من الدستور الأخلاقي للحرب قبل الإسلام

الدكتور القصبى زلط 

عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف -المستشار العلمى للرابطة

إن الحرب في الإسلام حرب أخلاقية، وهناك مجموعة من الأخلاقيات للقتال في الإسلام، نستطيع أن نسميها دستورًا أخلاقيًا للحرب في الإسلام. وتتمثل هذه الأخلاقيات أو هذا الدستور في عدة مبادئ منها: تحريم قتل من لم يقاتل، وتحريم الانتقام من العدو بعد موته بتشويه جثته أو قطع بعض أجزاء من جسده، ويعرف ذلك بالمثلة.

وكذلك من أخلاقيات الحرب في الإسلام: تحريم قطع الشجر وهدم الأبنية وسوف نعرض هذه الأخلاقيات في صورة أحكام حتى نفصل القول فيها بعض التفصيل.

ثم نبين هل من أخلاقيات الحرب في الإسلام: ترك الحذر وعدم الخداع في الحرب؟ أو محاولة معرفة أخبار العدو؟

حكم غير المقاتلين من الأعداء؟

إن الله عز وجل قد بين في كتابه أن القتال والقتل لمن قاتل وأمسك بالسلاح فقال سبحانه في سورة البقرة: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة190).

وقد فهم المسلمون هذا فصارت الآية دستورًا لهم في حروبهم ومعاركهم، وقد جاءت السنة النبوية بتحديد الأشخاص الذين لا يجوز التعرض لهم بالقتل أثناء الحرب، فقد أخرج البخاري، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان. وأخرج الإمام أحمد عن رباح بن ربيع، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة، مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كانت هذه لتقاتل فقال لأحدهم الحق خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا. وفي الحديث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً، ولا صغيرًا، ولا امرأة". وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله تقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تغدروا ولا تمثلوا ولا تغلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع".

ومن وصايا الخلفاء: وصية أبي بكررضي الله عنه ليزيد بن سفيان حين وجهه إلى الشام، فقد قال له: لا تقتل امرأة ولا صبيًا ولا شيخًا هرمًا. ووصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسلمة بن قيس حين وجهه إلى بعض الجهات قوله: "اتقوا الله ولا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب".

والفلاح والعسيف أو الأجير الذي لا علاقة لأي واحد منهما بالحرب، لا يقتل إذا رآه الجند، أو أحد منهم في عمله، أو في حقله أو مهنته التي يمتهنها، ما دام عمله الذي يعمله لا صلة له بالأعمال القتالية.

يقول صاحب الجهاد والقتال: "والعمال الأجراء في المصانع وعمال النظافة في الطرقات، والأطباء الأجراء الذين يترددون على المرضى والجرحى والمستشفيات لأداء ما استؤجروا عليه، هؤلاء ومن على شاكلتهم من أهل البلاد المحاربة يصدق عليهم وصف العسفاء من حيث الواقع؛ لأنهم في الحقيقة أجراء أي: يجري التعاقد معهم على أشخاصهم للقيام بأعمال أو خدمات معينة نظير أجر بصرف النظر عن الألقاب أو المراتب الاجتماعية التي تميز بين هذه الفئات.

وعلى هذا فإنهم يتمتعون بالحصانة الشرعية ضد توجيه السلاح عليهم بشرط ألا تكون لهم صلة بأعمال قتالية.

ويلاحظ أن كل الأشخاص الذين استثنوا من القتل في النصوص السابقة: إذا اشترك أي شخص في القتال فإنه يقتل، فالمرأة التي اشتركت في القتال تقتل، وكذلك الصبيان إذا كانت عندهم طاقة على القتال وقاتلوا يعني: من بلغوا أو قاربوا البلوغ وأصحاب الصوامع يقتلون أيضًا إذا كانوا على هذه الصورة.

وأيضًا يقتل الشيخ إذا كان له رأي في القتال ومشورة، لكن الشيخ الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار ولا مضرة على المسلمين فلا يقتل، ويشهد لهذا أن دريد بن الصمة قتل في بعض المعارك وكان شيخًا قد جاوز المائة؛ لأن المشركين أحضروه ليستعينوا برأيه في إدارة المعركة، بل قال صاحب الفتح إنه كان يقاتل.

ويلاحظ أن جمهور الفقهاء قاسوا على الأشخاص الذين حددتهم النصوص: "كل من لا يقاتل أو من لا يستطيع القتال".

يقول صاحب الجهاد والقتال نقلاً عن بدائع الصنائع: أما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة ولا صبي، ولا شيخ فان، ولا مقعد ولا يابس الشق، ولا أعمى، ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف، ولا مقطوع اليد اليمنى، ولا معتوه ولا راهب في صومعة، ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس، ولا قوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب، أما المرأة والصبي، فلقول النبي عليه الصلاة والسلام "لا تقتلوا امرأة ولا وليدًا" لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا يقتلون".

