أين نحن

تتشكل أفكار الإنسان وثقافته من خلال عمليات متتالية ومتكررة  ومتنامية منذ  الطفولة حتى الشيخوخة ، حيث تلعب أنماط التربية وأنواعها وأدواتها دوراً كبيراً في تشكّل الشخصية وتحديد الأفكار، وتتأثر التربية بالبيت و المدرسة و الشارع ونمط الثقافة السائد فى المجتمع الذي تعكسه الأغاني والأهازيج الشعبية والقصص ، والمواد الإعلامية من تلفزيون ومسرح وسينما وصحافة …. 

وتتأثر كذلك بالمنظومة الدينية والأخلاقية السائدة لتتشكل في النهاية شخصية الفرد والتي هي جمع معقد بل شديد التعقيد من كل المؤثرات السابقة، والتي  تحتاج في النهاية  إلي ضابط يضبط كل هذه المؤثرات ويضع لها ميزانا ينظم حركتها ويجعلها منسجمة مع حاجاتها الذاتية ووظيفتها الجمعية فتحقق غايات الوجود وحقيقة الخلق.

وأكاد لا أبالغ إذ أقول أن من أقوى هذه المؤثرات هي العقيدة  التي تعبر عن موقف الفرد وقناعاته اتجاه القضايا المصيرية في حياته أو الأمور البسيطة العادية .

 لذلك تعتبر العقيدة من أهم وأعظم وأخطر الأمور التي ترتكز عليها حياة الإنسان ، لأنها تخلق القناعات والأفكار والتصورات عن الحياة والكون ، وتدفع الإنسان  للتفاعل مع الوجود المادي والمعنوي ، تفاعلاً إيجابياُ يحقق فيه الهدف من حياته والغاية التي من أجلها خلق ،من إعمار للأرض[1]  و اكتشاف للسنن والقوانين المادية والنفسية والاجتماعية التي تجعله قادر على التسخير[2] ونشر الخير والصلاح والإحسان[3] و تحقيق الشهادة على الناس[4] وتتشكل عنده  بالنهاية المرجعية الفكرية والسلوكية التي تنظم حياته فيحقق الميثاق بينه وبين ربه ألا هو تأدية الأمانة التي كلفه الله بها[5] أمانة التكليف وأمانة التبليغ وأمانة الخلافة[6] فيحقق بذلك  توازنا نفسيا وانضباطا ماديا ضمن منظومة متكاملة لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها[7].

 

 وما التيه الذي عليه الناس إلا بسبب اختلاط القيم والأفكار ، وتخبط السلوك والأفعال في فضاءات مبعثرة مبهمة وفلسفات بشرية نسبية قاصرة ملتبسة تارة شرقية ، وأخرى غربية ، تحاول أن تجد حلاً لذلك الإنسان التائه في بحر من التناقضات والأهواء فتختلط  الأهداف والوسائل وتنقلب موازين الخير والشر ويتحطم سلم الأولويات فيتجذر ويسيطر  الاستعباد والاستكبار والاستغلال في شكل سياسات أو أفكار،  تمزق من أواصر الخير والعدل بين الناس شر ممزق.

وما سبب اختلال الأنظمة الاجتماعية وفساد أنظمة السياسة في العالم بأسره إلا بسبب الابتعاد عن الإسلام ، الذي هو دين الأنبياء[8].

ولا سبيل للخلاص من تلك الفوضى الفكرية والسياسية،  إلا بتقديم الإسلام فكراً وعملاً،  كبديل حضاري كوني إنساني للثقافات المصلحية الانتهازية يصلح من حال البشرية المدقع في الارتباك و الفوضى ، الموغل في الأمراض النفسية والاجتماعية ، ليعيد للإنسان توازنه مع نفسه ، ومحيطه  و العالم من حوله ، فيعرف سر خلقه ووجوده  مبدئه وحياته ونهايته ، فلا يضّل ولا يشقى[9]، ويخرج من حالة الضنك الذي يعيشه لتتحول علاقته مع الآخر علاقة تعارف أساسها احترام الخصوصية والاختلاف تجعل التعاون علي الخير شعارها ،فلا حروب عرقية أو قرصنه اقتصادية. 

لذلك ومن رحمة الخالق بالخلق ما فتئ سبحانه منذ آدم عليه السلام إلا ويرسخ القيم والتصورات الحقيقية ويحدد الوسائل والغايات البناءة عبر ظاهرة الأنبياء الذين لعبوا دوراَ إيجابياً فعالاَ على طول التاريخ الإنساني بتأصيل الفهم الصحيح  للكون والإنسان وإرساء أبعاد التوحيد في وجدان البشرية التي لن تسعد أبدأ إلا به ، لأنه القانون الوحيد الذي ينسجم مع الفطرة ويوازن بين الحاجات النفسية والمادية فلا رهبانية تتنافى مع الطبيعة البشرية ولا تفلت جنسي مدمر للنفس والمجتمع ، وهادم للأسرة والشرف والفضيلة .

ولا مركزية سلطوية أو حرية صورية مزيفة ، تستعبد الفرد وتلغى كرامته وتحوله لرقم وظيفته العمل المضني براتب مخزي  يأكل ما يستطيع أكله من فضلات الملك وحاشيته ويسكن أينما توفر له السكن دون حول منه ولا قوة ، فهو من الصباح إلى المساء لا هم له سوى بطنه وفرجه ، ينعدم عنده التفكير والإبداع ، ويغذى  يومياً بجرعات  ثقافية تقدم له عبر إعلام مغرض  وشعارات تافهة ، ومواعظ تلفيقية تفوح منها رائحة الكذب والنفاق ، تكرس سياسة الملك المستبد ، وتعطى له المبررات ليفعل ما يشاء دون حساب.

