المسلمين ، وتتفاوت صلتهم حسب قربهم وبعدهم من الدين ، وكذلك حسب قربهم وبعدهم المكاني .

     ويدل على ذلك قوله تعالى :

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ

[الحجرات : 10]    

     فأثبت الله الأخوّةَ الإيمانية لجميع المسلمين .

     وقوله :

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ

[محمد]

الثاني : رحم القرابة ، القريبة والبعيدة ، من جهتي الأبوين .

ولكل من هذين النوعين حقوق ونوع صلة.

     الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم ، وقريبُك لا يَمَلّكَ على القرب ، ولا ينسَاك في البُعد ، عِزّهُ عزٌّ لك ، وذُلّه ذُلٌّ لك .

     قال القرطبي رحمه الله : " اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة ، وأن قطيعتها محرمة .

     عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : (( إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ )) .

[أحمد]

     عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ )) .

[الترمذي]

ما معنى صلة الرحم ؟

    

     الرحم العامة رحم الدِّين ، ويجب صلتها بملازمة الإيمان ، والمحبة للمؤمنين ، ونصرتهم ، والنصيحة لهم ، وترك أذيتهم ، والعدل بينهم ، والإنصاف في معاملتهم ، والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى ، ومواساة الفقراء ، من دون أن يمن عليهم ، ونصرة المظلومين ، وحقوق الموتى ، من غسلهم ، والصلاة عليهم ، ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لأهل الإيمان 0

الرحم الخاصة رحم القرابة ، وتكون صلتها بزيارتهم ، وتفقد أحوالهم ، والسؤال عنهم ، والإهداء إليهم ، والتصدق على فقيرِهم ، والتلطف مع وجيههم وغنيّهم ، وتوقير كبيرهم ، ورحمة صغيرهم ، وتكون الصلة باستضافتهم ، وحسن استقبالهم ، وإعزازهم ، ومشاركتهم في أفراحهم ، ومواساتهم في أتراحِهم .

وتكون الصلة أيضاً بالدعاء للأرحام ، وسلامة الصدر لهم ، والحرص على نصحهم ، ودعوتهم للخير ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وإصلاح ذات البين إذا فسدت

وتكون الصلة أيضاً ببشاشةٍ عند اللّقاء ، ولينٍ في المُعاملة ، إلى طيبٍ في القول ، وطلاقةٍ في الوجه ، وزيارات وصِلات ، وإحسانٌ إلى المحتاج ، وبذلٌ للمعروف ، ونصحُهم ، والنّصحُ لهم ، ومساندةُ مكروبِهم ، وعيادةُ مريضهم ، الصفحُ عن عثراتهم ، وترك مُضارتهم ، والمعنى الجامِع لذلك كلِّه : إيصالُ ما أمكَن من الخير ، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ  .



ثم إن الأقارب يختلفون في أحوالهم ، وطباعهم ، ومنازلهم ، فمنهم من يرضى بالقليل ، فتكفيه الزيارة السنوية ، والمكالمة الهاتفية ، ومنهم من يرضى بطلاقة الوجه ، والصلة بالقول ، ومنهم من يعفو عن حقه كاملاً ، ويلتمس المعاذير لأرحامه ، ومنهم من لا يرضى إلا بالزيارة المستمرة ، وبالاهتمام الدائم ، فمعاملتهم بهذا المقتضى تعين على حسن الصلة بهم ، واستيفاء مودتهم .

وبشكل مختصر تبدأ صلة الرحم بنوع من الاتصال الهاتفي أو البريدي ، ثم الزيارة ، ثم تفقد الأحوال المعيشية والاجتماعية ، ثم المساعدة بألطف أسلوب ، ثم الأخذ بيد القريب ، وأهله إلى الله ، وحملهم على طاعته ، والتقرب إليه ، وهذا تاجٌ تتوّج به هذه الصلة ، وعندئذ تكون هذه الصلة حققت هدفها الأكبر .


     حتى لو كان الأقارب من النوع المتعب الذي يقابل الإحسان بالإساءة ، فلا يجوز أن تقاطعهم ، لأنك تتعامل مع الله تعالى طاعة لأمره ، والتزاما بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك يجب على المسلم أن يسلك كل السبل ليصل أرحامه ، ويحسن إلى أقاربه وجيرانه .

     إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين ، يتعرّضون للزّلَل ، ويقَعون في الخَلل ، وتصدُر منهم الهَفوات ، ويقَعون في خطيئات كبيرات ، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم ، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين ، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا ، وقابِل إساءَتهم بالإحسان ، واقبل عُذرَهم إذا اعتذروا ، ولك في النبي الكريم يوسف القدوة والأسوة ، فقد فعل إخوةُ يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا ، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل ، ولم يوبِّخهم ، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم ،

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

[يوسف]

     فغُضَّ عن الهفواتِ ، واعفُ عن الزّلاّت ، وأقِلِ العثرات ، تجْنِ الودَّ والإخاء ، واللينَ والصفاء ، وتتحقَّقُ فيك الشهامةُ والوفاء ، وداوِم على صِلة الرّحم ، ولو قطعوا ، وبادِر بالمغفرة ، وإن أخطؤوا ، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا ، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين ، ولا تجعَل عِتابَك لهم سبباً لبعدهم عنك ، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء ، وجانبِ الشحَّ ، فإنّه من أسباب القطيعة ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (( إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا )) .

[ أبو داود ، أحمد ]

     قيل لأحدهم : ما حقّ الرّحم ؟ قال : " تُستَقبَل إذا أقبَلت ، وتُتْبَع إذا أدبَرت " .

     عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ )) .

[رواه مسلم ]

     أما إذا كانت الرحم فاجرة أو فاسقة ، فتكون بالعظة والتذكير ، وبألطف تعبير ، وبذل الجهد الكبير ، فإذا أعيتك الحيلة في هدايتهم كأن ترى منهم عناداً ، أو استكباراً ، أو أن تخاف على نفسك أن تتردى معهم ، وتهوي في حضيضهم  فابتعد عنهم ، واهجرهم الهجر الجميل الذي لا أذى فيه ولا تحقير ، وردد هاتين القاعدتين ؛ " دع خيراً عليه الشر يربو " ، و " درء المفاسد مقدم على جلب المنافع " ، وأكثر من الدعاء لهم بالهداية ، وأعد الكَرة بعد الكَرة ، والمرة تلو المرة .

     وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به ، على ألاّ يكونَ في التّقديمِ بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين ، قال سبحانه :

وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى

[الأنعام : 152]

ثمار صلة الرحم :

 

     صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر ، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا ، قَالَ جبريل للنبي e : (( ] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [ ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا ، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ )) .

[رواه البخاري ومسلم عن عائشة]

     لقد خلق الله الرحمَ ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه ، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها ، ومَن وصَله الرحيمُ ، وصلَه كلُّ خير ، ولم يقطَعه أحد ، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ ، وعاشَ في كَمَد ،

وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ

[الحج : 18]

     عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ ، قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ : فَهُوَ لَكِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : ] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ )) .

 [ متفق عليه ]

     عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَقُولُ : مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ )) .

[مسلم]

     صلةِ الرّحم ؛ محبّةُ للأهل ، وبَسطُ الرّزق ، وبركةُ العُمر ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ ، مَنْسَأَةٌ فِي أَثَرِهِ )) .

[ رواه أحمد ]

     وفي صحيح البخاريّ ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ )) .

[متفق عليه]

     صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس ، وسَعَةِ الأفُق ، وطيبِ المنبَتِ ، وحُسن الوَفاء ، ولهذا قيل : مَن لم يَصْلُحْ لأهلِه لم يَصْلُحْ لك ، ومَن لم يذُبَّ عنهم لم يذبَّ عنك ، يُقْدِم عليها أولو التّذكرةِ وأصحابِ البصيرة .

 وصلة الرحم مدعاة لرفعه الواصل ، وسبب للذكر الجميل ، وموجبة لشيوع المحبة ، وعزة المتواصلين .