والأصل أن كل من كان من أهل القتال يحل قتله، سواء قاتل أم لم يقاتل وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى، بالرأي أو التحريض وأشباه ذلك.

ويلاحظ أن قول الكاساني: الأصل أن من كان من أهل القتال يحل قتله سواء قاتل أو لم يقاتل، لا ينصب على وجهة نظري على من يقدر على القتال أو كان من أهله إلا إذا كان من الجيش حتى يستقيم الكلام.

فإذا كان هناك أحد ممن هو أهل للقتال، لكنه ليس في صفوف الجيش ولم يقاتل كيف يقتل؟ كيف يقتل من يسير في الشارع ومن هو بعيد عن ساحة القتال حتى وإن كان من أهل القتال؟

وهذا الكلام يؤيده أن صاحب البدائع يقول بعد ذلك: وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله حقيقة أو معنى.. فإذا كان من ليس من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل فكيف يحل قتل من لم يقاتل إذا كان أهلاً للقتال.

فالضابط إذن: أن من لم يكن من أهل القتال وقاتل يحل قتله، ومن كان من أهل القتال واشترك في صفوف المقاتلين ولم يقاتل فإنه يحل قتله وإلا لما خرج؟ إنه خرج ليقاتل أو ليقوم بأعمال تفيد المقاتلين، أو لم يقاتل جبنًا وخورًا وضعفًا، فهو جندي في صفوف المقاتلين بصرف النظر عن كونه قاتل أو لم يقاتل.

وكأن الضابط يؤول في النهاية إلى أنه إن كان في صفوف المقاتلين يحل قتله سواء أكان من أهل القتال أم لم يكن.

يقول ابن قدامة: ولا تقتل امرأة ولا شيخ فان.

وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي بكر الصديق ومجاهد وروي عن ابن عباس في قوله تعالى (ولا تعتدوا) يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير.

قال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر: يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم".

ولأن الله تعالى قال "فاقتلوا المشركين" وهذا عام يتناول بعمومه الشيوخ، ثم قال: ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً ولا امرأة".

وروى عن أبي بكر الصديق  أنه وصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتل صبيًا ولا امرأة ولا هرمًا وعن عمر أنه وصى سلمة بن قيس فقال لا تقتلوا امرأة ولا صبيًا ولا شيخًا هرمًا.

ولأنه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة وقد أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العلة في المرأة فقال: "ما بال هذه قتلت وهي لا تقاتل" والآية مخصوصة بما روينا ولأنه قد خرج من عمومها المرأة والشيخ الهرم في معناها فنقيسه عليها.

وأما حديثهم فأراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال أو معونة عليه برأي أو تدبير جمعًا بين الأحاديث، ولأن أحاديثنا خاصة في الهرم وحديثهم عام في الشيوخ كلهم والخاص يقدم على العام. ثم يقول: ولا يقتل زمني، ولا أعمى، ولا راهب. ولنا في الزمني والأعمى أنهما ليسا من أهل القتال فأشبها المرأة.

وفي الراهب ما روي في حديث أبي بكر الصديق  أنه قال: وستمرون على أقوام من الصوامع، قد حبسوا أنفسهم فيها، فدعوهم حتى يميتهم الله على ضلالهم؛ ولأنهم لا يقاتلون تدينًا فأشبهوا من لا يقدر على القتال.

ثم بين ابن قدامة أن من قاتل من هؤلاء النساء والشيوخ والرهبان في المعركة يقتل وأنه لا خلاف في ذلك.

وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما مر بامرأة مقتولة يوم الخندق، فقال: من قتل هذه؟ قال رجل: أنا يا رسول الله، قال: ولم؟ قال: نازعتني قائم سيفي، قال: فسكت.

وهناك حالة أخرى يجوز فيها قتل من لم يقاتل، وهذه الحالة تحدث عنها الفقهاء وبين أنها تكون عند شن الغارات على الأعداء ليلاً واستعمال الأسلحة الثقيلة أو ما يسمى بلغة العصر أسلحة الدمار الشامل. ففي تلك الحالة لا يمكن التمييز بين من يجوز قتله ومن لا يجوز.

وعلى هذا الأساس فلو أغار المسلمون على الأعداء ليلاً، ورموهم بالأسلحة الثقيلة أو ما يسمى بلغة العصر أسلحة الدمار الشامل صباحًا أو مساء، فإنه قد يقتل من لا يقاتل، أو من ليس من أهل القتال لكنه في تلك الحالة لا يقتل قصدًا بل تبعًا، فإن قتلهم محرم.

ويشهد لهذا ما أخرجه مسلم عن الصعب بن جثامة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب في نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم.

ويقول الإمام النووي في شرح الحديث: إن قوله صلى الله عليه وسلم: هم منهم معناه: فهم من آبائهم، فيؤخذون كلهم ثم بين أن هذا الجواز إذا لم يتعمدوا قتلهم من غير ضرورة، ثم قال: وأما حديث النهي عن قتل النساء والصبيان فالمراد به إذا تميزوا.

