ما هي ضوابط التفكير الإيجابي ؟

 

د. علي بن عمر بادحدح

السؤال: إنني دائماً أفكر كثيراً أريد أن أنتج من هذا التفكير بشيء إيجابي،لكن أحس أن تفكيري محدود جداً ، فإذا فكرت مثلاً في قضية من قضايا الأمة أو مشروع من مشاريعها لا أصل إلى المطلوب أو حتى الجزء أو النتيجة ؟ فأرجو توجيهي إلى ضوابط التفكير .. وكيف يفكر الإنسان تفكيراً صحيحاً؟ وكيف يكون إيجابياً ؟ وجزاكم الله خيراً .

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد ..

فإن السائل مشكور على عنايته بأحوال أمته وتفكيره في إيجاد حلول لقضاياها أو تبني مشروعات نافعة لنهضتها، فهذا أمر محمود وله دلالات منها :

1- الغيرة الإيمانية على الأحوال السلبية في الأمة الإسلامية .

2- المتابعة والتعرف على أحوال وقضايا الأمة الإسلامية .

3- النفسية الإيجابية المقاومة لأسباب الضعف .

ومن هنا ؛ فإن السائل ينبغي له أن يتفاءل وأن لا يجعل لليأس طريقاً إلى نفسه ؛ فإنه وإن لم يصل إلى نتيجة جيدة ؛ فإن مجرد تفكيره إيجابي وإن استمرار تفكيره سيوصله إلى نتائج إيجابية بإذن الله تعالى، وسؤاله يدل على رغبته الأكيدة في تلمس الطريق الصحيح إلى التفكير المثمر .

باختصار شديد يمكن أن نلخص عملية التفكير في ثلاثة عناصر هي: وجود المعلومات والخبرات المنظمة، ثم استخدام هذه المعلومات والخبرات في معرفة الواقع وتشخيصه والوصول إلى الأسباب وتحليل الظواهر، ثم تحويل الدراسة والتحليل إلى حلول عملية للمشكلات، وأسس علمية للنهضة والإصلاح .

ونلخص أهمية وفائدة التفكير في هذه النقاط التفكير:

ضرورة إنسانية

لأن المزية الكبرى للإنسان هي العقل المفكر، وكما هي الحاجة والمنفعة في استخدام الجوارح المختلفة من بصر وسمع ونحوها فكذلك – من باب أولى – استخدام العقل وتشغيله .

التفكير دعوة قرآنية

فآيات القرآن ملئية بالدعوة إلى التفكر والتدبر في الآيات المسطورة والآيات المنظورة، {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } .

التفكير بداية عملية

فإن كل مشكلة تعرض، وكل عمل يبدأ، وكل أمل يشرق لا يمكن أن يترجم إلى عمل إلا بالبدء بالتفكير والانطلاق منه.

التفكير آلية إنتاجية

فإن حل المشكلات أو إطلاق المبادرات، قد يكون سحابة صيف عابرة مرتبطة بذوات الأشخاص أو بتوفر ظروف معينة، لكن عندما يتحول التفكير إلى ثقافة وممارسة منهجية فإنه يصبح قادراً على التفاعل الإيجابي الدائم الذي لا يكون مجرد رد فعل بل يؤسس للتعامل مع التوقعات قبل حدوثها.

التفكير روح إيجابية

لأن اليأس قد سرى إلى بعض النفوس، والإحباط قد أحاط بكثير من الناس، فإذا انطلقت الدعوة للتفكير وبدأت تؤتي ثمارها، أشعلت نور الأمل من جديد، وأعادت الثقة للنفوس لتواصل مسيرتها وجهادها في الإصلاح والتطوير .

وكذلك هذه خلاصة لأنواع التفكير المنشود :

التفكير العام

وهو الذي يعنى بالشأن العام للأمة وليس مقتصراً على التفكير في الشؤون الخاصة للأشخاص أو المؤسسات فهذا يحظى بعناية أربابه لما يحقق لهم من مصالح، وقد نجد نماذج متميزة تفكر في أمورها الخاصة بكفاءة عالية، ويهمنا كيف نستثمر تفكيرها في الأحوال العامة للأمة .

