استخدام التقنية النووية في العلوم الزراعية

كل شيء في الكون: النبات والحيوان والانسان والتربة والمياه والهواء  الذي يحيط بنا او نستنشقه وكل الغذاء الذي نتناوله مكون من عناصر. كل واحد من العناصر التسعين او قريباً من ذلك (الموجودة في الطبيعة) يتألف من ذرات، وفي كل ذرة منه تتحرك الالكترونات في مدارات حول النواة  من النيوترونات والبروتونات. يتفاوت عدد النيوترونات في نواة الذرة ليعطي اشكالاً او نظائر لنفس العنصر، فيكون بعضها اثقل من الاخرى، وبعضها مستقراً واخرى يخضع للتلاشي فيطلق طاقة على شكل اشعاعات.

استطاع العلماء استخدام هذه الخصائص "النووية" لهذه النظائر في قياس ورصد مسائل كثيرة تتعلق بانتاج الغذاء والمنتجات الزراعية الاخرى. تفيد النظائر الكاشفة بنحو خاص في زيادة كفاءة الاسمدة والري او الكشف عن العوامل الممرضة. وعلى سبيل المثال، تستخدم النظائر المغلقة التي تحتوي على نظائر مطلقة للاشعاعات لتغيير البنية الوراثية للنباتات والحشرات والكائنات الدقيقة بطرق تؤدي الى انتاج نباتات افضل ومكافحة اكثر رفقاً بالبيئة واغذية اكثر امنا وسلامة ولها قابلية خزن او حفظ اطول.

اذن يفهم من ذلك، ان التقنيات النووية يمكن ان تكون حلاً كفوءاً وفعالاً وزهيداً للكثير من المعضلات التي تواجه الزراعة في العالم، بل تكون اكثر كفاءة وفعالية اذا ما سخرت معها والى جانبها التقنيات الحياتية ذات الصلة (الهندسة الوراثية والوراثة الجزيئية وزراعة الانسجة والمعلوماتية وغيرها). لذا تجد ان احد معايير تقدم الدول والشعوب هو امتلاكها للتكنولوجيا النووية، وان العراق احد هذه الدول الذي بدأ برنامجه النووي للاستخدامات السلمية منذ ستينيات القرن الماضي، ويسعى علماؤه الى ادامة زخم العمل فيه حتى يومنا هذا. ان ظروف الحرب الاخيرة قد الحقت الضرر الكبير بمنظمة الطاقة الذرية العراقية، حتى سلبت محتوياتها ودمرت كامل بنيتها التحتية تقريباً، غير ان الامل الكبير يحدو منتسبيها للارتقاء بقسم شؤون الطاقة الذرية الذي استحدث في اواخر عام 2007، فيعيد امجاد الطاقة الذرية العراقية ويرتقي بسمعتها الى مصاف الدول الأخرى.

التقنية النووية والتنوع الحيوي قيمة مضافة الى الموارد الوراثية النباتية والحيوانية

يعد وجود موارد وراثية وفيرة في اي بلد او منطقة بيئية ضرورياً للزراعة وانتاج الغذاء المستدامين، اذ ان هناك حاجة فعلية لسمات علوم وبرامج بحثية مفيدة تتعلق بتربية وتحسين النبات والحيوان، ليست لزيادة الانتاج فحسب، بل وكذلك لزيادة القدرة على التطبع والتكيف لمواجهة التحديات الموقعية (المحلية) والتهديدات المستقبلية المحتملة، سواءً كانت بيئية او اقتصادية وتجارية وبضوء ما تفرضه السياسة العالمية تجاه الدول الفقيرة والنامية خصوصاً. شجعت الزراعة الحديثة المزارعين في عموم العالم على تبني زراعة  اصناف متجانسة مظهريا وعالية الغلة من المحاصيل المختلفة ومثلها لحيوانات المزرعة من الاغنام والماعز والابقار والدجاج والبط والخنازير وغيرها، وادى ذلك الى فقدان التنوع الحيوي لسلالات وطرز بيئية محلية متطبعة وربما لمئات السنين او اكثر. على سبيل المثال لا الحصر، ان النسبة المئوية لسلالات حيوانات المزرعة التي تتعرض للخطر في شتى انحاء العالم هي 18% للماعز و 24% للابقار و 33% للخنازير و 39% للبط و 52% للدواجن.

