إن خير من استأجرت القوي الأمين من فضل الله تعالى علينا أن جمع لنا في كتابه العزيز ركيزتين أساسيتين من ركائز العامل أو الموظف فجعلهما الله بمثابة جذور شجرة العمل ومن ثم يتفرع عنهما جذوع وفروع وأغصان وأوراق تمثل صفات العامل ومهاراته، فتعالوا بنا نتعرف على تلك الركيزتين من خلال آية واحدة في سورة القصص يقول فيها المولى جل وعلا: ((قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)) [القصص:٢٦]، فهما ركيزتا القوة والأمانة.
الركيزة الأولى ـ الأمانة: إنها تلك الصفة التي وصف بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم حتى من ألد أعدائه، فهاهو أبو جهل يطوف ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل عليه لعنة الله: (والله إني لأعلم أنه لصادق)، فقال له المغيرة: (مه، وما دلك على ذلك؟)، قال: ( يا أبا شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين) [تفسير الطبري، (16/170)]. إنها تلك الصفة التي اتصف بها جميع الأنبياء والمرسلين، فتخبرنا بذلك الآيات في غير موضع، فصدح نوح، وهود، ولوط، وصالح، وشعيب في أقوامه بنفس التعبير القرآني في غير آية من سورة الشعراء، تعددت الآيات والتعبير القرآني واحد: ((إني لكم رسول أمين)) [الشعراء: ١٠٧، 125، 143، 162، 178]. ولما أراد الله أن يمدح المؤمنين وصفهم برعاية الأمانة وحفظها، فقال: ((والذين هم لأماناتهم وعدهم راعون)) [المؤمنون:٨]، ثم إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذم المنافقين وصفهم بخيانة الأمانة وتضييعها، فقال كما في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) [متفق عليه].
والأمانة كما يصفها الأمام الغزالي رحمه الله فيقول: (فالأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، وهي ترمز إلى معان شتى، مناطها جميعًا شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربه) [خلق المسلم، محمد الغزالي، ص(45)]، ولكن لا يمكنك أن تحوز هذه الصفة إلا بالضمير اليقظ (الذي تصان به حقوق الله وحقوق الناس وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال) [خلق المسلم، محمد الغزالي، ص(45)]. ولذلك رفع الله من شأن تحمل الأمانة فقال تعالى: ((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا)) [الأحزاب:٧٢].
ومن أعظم مظاهر هذه الأمانة، أن يتحلى العامل بالمصداقية، وهذه المصداقية تظهر فيما يلي:
• صدق الحديث؛ فإن تحدث العامل تحدث بالحق والصدق.
• صدق المعاملة؛ فلا يغش ولا يخدع، ولا يزور، ولا يغرر مهما كانت المصلحة أو النفع المتحقق له وللعمل او الشركة.
• صدق العزم والتصميم؛ فإذا عزم على فعل أمر فإنه لا يتردد بل يمضي في عمله غير ملتفت لمثبط أو معوق.
• صدق الوعد؛ فإذا وعد أنجز وعده.
• صدق الحال؛ فالعامل لا يظهر خلاف ما يبطن، ولا يلبس ثوب الزور، أو يمتطي جواد النفاق، فلا يرائي ولا يتكلف.
ومن ثم فإن المصداقية بالمفهوم الذي ذكرنا تعد بحق حجر الزاوية في أمانة العامل فالعامل بملا مصداقية لا يمكنه أن يتولى زمام الوظيفة ويتصدر للناس، فكما يقول "جايل هاميلتون" من مؤسسة "باسيفيك" للغاز والكهرباء: (لا يمكن أن تنفذ تعليمات شخص يفتقد المصداقية و لا يؤمن حقًا بما يفعله و كيفية فعله) [القيادة تحد، كوزوس وبوسنور، ص (45)]. ولقد بات واضحًا أنه من أراد أن يعمل مع غيره من أجل تحقيق هدفه، فعليه أن يثبت بما لا يدع مجال للشك أنه يتحلى بهذا الأمانة التي تجعله يميز بين الصواب والخطأ، فيقود فريقه للفوز حقيقة ولا يخدعهم بآمال الفوز وأمانيه، ثم تتحطم هذه الآمال وتلك الأمنيات على صخرة الفشل.
