بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

authentication required

      

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

 

قصـة الأب الذي يجهـل اسـم طفلتـه !!! 

هذه قصة إنسان تعدى سياج الحكمة حين تجاهل المكتوب في لوح الأزل  .. وأوهمته النفس يوم أن قالت له أنت سيد الأمر في هذه الدنيا فأفعل ما تشاء .. فنسي أن تلك المشيئة غير مطلقة على العواهن  ولكنها مقيدة بشروط الأقدار .. فهي تلك النفوس حين تحلم في غياب الحكمة .. وتظن أنها تملك كامل القرار في مشاوير الحياة .. وكامل القرار لا يكون إلا لسيد الكون الذي يوجد المعدوم من العدم .. أما ذلك المتواجد فأمره موكول .. وعليه أن يسلك مسارات المكتوب .. ولكن هي تلك النفوس حين تتمادى وتتوهم الشروط في دروب الاجتهاد .. وتتجاهل المشيئة في الكثير من الأحوال .. ثم تركب فرس العناد الشديد حين لا يوافق المكتوب مسارات التخطيط .. وقد تلاحق تلك الأنفس مناكفة الأقدار بإصرار ..  فهي عبثاَ تقاوم الأقدار .. وفي مقاومتها تفقد صحة العقل والمنطق .. لتصبح ذلك الجدل الخائب الذي يوازي الحديد والحجارة في صلابة الرأي .. معاندة بغير حكمة أو منطق أو تفكير .. ولا تدري بأنها تحاول المستحيل .. وتلك جرأة خاسرة حين تتدخل في شأن ليس بالمقدور .. وتطالب بإلحاح لنيل ما لا ينال بالإصرار .
          لقد بدأ ذلك الشاب خطوات حياته الخاصة حين اختار شريكة حياته .. ثم أوجد عشاَ خاصاَ له ولأسرته .. وكانت تلك البدايات لحياة زوجية هانئة سعيدة .. وضحكت له الدنيا قليلاَ في لحظة من تلك اللحظات النادرة .. فأطمئن قلبه لضحكة الدنيا .. فجلس في هدوء تام يخطط ويرسم لمستقبل حياته .. فأوجد خريطةَ مستوفية بكامل البنود والشروط كما يشاء .. فكانت تلك الصورة النمطية لحياة من رحم الخيال بمواصفات كما يتمنى ويشتهي .. وتناسى أن الحياة ليست كلها في تناول الإنسان .. وجمح به الخيال فقدم وأخر .. ورسم الأولويات في المسار.. كما رسم الملاحق حسب الظروف فيما بعد .. وأخيراَ خرج بصورة كاملة توضح مستقبلاَ زاخراَ بكل مواصفات الخيال .. وحدد في الخريطة مواضع الصغيرة والكبيرة بكل دقة وإمعان .. دون أن يترك للأقدار مجالاَ في القرار .. فكان من أولوياته ومخططاته أن يكون للذكور من ذريته القادمة حظ البواكير .. وللإناث فرص قد تتاح فيما بعد حسب الحاجة وحسب الظروف .. تلك هي كانت مخططاته .. وتلك هي كانت رغباته في عالم الأحلام والخيال .. وكأنه يملك مقاليد تلك الأمور في الكف .. ولكن للأقدار دائماَ قولها .. وقولها هو ذلك النافذ الملزم الذي يكون حين يقع المقدور .. وقول الأقدار قد يخالف أحلام البشر لحكمة يعلمها رب الأقدار .. وعندما بلغت مسامعه تباشير التهنئة بأول القادمين من إنجابه فرح ورقص ثم سأل عن النوع .. ولما قيل له أن باكورة الإنجاب بنت وليست ولداََ تغيرت ملامح الوجه وبهتت الأسارير لتموت الفرحة في مهدها .. وفجأة تحول ذلك الإنسان إلى ذلك البائس المقهور .. وكأنه قد أصيب بداء عضال .. وفقد للحظة شهية الحياة .. فغضب وسخط ثم دخل وخرج .. وتمرد وزمجر .. ولام وعاتب من لا يستحقون اللوم والعتاب .. ولعن ذلك الحظ الذي أبى أن يواكب مخططاته ومشاريعه .. وظل يشتكي عثرة الحدث للبعيد والقريب .. للقاصي وللداني .. ثم أخيراَ استكان واستسلم حين قبلت نفسه تلك الواقعة على مضض رغم مرارة التجربة على قلبه .