استطاعت التقنيات النووية وغيرها ذات الصلة ان تساعد البلدان في رفع مستوى مواردها الوراثية المحلية والحيلولة دون فقدان ثروتها الوطنية التي تعد الرصيد الامين والغني لأجيال المستقبل. من الامثلة الرائعة استنباط لأصناف جديدة لمحاصيل القمح والمكرونة والشعير والرز والفاصوليا  وفول الصويا والماش وزهرة الشمس والسمسم وغيرها، فاغنت البنك الوراثي بثروة نباتية تعزز تراثه الزاخر بالموارد الوراثية النباتية.

ربما يتسائل البعض عن كيفية تسخير مثل هذه التقنيات لخدمة الانسان اينما كان، والجواب ببساطة: يتمثل استخدام التقنيات النووية بتعريض الكائن النباتي او الحيواني او عضو او نسيج او خلية او مجموعة خلايا منه الى الاشعاع (مطفر فيزيائي) او لمادة كيميائية (مطفر كيميائي) لأحداث طفرات وراثية (استحداث صفة او اكثر تنتقل من جيل لأخر بنسبة متوارثة، وربما لم تكن مثل هذه الصفة موجودة اصلاً في هذا النوع النباتي او الحيواني) يمكن من خلالها استنباط اصناف او مجتمعات نباتية او حيوانية جديدة قد تكون اكثر غلة او مقاومة للمسببات المرضية او اكثر تطبعا للظروف البيئية المحيطة. في ذات الوقت، تساعد تقنيات اخرى على تحديد المعلمات الوراثية (مورثات لها تعبير وراثي واضح تمثل علامة وراثية يمكن اعتمادها كمؤشر لأنتقاء وادخال سمات مفيدة في برامج التربية والانتخاب).

وفي هذا الخصوص، تجدر الاشارة الى البرنامج المشترك بين منظمة الغذاء والزراعة والوكالة الدولية للطاقة الذرية في الحفاظ على الموارد الوراثية النباتية والحيوانية واستخدامها المستدام في البلدان الاعضاء على اساس بناء القدرات العلمية وزيادة الخبرة وتبادلها في مجال استخدام هذه التقنيات وكيفية تسخيرها في خدمة برامج التربية والتحسين الوراثي.  

ترويج الاستدامة البيئية: الحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية البيئة 

يمكن ان يؤدي تكثيف الزراعة الى انجراف التربة وتدهورها والهدر في استخدام المياه وزيادة احتمالات تلوثها وكذلك الافراط في استخدام المبيدات، مما ينعكس على سلبيا على جودة الاراضي وجعلها اقل ملائمة للانتاج، ومثلها تهديد امن الغذاء والماء، فتصبح الزراعة عموما اقل ربحاً وقبولاً لدى مستخدميها والعامة. وهنا يتوجب توافر الادارة المتكاملة للموارد الطبيعية والمدخلات الخارجية لمواجهة مثل هذه التحديات.

وفرت التقنية النووية بعض التسهيلات لمستخدميها في الحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية البيئة. من الامثلة التطبيقية المستخدمة هي مسابر الرطوبة النيوترونية لمراقبة محتوى التربة الرطوبي، وقياس توزيع الذرات المشعة المتساقطة على المناطق الزراعية لتقدير معدلات انجراف التربة وترسبها، واستخدام النتروجين والنظائر الاخرى لتتبع رشح الاسمدة والمبيدات الى المياه الجوفية، إلا بعض النهج المستخدمة لمراقبة مصير المياه والتربة والمواد الكيميائية الزراعية داخل النظم الزراعية والبيئة الاوسع. بهذه الطريقة، تساعد مثل هذه النهج في تحديد الممارسات الصالحة اقتصادياً وبيئياً معاً، لتحسين او استعادة خصوبة التربة وادامة الانتاج الزراعي، كما يمكن من خلالها تحقيق تخفيضات جوهرية في استخدام المبيدات وحماية التنوع الحيوي للنباتات والحشرات في مناطق واسعة  وذلك بادخال وسائل واساليب حيوية مختلفة مثل تقنية الحشرات العقيمة.