التفكير الشمولي

وهو الذي يتناول المسائل من جميع جوانبها، ويفكر في جميع ما يتصل بها، فالتداخل في عالم اليوم جعل العلاقات متشابكة، فالاقتصاد يؤثر في السياسة، والسياسة ترتبط بالإعلام، وكل من الاقتصاد والإعلام ينعكس على الاجتماع وهكذا، ومن ثم لابد أن يكون التفكير شاملاً لجميع العلاقات والتداخلات المتصلة بالموضوعات.

التفكير المتخصص

ونحن في عصر التخصص الدقيق فإنه ينبغي أن يعطى التخصص حقه وقدره وأن تحال كل قضية للمتخصصين لئلا يتصدى لها من لا يحسنها، ولئلا تتكرر مآسي واقعنا في وجود مسئولين على رأس وزارات في غير تخصصاتهم، فالصحة مسئولها متخصص في الجيولوجيا، والصناعة مسئولها متخصص في النحو وهكذا.

التفكير الواقعي

إذ التفكير يبدأ من معلومات الواقع أساساً، والواقعية تبتعد عن الأحلام والخيالات، وعن المزايدات والمبالغات، ولكنها في الوقت نفسه لا تستسلم للواقع بل هي تهدف إلى تغييره والتغلب على مشكلاته وسلبياته، ومن ثم فإن الواقعية ليست قيداً يحد من التفكير ويحول دون التغيير كما قد يفهم بعض الناس، ويلحق بالواقعية المرونة التي لا تحمل على التصورات والحلول الآحادية بل تضع التوقعات وتحسب حساب ردود الأفعال ومنها إيجاد البدائل وتنويع الحلول والوسائل .

التفكير التكاملي

وهو التفكير الذي تتكامل فيه الجهود وتتظافر فيه الطاقات، ولا يكرر فيه ما سبق التفكير فيه بل يبنى عليه، ولا يكون التكامل إلا إذا وجد مبدأ التعاون، وكان هو روح العمل وأساسه، ثم إن الجوانب التخصصية المختلفة لابد من جمعها والتأليف بينها لأن التداخل والتأثير بين الجوانب المختلفة يوجب ذلك.

وحتى يكون التفكير منهجياً صائباً فإنه لابد أن يبنى على اليقين لا الظن، { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}، وعلى التثبت لا الترخص {ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، ويجب أن يقوم على الحق لا الهوى{ قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين} ولا مناص أن يكون أساسه الصدق لا التلون، والصراحة لا المداراة،  وبعيداً عن النفعية البراغماتية، والميكافيلية التحايلية، فالغاية لا تبرر الوسيلة{ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويلزم أن يعتمد التفكير على الدقة والتفصيل لا على الإجمال والتعميم، والمعلومات الدقيقة أساس التفكير والتخطيط، وفي قصة يوسف عليه السلام إشارة ودلالة{قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}، وأخيراً لا تتحقق الجدوى الكاملة إلا بأن يكون التفكير عملاً مؤسسياً لا يعتمد كلياً على الأشخاص وإن كان يقدر أدوارهم ويستثمر خبراتهم، فالأصل و المنهج لا الأشخاص، والقضايا لا الأفراد، والنظام المنهجي لا المزاج الشخصي.