              ثم مرت الشهور والأيام بعد حدث الباكورة الأولى .. ليكون اللقاء مع ولادة أخرى .. فإذا بالأقدار تصر على تكذيب الأمنيات والمخططات .. حيث تلك المولودة الثانية .. والتي مثلت ثاني اثنين في العقد المرصع !! .. وهكذا توالت الولادات بنت إثر أخرى .. ولما بلغ به الحال بعدد من الأمورات قرر بعناد شديد أن يفلت من ساحة الأحوال .. وهو يحس في أعماقه بذلك الإحباط في مشوار الحياة .. ذلك القرار الظالم الذي كان فيه الكثير من الجفاء والخطأ الجسيم .. فقد عزم بإصرار شديد أن يهجر الديار والبلاد .. وأن يهجر ساحة الأسرة والبنات .. فكان ذلك القرار بالاغتراب في دولة أخرى .. بعيداَ عن الأصحاب الذين ينادونه بأبي البنات .. وعندما قرر السفر كانت الزوجة تحت حمل جديد .. فأقسم لها بأنه لن يعود إليهم مرة أخرى إلا حين يسمع بأن المولود هو ذلك الولد المنشود .. سافر واغترب وهو يحلم بتلك الأمنية التي أصبحت غاية أحلامه في مشوار الحياة .. ثم مكث يترقب وينتظر الحدث بفارق الصبر كما يتمنى ويحلم  .. وفي خياله دائماَ يتمثل طيف ذلك الولد العزيز المفقود .. ولكن تصر الأقدار أن تقول قولتها مرة أخرى .. فجاءت الأنباء تبشره بالولادة وبسلامة الأم كما تبشره بأن الحال ( أيضاً كذلك ) .. والجديد مثل القديم .. فتلك أمورة جديدة قد أطلت ضيفاَ تشرف الديار .. وشكلت حبة أخرى في عقد البنات .. ذلك العقد المرصع بأجمل الحبات .. زمردة أخرى قد أضيفت لتكمل الحلقات .. فنزلت عليه الأنباء كالصاعقة تدمر كل أحلامه الباقية .. وكان الخبر قاسياَ مجحفاَ على قلبه .. فأرسل إليهم قائلاً : أبعدوني من رباكم .. ودعوني من تلك السيرة التي أصبحت تغم صدري وتزيد همومي .. ولكم الخيار في اختيار الاسم كما تريدون .. وقد يطول غيابي واغترابي لأنني أفقد شهية العودة لدياركم .. وأقفل سيرة البنات بتلك الكلمات القاسية التي أبت أن تقبل موجبات الأقدار .. ثم كان ذلك القرار الذي يخالف المنطق والأعراف .. وبعد ذلك الحدث مرت السنوات عجافاً كالحاَ على إنسان أبت نفسه أن تواكب الأقدار .. كما مرت على بيت فقد حنان ذلك الأب الذي أبى أن يكون ذلك الراعي المغوار .. وقد ركب فرس العناد في حماقة غير مألوفة في بني الإنسان .. وكان قاسياَ قسوة الحجارة حين تمادى في مشوار الجفاء والانقطاع .. حتى أنه لم يفكر يوماَ أن يشغل نفسه بالسؤال عن اسم المولودة الجديدة .. وعاش السنوات التالية في كنف ذلك القرار الظالم الغير مقرون بالعقلانية والتفكير السليم .. وأصر أن يفي بوعده ذلك العقيم .. ذلك الوعد المجحف الذي فرضه على نفسه .. ولكن قد لا تدوم الأحوال بنفس الوتيرة في بلاد الآخرين .. فتلك البلاد بشروطها وقواعدها .. وهي شروط وقواعد قد تفرض الجديد على الأجانب المتواجدين في أرضها .. وقد تفرض المغادرة حين يتطلب الاكتفاء والنماء .. فبعد مرور تسعة سنوات في بلاد الغربة أجبرته شروط تلك البلاد أن يعود لوطنه الذي يعني الهوية والمعية الأبدية .. فقرر العودة إلى دياره وأهله وأحباءه .. تلك الديار التي نالت منه الجفاء والصدود بغير حق أو مبررات .. فأعد العدة للعودة مجبراَ وليس طوعاً .. وهو يحس في أعماقه بأنه عائد تحت جبروت الظروف وحكم الأقدار .. وتلك الأوبة تشكل ثقلاَ على عاتقه .. ويخال إليه أنه عائد إلى بيت البنات وهو يحمل ثقل الجبال .. وقد فرض على نفسه ذلك الجدار من الأوهام .. جدار الصدود والجفاء .. فكانت تلك الحماقة وذلك القرار العقيم .
         حطت الطائرة الميمونة في مطار دولته .. وقد عاد إلى بلاده بسلام دون أن يخطر أحداَ بمقدمه .. يقول ذلك العائد العنيد :  استأجرت سيارة التاكسي من المطار وتوجهت صوب داري وأهلي .. وأنا متردد أفقد الاتزان في مجمل القرار .. حيث تلك العودة الاضطرارية الغير مقرونة بالشغف والتلهف .. وبعد ذلك المشوار من المطار إلى البيت توقفت السيارة أمام منزلي .. فنزلت من السيارة ثم تقدمت بخطوات بطيئة خجولة نحو باب داري .. ثم طرقت الباب طرقة خفيفة باستحياء .. وانتظرت هنالك برهة وأنا أترقب أن يفتح الباب .. ثم فجأة انفرجت ضلفة الباب لتقف أمامي زهرة حلوة يانعة نضرة في غاية الروعة والجمال .. لوحة قبس فريد في الملامح وبرعم زهرة أزاح التويج لينفرد بتلك الإطلالة الزاهية الحلوة الباسمة .. درة