بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

بسم الله الرحمن الرحيم

أغنيــــة ( عديـلة )

النوبية السودانية!! كلمة ( عديلة ) عند توديع المسافر تعني : ( يعدل الله عليك السفر ) .. وموضوع السفر والوداع من أبجديات النوبة منذ أقدم العصور .. فبلاد النوبة قد نالت حظها بالقدر الكافي من الهجرات والسفر .. ظاهرة تعاقبت لآلاف السنين .. أرض كنباتات العشر تطرد ثمارها لتطير مبتعدة وهي تمتطي أجنحة الهواء نحو المجهول .. جذورها تصدأ بالتقادم وتدفن .. أما بذورها فترحل مع الرياح .. لتنمو في ديار الآخرين !.. ولكن الحكمة العجيبة أن الجذور لا تفنى بمعنى الفناء .. بل تعانق الأرض رغم الجفاء .. دائما تجود ثم تجود بالعطاء .. وكر مهمته التفريخ ثم التسفير .. كأعشاش الطيور التي تتقادم وهي توجد الأجيال تلو الأجيال من العصافير .. تلك العصافير التي ترحل بعيدةً نحو الفضاء .. مهمتها أن تتواجد فقط في لحظات التوالد .. ثم ترحل يوماً نحو البعيد المجهول .. تلك هي السنة المعهودة السائدة في أرض النوبة .. استقبال للحياة .. ثم أيام للتمهيد والإعداد .. بعدها ذلك التحليق المؤكد والسفر نحو أعماق المجهول .. وتيرة في حياة النوبة تعني الفراق والافتراق .. كما تعني الدموع والبكاء .. الأيام في مرافئ النوبة تكون سخية في لحظات الموالد والبدايات .. ثم تكون كئيبة في لحظات النهايات .. حيث أيام السفر والهجرات !.. تجسيد لصورة درامية تخلق الدموع عند المغادرةً والافتراق .. كما تخلق الدموع عند اللقاء والعناق .. أما العودة لديار النوبة فهي نادرة كندرة لين العصافير .. ولو حدثت تلك العودة فإنها تمثل لحظات فرح تتمازج بالدموع والعناق .. والمؤلم حقاً أن الهجرات النوبية دائما تكون بغير عودة أو أوبة !.. ومع ذلك فإن المهاجر النوبي كثيراً ما يحدث النفس بأنه سيعود يوما لأرض الأجداد .. ولكنه في الغالب الأعم لا يعود أبدا ولا يفعل ذلك .. فهو يخادع الذات بمجرد الأمنيات .. كما يهدر السنوات والعمر في طمأنة النفس !.. فيقول غدا سوف تكون تلك العودة .. فإذا بالغد يأتي ثم يعقبه غد ثم غد ثم يرحل الغد وهو مازال يواكب الأمنيات .. وفي نهاية المطاف يجد النفس فجأة قد أكملت مشوارها في الحياة ثم ذلك الرحيل لمقابر الآخرين . ........... وأغنية ( عديلة ) النوبية هي أغنية تجسد تلك الصورة الدرامية .. فكالعادة فإن الأغنية تتناول مراسيم الحياة في مناطق النوبة .. فتلك هي الحبيبة التي تنشأ في ساحة النوبة .. ثم تلك هي الحبيبة التي ترحل عن ساحة النوبة .. وشاعر الأغنية يواكب تلك الأحوال خطوة بخطوة .. يواكب الأحوال في حال التواجد .. كما يواكب الأحوال في حال السفر .. ثم يواكب الأحوال بعد السفر .. يقول الشاعر : الحبيبة أهلها كرماء يوجدون المياه سبيلا لكل عابر يشتكي الظمأ .. وذاك هو الزير ( قارورة الماء ) يتواجد عند باب الحبيبة .. وإناء الشرب متعلق على فرع شجرة الحنة .. ومن العجيب أن ماء الحبيبة بارد كالثلج رغم أن السبيل يتواجد تحت الشمس !.. وكل من ينال جرعة من ماء الحبيبة فإن قلبه يرتوي بشفاء الحس ! .. وصف في غاية الغرابة !! .. فهو يرى المحاسن مطلقاً في كل ما يتعلق بالحبيبة .. قال أحد زعماء المنطقة متعجباً عندما سمع كلمات الأغنية لأول مرة : ( ذاك سبيل يتواجد في الشمس فكيف يكون ماءه بارداً كالثلج ؟؟ ) .. فقيل له تلك هي فروض العشاق الذين لا يرون العيوب في أغراض الحبيبة !.. فكل أمر يتعلق بالحبيبة يتجسد لديهم بالكمال ! .. فهم لا يرون إلا محاسن الصيت دون تلك الشوائب .. وفي حكم شاعر الأغنية فإن الذي يشرب من ماء الحبيبة يتذوق سلسبيلاً بارداً عذبا رغم أن السبيل يتواجد تحت الهجير !! .. وقد يمر عابر سبيل غير عاشق ويشرب من ماء ذلك السبيل ثم لا يطيق الشرب لسخونة الماء !!.. على كل حال ( ما علينا ) فتلك هي شرعة العشاق .. وتلك هي حقائق الفيزياء !.. ثم يواكب شاعر الأغنية أحوال الحبيبة عندما يسمع خبراً فيقول : لقد أطرق أسماعنا خبر يقول أنك على وشك السفر !.. فلمن تتركينا يا ذلك القمر ؟؟ .. ثم يستدرك الظروف ويرضخ لواقع الأمر .. فيودعها بالقول : ( عديلة ) يا تلك التي سوف لن ننساها أبدا .. ويوصيها بشدة بأن لا تطيل الغيبة في مرافئ الغربة .. وأن تعود للأحباء من وقت لأخر .. وخاصة في مواسم الأعياد .. وفي فقرة أخرى يتساءل الشاعر في حيرة وهو يقول ( هل من الصعوبة السفر والعودة ؟؟ ) . أغنية ( عديلة ) النوبية تعد من أكثر الأغنيات التي نالت الشهرة .. في مناطق النوبة .. وفي خارج مناطق النوبة .. ومن أكثر الأغنيات الشعبية انتشاراً .. ومن أكثر الأغنيات التي سيطرت الساحات لسنوات طويلة .. وهنالك الكثيرون من شعوب العالم الذين رقصوا على نغمات أغنية ( عديلة ) .. رغم أنهم لا يفقهون حرفاً واحدا في اللغة النوبية !.. ولكن قوة اللحن وقوة الإيقاع النوبي هي التي كانت تجذب الآخرين .. وكما يقال فإن لغة الإيقاعات لا تعرف حواجز الحدود .

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1203 مشاهدة
نشرت فى 25 إبريل 2018 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

807,011