ولكن كيف تستطيع أن تبني هذه الأمانة؟ وتحتاج في بناء المصداقية إلى ثلاثة أمور، وهي:
1. السلوك المستقيم: وذلك بأن يكون سلوك العامل نابعًا من القيم الإسلامية والأخلاق الحميدة والأعراف المجتمعية التي توافق شرع الله تعالى، فيكون طيب الذكر بين الناس، ولذلك كان كل المؤمنين الذين قادوا تلك البشرية إلى الخير والحق من سلفنا الصالح ومن تبعهم بإحسان، كانوا ممن شهد لهم الجميع بالسلوك القويم، ولعلهم قد قبسوا من نور سيد المرسلين وإمام النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حين وصفه ربه فقال: ((وإنك لعلى خلق عظيم)) [القلم:٤]، وما قاد يوسف أهل مصر وصار على خزائنها إلا بسلوكه القويم الذي وصفه القرآن في قوله تعالى: ((قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) [يوسف: ٥٥].
2. مطابقة الأفعال للأقوال: (إن لم يكن لديك ثقة في حامل الرسالة فلن تؤمن بمحتواها)، عبارة تلخص حجم التبعة الملقاة على عاتق العامل او الموظف بأن تطابق أفعالهم أقوالهم، وأن يبادروا إلى تنفيذ ما يطلبونه من مرؤوسيهم، فلا ينبغي أن تتشدق بأهمية التفاني من أجل العمل والتضحية من أجله ثم تكون أول الناس تضحية به عند أول منعطف، كما لا ينبغي لهم أن يأمروا الناس بما لا يستطيعون هم فعله. ولذلك جاء القرآن يحذر من انفصال القول عن الفعل، فجاء تحذير المولى تبارك وتعالى للمؤمنين في قوله تعالى: ((يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون % كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) [الصف:٢-٣].
3. تحمل المسئولية: فإن أحد دعائم بناء المصداقية هي الاستعداد التام لتحمل جميع تبعات أفعاله، وتحمل المسئولية الكاملة عن نتيجة قراراته، فإذا ما شعر الناس أن العامل والموظف لن يتخلى عنهم عند أول عقبة تواجههم، أو أي فشل يلم بهم، فإنهم يسيرون وراءه ويأتمرون بأمره، وتزداد ثقتهم به، ولذلك يفقد الكثير من الموظفون مصداقيتهم مع إكثارهم من إلقاء التبعة على مرئوسيهم، و نعتهم بالضعف، وعدم الفهم للعمل، وهو بذلك يفقد من حيث لا يعلم المصداقية التي تؤهله لهذا المنصب. وانظر إلى الموظف حينما يمتلك تلك المصداقية في نفوس أتباعه، فيهرعون إليه في الملمات، ويلجأون إليه في النوائب، وهؤلاء من آمنوا من بني اسرائيل مع موسى أحسوا بعظمة قائدهم، وبوقوفه إلى جانبهم، فلما رأوا البحر أمامهم وجند فرعون من خلفهم وأدركوا أنهم هالكون لا محالة، رسم لنا القرآن موقف موسى عليه السلام وثباته مثالًا لكل قائد في كل زمان ومكان، فيقول عز وجل واصفًا هذا المشهد: ((فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن مع ربي سيهدين)) [الشعراء:٦١-٦٢] .
نستخلص مما سبق أن ركيزة الأمانة، أو المصداقية تنضوي على أمور ثلاث ألا وهي:
1. السلوك المستقيم والخلق الحميد للقائد.
2. مطابقة الأفعال للأقوال.
3. تحمل المسئولية.
ودعونا نترككم الآن، ولكن على موعد باللقاء القريب، لقاء نتحدث فيه عن الركيزة الأخرى من ركائز العمل الفعالة، ألا وهي ركيزة القوة العملية.
ساحة النقاش