ولابد من إدراك أن الطريق إلى إحياء التفكير وجدية العمل ودقة التخطيط وأمانة التنفيذ وكفاءة الأداء كل ذلك طريقه ملئ بالعقبات الداخلية والخارجية، فهناك الروح الانهزامية المستسلمة لتفوق الغير، وهناك العقلية النمطية الرافضة لمبدأ التغيير والتجديد، وهناك مراكز القوى النفعية التي تقوم مصالحها على الارتباط بالأجنبي، وهناك بيروقراطية الأداء في الأجهزة الحكومية بل والخاصة أحياناً، وهناك أرباب النفوذ السياسي في الطبقات الحاكمة التي لا ترى لغيرها حقاً أو إمكانية في الإنتاج والإنجاز، هذا فضلاً عن الإغراق في الملهيات، والإشغال بالتفاهات، ولا ينبغي نسيان استهداف الأعداء لمنع عجلة التطور من الدوران، لأنها أكبر خطر على مصالحهم، ويزعزع نفوذهم، ولكن كل ذلك ينبغي أن يكون - لدى العقلاء والمخلصين – زاداً للتحدي وعوامل للإصرار حتى نتحرك شيئاً فشيئاً في مقاومة تلك العوائق، ونتقدم الخطوات الأولى في مسيرة آلاف الأميال نحو اليقظة والنهضة .

وليعلم السائل أن التفكير الذي أثمر مشروعات وأعمال كبرى إنما جاء من أشخاص لهم علم واسع وخبرة عميقة وتجارب متتابعة وتعاون إيجابي مع الآخرين، ولذلك أنصح بمواصلة التفكير والبحث عن مخارج الأزمات وحلول المشكلات ومشروعات الإصلاح مع الاستفادة بما سبق ذكره .

وأحب أن أوصي السائل بهذه الخطوات العملية :

1- القراءة والتدبر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة عموماً والخلفاء الراشدين منهم خصوصاً، وذلك للنظر في عبقريتهم الذهنية وقوتهم النفسية وإبداعاتهم العملية، ويمكن التركيز على بعض الكتب التي تعتمد مبدأ التحليل ودراسة جوانب التفكير والفوائد من سيرتهم، وهذه بعض هذه الكتب :

2- القراءة في سير أعلام المسلمين في العصور المتأخرة الذين واجهوا الاستعمار وقاوموا الانحراف وأسسوا مشروعات وحركات كان لها أثرها البارز ودورها الكبير في حياة مجتمعاتهم المحلية بل وعلى مستوى الأمة الإسلامية من أمثال الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية، والشيخ عبدالحميد بن باديس في الجزائر، والشيخ حسن البنا في مصر، والشيخ أبو الأعلى المودودي في الهند وباكستان، وغيرهم، وفي سيرهم وجهودهم كتب كثيرة وهناك كتاب حافل بسير عدد كبير من الأعلام الذين لهم إسهامات في نهضة الأمة وهو كتاب ( النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د.محمد رجب البيومي).

3- القراءة في كتب التفكير الصحيح والإبداع من وجهة النظر الإسلامية مثل الكتب التالية " التفكير بداية الطريق إلى نهضة الإسلامية " د.محمود الخالدي، " التفكير العلمي " د. فؤاد زكريا، " حتى لا تكون كلاً " د. عوض القرني، " خطوة نحو التفكير القويم " د.عبدالكريم بكار، " فصول في التفكير الموضوعي " د.عبدالكريم بكار، " التفكير الإبداعي " د.عبدالله الصافي .

1- القراءة المتخصصة في أحوال الأمة من خلال الدراسات الموضوعية أو الجغرافية التي قد تعنى بدراسة أحوال الاقتصاد مثلاً، أو أحوال بلد معين .

 

2- حضور بعض الدورات في التفكير والإبداع وطرائقهما مثل دورات التفكير الإبداعي، القبعات الست، وغيرها .

3- مقابلة أهل العلم والدعوة وأهل الفكر والرأي البارزين في المجتمع ممن لهم كلمة مسموعة وآراء متميزة وذلك لمجالستهم ومساءلتهم والاستفادة من تجاربهم .

4- الاستعانة بالاستقامة والدعاء لله عز وجل بالتوفيق لما يحبه ويرضاه وما ينفع البلاد والعباد، مع استحضار أهمية التجرد والإخلاص .

والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

 

المصدر : ينابيع تربوية 

  • Currently 108/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
36 تصويتات / 421 مشاهدة
نشرت فى 30 أغسطس 2009 بواسطة abozid

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

3,863