هناك برامج مشتركة بين منظمة الغذاء والزراعة والوكالة الدولية للطاقة الذرية في مجال تحسين خصوبة التربة وخفض تدهور الاراضي وزيادة كفاءة استخام المياه والحفاظ على جودتها وحماية التنوع الحيوي.


محاربة الآفات والأمراض .. أساليب المكافحة المبتكرة تنفع المزارعين والبيئة

تشكل الآفات الحشرية وأمراض الثروة الحيوانية تهديدا مستمرا للمزارعين، بل لأقتصاديات البلدان عموما والنامية منها بوجه خاص. من المؤكد ان مكافحة الحشرات بالمبيدات الكيميائية والعقاقير يخلف تأثيرات مؤذية في الغذاء والبيئة، فضلا عن التأثيرات الاخرى التي تؤدي الى تطبع الحشرة او المتطفل بمرور الزمن فتنتج اجيالاً مقاومة او متحملة للتاثير المضاد للمبيد الكيميائي، والذي قد يستوجب زيادة الجرعة للمادة الفعالة وينعكس سلبيا على البيئة. وعليه، فان التفتيش عن بدائل الكيميائيات من مبيدات وعقاقير يمثل الاسلوب الافضل والارخص والاكثر امانا للانسان وبيئته التي وهبه اياها سيد الكون وراعيه واوصاه بها خيرا " كلوا من طيبات ما رزقناكم".

تقدم التقنيات النووية والتقنيات المتصلة بعض الحلول لدى استخدامها كجزء من النهج المتكامل لأدارة الافات والامراض، سواء ما كان منها ما يصيب الحيوان او النبات. من افضل الامثلة على ذلك هو تقنية الحشرات العقيمة، التي تشتمل اولاً على انتاج واسع النطاق للافات واعقامها (جعلها عقيمة) باستخدام اشعة جاما، وعند اطلاقها في بيئة الهدف (المنطقة المستهدفة ) تتزاوج مع الحشرات البرية لكنها لا تنتج نسلاً، ومرور الزمن يتم القضاء عليها، حيث يبلغ مجموع اعدادها صفراً في بيئة الهدف. من الامثلة الرائعة ما توصلت اليه الكوادر العلمية في منظمة الطاقة الذرية العراقيةمن تطبيق علمي لهذه التقنية على الحشرات التي تصيب ثمار الرمان. بغية اعطاء صورة توضيحية عن المنافع الاقتصادية المتحققة من استخدام تقنية الحشرات العقيمة، ندرج في ادناه بعض من هذه الاحصاءات:

ليبيا: بلغ صافي الربح المتحقق 18.9 مليون دولار في قطاع حيواتات المزرعة نتيجة مكافحة الدودة الحلزونية للعالم الجديد، حيث كانت نسبة العائد الى التكلفة 10: 1

تشيلي: بلغ صافي الربح المتحقق 1600 مليون دولار في قطاع صادرات المحاصيل البستانية نتيجة مكافحة ذبابة الثمار في حوض البحر المتوسط، وكانت نسبة العائد الى التكلفة 400: 1

تايلند: بلغ صافي الربح المتحقق 1.3 مليون دولار في قطاع المانجو نتيجة مكافحة ذبابة الثمار الشرقية، وبلغت نسبة العائد الى التكلفة 7: 1.

يمكن تحسين مكافحة امراض الثروة الحيوانية من خلال اختبارات التقدير المناعي والاختبارات الجزيئية التي تمكن اصحاب القرار من اكتشاف وتحديد عوامل الامراض، ومن ثم رصد جهود المكافحة، وهما اداتان هامتان في الحملة العالمية لمكافحة مرض الطاعون البقري المدمر الذي يصيب الابقار.

سلامة الاغذية: حماية إمدادات الاغذية من المزرعة الى المستهلك 

ان الطلب على الاغذية السليمة والصحية في تصاعد مستمر، حيث ان ممارسات الانتاج المكثف قد تترك مخلفات او اثر للمبيدات والعقاقير البيطرية والمواد الكيميائية الزراعية الاخرى في الاغذية. كما ان الاخطار الطبيعية للبكيتريا والفيروسات التي تفسد الغذاء لها ابلغ الاثر في صحة الانسان، بل كل السلسلة الغذائية، مما يجعل منع تلوث الاغذية في كل حلقة من حلقات السلسلة الغذائية من المزرعة الى المستهلك امرا ذا اولوية في البحث العلمي التطبيقي، لا بل امرا موجبا لكل انسان يعيش بنعمة هذا الكوكب الجميل.