و الأمة الإسلامية تتحمل أعباء ومسؤوليات النهوض بالإنسانية من حالة الضياع والمرض لحالة الرشد والعافية بتوعية عاقلة منسجمة مع العقل والمنطق والفطرة والوحي   لكونها اختيرت من عالم الغيب و الشهادة لهذه المهمة ،واختار الله تعالى في نهاية قافلة الأنبياء الرسول محمد بن عبد الله ، ليكون شهيداً على المجتمع الإنساني بأسره .

والمتأمل في  واقع العالم العربي والإسلامي اليوم ، يجد بسهولة فائقة أن هذه الأمة بعيدة تماماُ عن الرشد والعافية، وأنها غير قادرة على أن تقدم نموذجا حضارياُ يحتذي به  ولا أن تقوم  بمهمة النهوض التي كلفت بها  وقد أصابها مرض التخلف على كافة الأصعدة ، مما يهدد كيانها الداخلي ووجودها الكوني ، ويجعلها عرضة للنهب والسلب وهجرة العقول والقدرات المادية والبشرية.

أصبحت حرمات هذه الأمة مستباحة وتحولت أراضيها لمكان تجرب وتختبر فيه أسلحة الدمار الشامل .

استبداد سياسي مع مصادرة للحريات واغتيال للأفكار وتبعية مقززة .

ارتهان اقتصاد الأمة لمرجعيات سياسية مصلحيه نفعية محلية ودولية ، حولته إلى اقتصاد يكرس الهيمنة السياسية والاستبداد الفكري مع البراعة الشديدة في ابتكار برامج يعود ريعها  لجيوب الأغنياء والسماسرة والمتطفلين ومن يدورون في فلكهم من الساسة وأصحاب العصي الغليظة.

ولم يستطع هذا الاقتصاد أن يحقق الأمن الغذائي و الصحي أو التعليمي.

الواقع التعليمي لم يستطع أن يصل لمرحلة محو الأمية بعد فكيف بالبحث العلمي وتطوير الجامعات والإسهام بحركة التحديث والتغيير.

مشاكل اجتماعية متعددة ومتشابكة من بطالة منتشرة  لعدم القدرة على تأمين فرص عمل مناسبة لخريجي الجامعات والمعاهد وغياب دور المرأة الفاعل ، ومؤسسات الضمان والخدمات الاجتماعية   …الخ.

فكيف بأمة وقد أصابها المرض في كل أجهزتها أن تكون قادرة على تصدير العافية والرشد؟!!.

وسبب ذلك كله هو غياب مقاصد التوحيد بأبعاده الإنسانية والكونية ، والبحث عن مرجعيات فكرية وثقافية غربية[10] أو شرقية غريبة عن روح الأمة لم تزدها إلا خسراناً مبيناً [11].

تحول التوحيد إلى شعائر تعبدية أو طقوس احتفالية أو متعة فكرية أو جهاد منفعل وُبعد عن أهدافه الحقيقية وغاياته الإنتهائية  وهى صناعة الإنسان الواعي الحضاري القادر على التفاعل مع مفردات الكون ومع الحركة الواعية الفلسفية العلمية نحو التغيير والتسخير .

لذلك يجب أن تجند الإمكانيات والطاقات في سبيل تأصيل لفهم شديد لمنهج الأنبياء و أساليب بعث الأمة من جديد لتقوم بدورها الحضاري و بالدعوة إلى الإسلام القوي المتين المنقذ للبشرية من أدران الشرك وظلمة المعاصي وشرور الاستبداد والشرك، فالبشرية بحاجة إلي الإسلام، والأمة تملك هذه الطاقات المتميزة و تختزن في جنباتها موروثا ثقافيا عظيما، و لكن الجهود مبعثرة والأهداف ضبابية والعدو الحقيقي لا يمس بسوء، وتأكل الأمة نفسها وتستهلك طاقاتها في فضاءات غير فعالة وغير مؤثرة.

نطلب من الله قصد السبيل إنه علي كل شيء قدير. 

نسألك يا الله، خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة العدل والحق في الغضب والرضا و نسألك القصد في الفقر والغنى و نسألك نعيما لا يبيد وقرة عين لا تنقطع و نسألك الرضا بعد   القضاء  و نسألك برد العيش بعد الموت و نسألك لذة النظر إلى وجهك و نسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين[12].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


[1](وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يا قوم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) سورة هود الآية 61.

[2]  (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الجاثية الآية 13.

 

[3] (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) سورة الحج الآية 41.

[4] (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) سورة الحج الآية 78   .

[5]  (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) سورة الأحزاب، الآية 72.

[6]  (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)سورة ص ، الآية 26.

[7] (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) سورة فصلت  الآية 42.

 

 

[8] (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) سورة آل عمران ، الآية 19.

 

[9] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) سورة طه ، الآية 124.

[10] (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة النور الآية 35.

[11] (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) سورة آل عمران الآية 85 .

[12] صحيح ابن حبان ، الجزء 5 ، صفحة 305.

المصدر: نظرات
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 158 مشاهدة
نشرت فى 8 يونيو 2012 بواسطة Qusaibaty

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

601