أصابت القلب من أول نظرة ونالت شغف فؤادي .. بلمحة تواجدت في ساحة عيني ثم تمكنت في تملك وجداني .. والنظرة إليها ملئت نفسي بهجة وحبوراَ وسعادة .. فوقفت مندهشاَ وأنا أنظر إليها بتعجب وتأمل .. وهي بدورها نظرت في عمق عيني بتعجب وذهول .. نلك النظرة الملائكية البريئة التي فيها كل الحلاوة والطراوة .. وفيها نقاء السريرة وجمال الطفولة والتأمل .. أربكت اللحظة معدل الوقار في سلوكي فهممت أن أقول لها حرفاَ .. ولكن تخاذل اللسان وعجز أن يأتي بذلك الحرف .. فلم تمهلني كثيراَ لأعيش المزيد من لحظات الطلاسم والحيرة  ..  بل قالت لي بمنتهى البراءة واللطافة أنت ( بـابـا ) .. أعذب كلمة وأجمل لحن يسمعها أذني في حياتي  .. ثم زادت اللحظة بروعة السماحة المبذولة من طفلة يافعة نضرة حين لم تمهلني لأعيش المزيد في عالم الحيرة والإرباك فقد رمت فجأة بجسدها الغض النضر في أحضاني فأضممتها بشدة وحنان .. لحظات أحسست فيها بأنني أملك الدنيا وما فيها بين سواعدي .. فتلك نور قلبي وفلذة كبدي أضمها فوق ضلوعي .. وحينها بدأت أسمع دقات قلب صغير تدغدغ وجداني وإحساسي .. وبين يدي تلك الدرة العزيزة التي تمثل ملكي دون أن ينافسني فيها أحد .. فجرت دمعة ساخنة فوق خدي .. وهي سافرت في فرحتها وغابت في خيالها حين نامت في عمق أحضاني .. تعيش لحظات أمنية وأحلام ظلت تراودها لسنوات وسنوات .. فكم تمنت تلك الطفلة أن تنام في تلك الأحضان .. ثم بدأت ألوم نفسي  وأقول : يا إلهي ما ذنب تلك الطفلة البريئة النبيلة الصغيرة الجميلة  ؟؟ !! .. عوقبت قبل أن تعرف معنى العقاب .. وظلمت وهي في حاجة إلى حنان الأحباب  .. وظالمها هو أقرب الناس إليها مودة ولكن بغير حجة وأسباب .. وهي لا تملك أمرها في الرحم بل الحكم لرب الأرباب .
                ويضيف قائلاَ :  وأنا في إرباك ودهشة قلت لها ( ما اسمك  !! ؟؟ )  .. فابتسمت تلك الصغيرة اليافعة .. ثم قالت ببراءة الطفولة النقية : هل يعقل يا أبي أنت لا تعرف اسمي ؟؟ .. سؤال عاتب قلبي ليبكي داخلي حسرة وندامة .. وفي تلك اللحظة أحسست بمقدار حماقتي وطيشي في تناول الأمور .. ولكنها كانت تلك العالية بروح الملائكة وقد أخجلتني بعفوها ورضاها حين تناست سيرة الاسم لتقبلني في جبيني .. وأنا بدوري قبلتها في جبينها .. ثم أضممتها مرة أخرى في أحضاني.. وتمنيت لو أنها دامت في تلك الأحضان إلى قيام الساعة .. ولكنها فجأة انطلقت وهي تنادي بصوتها العذب وتعلن نبأ قدومي لأهل البيت في الداخل فركض باقي حبات العقد الفريد ليكون الجميع في أحضاني .              
          تلك قصة ذلك الأب الذي وجد نفسه أخيراَ محاطاً بقلوب تجمع الحنان والشوق والعطف والرقة .. أنفس بريئة لا تعرف إلا الفرحة والانشراح بقدوم عائد بعد طول جفاء وصدود وغياب .. أهلكت الغيبة الطويلة تلك الأنفس البريئة التي اشتاقت كثيراَ لحنان ذلك الأب المفقود في عالم المجهول .. وكم وكم حلمت تلك الأنفس وعانقت أباها في الأحلام .. ومع ذلك تناست تلك المعاناة في لحظات الفرحة .. فكان ذلك الاستقبال الكريم .. وكان ذلك العفو السخي ..  أما ذلك الأب فعندما يتذكر كل ذلك الماضي فإنه يخفي آلامه ويتأسف كثيراَ على ظلم جرى منه على هؤلاء الأبرياء .. الذين يحبونه رغم الأذى و الصدود والجفاء والعناد .. وعندما ينفرد بنفسه في خلوة يجد العتاب في قلبه وضميره فيبكي في الخفاء .. وتلك أحوال كل من يحاول التدخل في أمور الأقدار حسب الأهواء .

 

ـــــــــــــ
 
    قصة  من محض الخيال / للكاتب السوداني عمر عيسى محمد أحمد                       

 

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 92/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
37 تصويتات / 605 مشاهدة
نشرت فى 28 إبريل 2011 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

806,706