كجزء من الاستراتيجية العلمية العالمية المطبقة في هذا المجال، استخدام التقنيات النظائرية لرصد تلوث الاغذية بالكيميائيات الزراعية. يتم تعريض الاغذية الى جرع محددة من الاشعاعات لقتل البكيريا واطالة فترة الخزن والحفظ ومثلها مكافحة الافات الحشرية في المنتجات الغذائية النباتية. من الامثلة الرائعة ما توصلت اليه الكوادر العلمية في منظمة الطاقة الذرية العراقية من ابتكار لطرائق علمية وتطبيقية لمكافحة الحشرات التي تصيب التمر في المخازن، والتي تنعكس بالنتيجة على القيمة السعرية لصادراتنا منه الى العالم. كما يقوم البرنامج المشترك بين منظمة الغذاء والزراعة والوكالة الدولية للطاقة الذرية بتطوير معايير ضبط تعريض الاغذية والمنتجات الزراعية للاشعاعات لقتل البكيريا والافات الحشرية،  ويروج طرق التحليل النووي وغيرها ذات الصلة بالكشف عن الملوثات في الغذاء والماء والتربة، بل ومراقبتها. كما تساعد نشاطات البرنامج الاخرى حكومات الدول لكي تكون على اهبة الاستعداد والاستجابة لحالات الطوارﺉ النووية والاشعاعية التي تهدد سلامة الاغذية وامداداتها. ندرج بعض الاحصاءات والارقام التي تتعلق بسلامة الغذاء وكما يلي:

76 مليون: عدد الاصابات بامراض منقولة بواسطة الاغذية اسفرت عن 325 الف حالة دخول الى المستشفيات و5000 حالة وفاة في الولايات المتحدة الامريكية كل عام.

50: عدد البلدان التي يستخدم فيها تعريض الاغذية للاشعاعات من اجل ضمان سلامة الاغذية وجودتها، وتقليل خسائر ما بعد الحصاد، وتلبية اشتراطات الانظمة الدولية للحجر الصحي للنباتات.

3 مليون طن متري: الانتاج العالمي من الاغذية المعرضة للاشعاعات في عام 2004.

90% من حالات سرطان الغدة الدرقية: وهي نسبة يمكن تفاديها في الاطفال لو تم حظر استهلاك الحليب الملوث فور وقوع حادث تشرنوبل النووي. ولو تم ضبط تناول الخضر الطازجة الملوثة، لتحقق تخفيض اضافي نسبته 50%.   

اما على مستوى الامن الغذائي فان البرنامج المشترك بين منظمة الغذاء والزراعة والوكالة الدولية للطاقة الذرية يساعد في ترويج التقنيات النووية التي تساعد صغار المنتجين وزيادة مخرجات فقراء الريف ودخلهم من خلال ازالة المعوقات التي تواجه النمو الزراعي. ان الامثلة على ذلك كثيرة ونذكر منها باختصار شديد الاتي:

-        استنباط ونقل اسلوب النظير الثابت لقياس تثبيت النتروجين من محاصيل البقول.

-        طرائق اكثار الموز وتوفير مادة زراعة زهيدة التكلفة وخالية من الامراض.

-        النشر الواسع لأستخدام الاعلاف المحلية المدعمة بالعناصر الغذائية المتعددة.

-          تحسين تقنية التقييس المناعي الاشعاعي والكفاءة التناسلية للابقار في مزارع صغار المربين.

-        الاقتراب من استئصال مرض الطاعون البقري القاتل.

-        تخفيض الخسائر في اشجار الفاكهة ومحاصيل الخضر والثروة الحيوانية بادخال ممارسات الادارة المتكاملة للافات وغيرها من الاساليب المتبعة في التقنية النووية.

المصدر: د. ضياء بطرس يوسف وزارة العلوم والتكنولوجيا / العراق

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

609,324