     صلة الرحم تقوَي المودَّة ، وتزيدُ المحبّة ، وتتوثَّق عُرى القرابةِ ، وتزول العداوةُ والشّحناء ، فيها التعارفُ والتواصلُ والشعور بالسّعادة 0

واقع معظم المقصرين :

    

     كثير من الناس مضيعون لهذا الحق ، مفرطون فيه ، فمن الناس من لا يعرف قرابته لا بصلة ولا بمال ، ولا بجاه ولا بحال ، ولا بخلق ولا بود ، تمضي الشهور وربما الأعوام ولا يقوم بزيارتهم ، ولا يتودد إليهم لا بصلة ولا بهدية ، ولا يدفع عنهم مضرة ولا أذية ، بل ربما أساء إليهم ، وأغلظ القول لهم .

     ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم ، ولا يواسيهم في أتراحهم ، ولا يتصدق على فقرائهم ، بل تجده يقدم عليهم الأباعد في الصلات والهبات .

     ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه ، ويقطعهم إن قطعوه , وهذا في الحقيقة ليس بواصل ، وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله ، وهو حاصل للقريب وغيره ، والواصل حقيقة هو الذي يتقي الله في أقاربه ، فيصلهم لله سواء وصلوه أو قطعوه ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا )) .

[البخاري]

     ومن مظاهر القطيعة : أن تجد بعض الناس يحرص على دعوة الأباعد ، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقارب ، وهذا مالا ينبغي ؛ فالأقربون أولى بالمعروف قال الله عز وجل :

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ

[ الشعراء :214]

نتائج قطيعة الرحم :

 

        إنّ معاداة الأقاربِ شرّ وبلاء ، الرّابح فيها خاسِر ، والمنتصِر مهزوم ، وقطيعةُ الرّحم مِن كبائر الذّنوب ، وقبائح العيوب متوَعَّدٌ صاحبُها باللّعنةِ والثبور ، قال تعالى :

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ

[محمد : 22 ـ 23]

     فالتدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ النِّعمة وسوءِ العاقبةِ وتعجيلِ العقوبة ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ )) .

[ رواه البخاري ومسلم]

     فعقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة ، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ ـ أي الظلم ـ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ )) .

[ رواه الترمذي ]

     قطيعة الرحم سببٌ للذِلّة والصّغار ، والضّعفِ والتفرّق ، مجلَبةٌ للهمّ والغمّ ، فقاطعُ الرّحم لا يثبُت على مؤاخاة ، ولا يُرجَى منه وفاء ، ولا صِدقٌ في الإخاء ، يشعر بقطيعةِ الله له ، ملاحَقٌ بنظراتِ الاحتِقار ، مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل ، لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم .

الخطوة العملية :


     ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة ، وليعفُ وليصفح ،

فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ

[الشورى : 40]

     وإنّ لحُسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة ، والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى ، فإنّ مَن حَفِظَ لسانَه أراح نفسَه ، وللهديّةِ أثرٌ في اجتلابِ المحبّة ، وإثباتِ المودّة وإذهابِ الضغائن ، وتأليفِ القلوب .

     والرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الخصام والخلاف والقطيعة فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، يَلْتَقِيَانِ ، فَيَصُدُّ هَذَا ، وَيَصُدُّ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ )) .

[البخاري]

     ويقول ربنا سبحانه وتعالى :

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ

[فصلت]

     يحذرنا صلى الله عليه وسلم من مصير قاطع الرحم ، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ )) . قَالَ سُفْيَانُ : يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ .

[متفق عليه]

واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم ، فإنها سبب للعنة الله وعقابه ، يقول الله عز وجل :  فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ

 

[محمد ]

     ويقول تعالى :

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ

[الرعد]

من هدي النبي ص في صلة الرحم :

    

     كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرق الناس ، وأعفهم ، وأوصلهم ، وأحلمهم ؛ ولذلك ذكر الله خُلُقَه ومناقبه في القرآن ، فقال :

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ


[القلم :4]

     وقال له :

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ

[آل عمران :159]


     فقد بلغ في صلة الرحم مبلغاً عظيماً ، ضرب به المثل على مرِّ التاريخ ، فما سمعت الدنيا بأوصل منه صلى الله عليه وسلم ، قام قرابته ـ أبناء عمه وأقاربه ـ  فأخرجوه من مكة ، وطاردوه وشتموه وآذوه ، حاربوه في المعارك ، ونازلوه في الميدان ، وقاموا بحرب عسكرية وإعلامية واقتصادية ضده ، فلما انتصر ماذا فعل ؟