وإذا كان البيات يعني الإغارة ليلاً بحيث لا يعرف الرجل من المرأة فهذا يدل على أن قتل هؤلاء ليس بطريق القصد وإنما بطريق الاختلاط وعدم التمييز.

وذهب الفقهاء أيضًا: إلى جواز الرمي بالمنجنيق ليلاً أو نهارًا، وقد يكون معهم النساء والصبيان. واستدلوا على ذلك: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف.

ولنا وقفة أخرى مع هذه الجزئية عندما نتحدث عن حكم استعمال الأسلحة الحديثة وأن الإمام مالكًا قال: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان، وتحصنوا بحصن أو سفينة وحملوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم.

حكم التمثيل بجثث الأعداء:

المثلة أو التمثيل يعني: تشويه الجثة أو قطع عضو من أعضائها ومنه تشويه خلقة القتيل بأي فعل بأن يجدع أنفه، أو يفقأ عينه، ومنه قطع عضو من أعضائه، فإن هذا الفعل هو المثلة أو التمثيل.

أما حكمه: فإنه حرام عند كثير من الفقهاء ودليلهم: ما أخرجه مسلم، عن بريدة قال رسول الله : إذا أمر أمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا".

وما رواه البخاري عن عبدالله بن يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن النهبي والمثلة أي نهي أن يأخذ المرء ما ليس له ونهي عن تشويه خلقة القتيل أو قطع عضو من أعضائه.

فالمثلة حرام، بنص السنة النبوية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح التمثيل بجثث الأعداء حتى ولو مثل الأعداء بجثث المسلمين. ويعبر ابن جزي المالكي في القوانين الفقهية عن هذا الرأي: "ولا يجوز حمل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد ولا حملها إلى الولاة". والسبب في هذا أن ذلك تمثيل، والمثلة حرام.

ويعبر أيضًا صاحب سبل السلام عن هذا الرأي فيقول وهو يغلق على حديث ابن بريدة الذي سبق: دل الحديث على أنه إذا بعث الأمير من يغزو، أوصاه بتقوى الله وبمن يصحبه من المجاهدين خيرًا، ثم يخبره بتحريم الغلول من الغنيمة وتحريم الغدر وتحريم المثلة وتحريم قتل الصبيان المشركين وهذه محرمات بالإجماع. وقد بين الصنعاني في سبل السلام بعد ذلك أن هذا التحريم جاء بعد غزوة أحد.

ويقول ابن عابدين في حاشيته: "ثبت في الصحيحين وغيرهما النهي عن المثلة، فإن كان متأخرًا عن قصة العرنيين، فالنسخ ظاهر وإن لم يدر فقد تعارض محرم ومبيح، فيقدم المحرم ويتضمن الحكم بنسخ الآخر". ويبين ابن قدامة مذهب الحنابلة فيقول: ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم. لما روى سمرة بن جندب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة".

وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح".

وعند عبدالله بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق برأس البطريق فأنكر ذلك فقال: يا خليفة رسول الله، فإنهم يفعلون ذلك بنا قال: فاستنان بفارس والروم؟ لا يحمل إلى رأس فإنما يكفي الكتاب والخير ثم قال: وقال الزهري: لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط وحمل إلى أبي بكر رأس فأنكره.

ويكره رميها في المنجنيق نص عليه أحمد. ويبدو أن الكراهة تعني التحريم، فقد كان الإمام أحمد لتورعه يطلق المكروه على الحرام، فكأنه يخاف أن يطلق على الحرام حرامًا فقد لا يكون حرامًا فيقع في الإثم.

وعلى هذا فإن جمهور الفقهاء يرون أن المثلة حرام، وأن كلام أبي بكر  الذي ذكره ابن قدامة شهد بأن الحرمة لا تزول، حتى لو مثل الأعداء بجثث المسلمين.

وأخيرًا بين صاحب المغني أن هذا التحريم يزول إذا كانت هناك مصلحة في المثلة فقال: وإن فعلوا ذلك لمصلحة جاز.

وأحب أن أقول: إن المصلحة يرجع تقديرها إلى القائد فإذا رأي إغاظة الأعداء، وإدخال الرهبة في قلوبهم، أو كانت المثلة ردًا لمثلة فعلوها بالمسلمين فلا حرج.

 

مشروع سفراء الأزهر

Sofraaalazhar
تأهيل وتطوير شباب الأزهر (محلياً - دولياً) بأهم المهارات (تكنولوجيا - اتصال- إعلام - إدارة - ثقافة) بأحدث أدوات التدريب المعاصرة لتعزيز دور المسئولية المجتمعية للأزهر في التواصل مع الفئات المختلفة لمواجهة الأفكار المتطرفة وترسيخ ثقافة الحوار بالتشبيك والمشاركة مع المؤسسات الحكومية والمجتمع المدنى والقطاع الخاص محلياً ودولياً. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

5,000

نبذة عن المنظمة العالمية لخريج