     (( دخل مكة منتصرا ً، ووقفت له الأعلام مكبرة ، وطنت بذكر نصره الجبال والوهاد ، فلما انتصر ، وقف عند حلق باب الكعبة صلى الله عليه وسلم منحنياً ، وهو يقول للقرابة وللعمومة : ما ترون أني فاعل بكم ؟ فيتصورون الجزاء المر ، والقتل الحار ، والموت الأحمر ، فيقولون وهم يتباكون : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فتدمع عيناه ، ويقول : اذهبوا فأنتم الطلقاء )) !

[السيرة النبوية]

كأنه يقول : عفا الله عنكم وسامحكم .

     ويأتي ابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، فيسمع بالانتصار ، وقد آذى الرسول عليه الصلاة والسلام ، وشتمه وقاتله ، فيأخذ هذا الرجل أطفاله ، ويخرج من مكة ، فيلقاه علي بن أبي طالب ، ويقول : يا أبا سفيان ! إلى أين تذهب ؟ قال : أذهب بأطفالي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعرياً! والله إن ظفر بي محمد ليقطعني بالسيف إرباً إِرباً ! فيقول علي ـ وهو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ  أخطأت يا أبا سفيان ! إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصل الناس ، وأبر الناس ، وأكرم الناس ، فعد إليه ، وسلم عليه بالنبوة ، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف :

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ

[يوسف :91]

     فيأتي بأطفاله ، ويقف على رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويقول : يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله وبركاته : ] تَا للَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [ ، فيبكي عليه الصلاة والسلام ، وينسى تلك الأيام ، وتلك الأعمال ، وتلك الصحف السوداء ، ويقول : ] لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ .

     ويقول أبو سفيان بن حرب : يا بن أخي ، ما أوصلك ؟ ما أرحمك ؟ ما أحكمك ؟ ما أعقلك ؟

     فهل من متسم بأخلاقه ؟ وهل من مقتد بأفعاله ؟ فإنه الأسوةُ الحقة ، وإن اتباعه نجاة من العار والدمار والنار.

     تأتيه أخته من الرضاعة صلى الله عليه وسلم ، وقد ابتعدت عنه عقوداً عديدة ، فتأتيه وهو لا يعرفها ، وهي لا تعرفه ، وتسمع وهي في بادية بني سعد في الطائف بانتصاره ، فتأتي لتسلم على أخيها من الرضاع ، وهو تحت سدرة عليه الصلاة والسلام ، والناس بسيوفهم بين يديه ، وهو يوزع الغنائم بين العرب ، فتستأذن ، فيقول لها الصحابة : من أنت ؟ فتقول : أنا أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ، أنا الشيماء بنت الحارث أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية ، فيخبرون الرسول عليه الصلاة والسلام فيتذكر القربى وصلة الرحم ، ويقوم لها ليلقاها في الطريق ، ويرحب بها ترحيب الأخ لأخته بعد طول غياب ، وبعد الوحشة والغربة ، ويأتي بها ويجلسها مكانه ، ويظللها من الشمس .

     تصوروا رسول البشرية ، ومعلم الإنسانية ، ومزعزع كيان الوثنية ، يظلل هذه العجوز أخته من الرضاع من الشمس ، ويترك الناس وشئون الناس ، ويقبل عليها ويسألها ، ويقول لها : يا أختاه كيف حالكم ؟ : يا أختاه اختاري الحياة عندي ، أو تريدين أهلك ؟ فتقول : أريد أهلي ، فيمتعها بالمال ويعطيها مئة ناقة ، ليعلمِّ الناس صلة الأرحام 0

     يا سيدي ، يا رسول الله ، يا من كانت الرحمة مهجتك ، والعدل شريعتك ، والحب فطرتك ، والسمو حرفتك ، ومشكلات

المصدر: بقلم الدكتور محمد راتب النابلسي
  • Currently 298/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
96 تصويتات / 2365 مشاهدة
نشرت فى 21 يناير 2010 بواسطة ahmedelbebani

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

285,839