استقلال الذّات: استقلال الجماعة

 

ندى امين الاعور

 

لا شكّ بأن استقلال الهند هو ملحمة إنسانيّة فريدة سطّرها التّاريخ الحديث. وهي تحمل في ثناياها رسالة سلام كوني تبشّر بها الحكمة الهندية منذ آلاف السّنين. فالسّلام يبدأ بانتصار الفرد على ذاته وينتهي بمجتمع طوباوي سعيد يحيا متناغما مع القوانين الطبيعية والروحية. إذ إنّ المهاتما غاندي، أبّ الأمّة، وصانع الاستقلال يقول في ذلك:

 

 

" لا بدّ أن يبدأ الاستقلال من القاعدة حيث تصبح كلّ قرية جمهورية معتمدة على الذّات وقادرة على إدارة شؤونها. كل فرد في المجتمع وحدة. الثّقافة تكون بالضّرورة عالية بحيث يعلم كلّ رجل وكلّ امرأة في المجتمع ماذا يريد هو وماذا تريد هي بالضّبط. انّه مجتمع قائم على اللاعنف، على الحق،...

 

... في هذا الكيان المشكَّل من قرى لا تُعَدّ ولا تُحصى هناك دوائر اوقيانوسيّة متّسعة دائماً. مركزها الفرد المستعد للفناء من أجل القرية، والقرية المستعدة للفناء من أجل دائرة القرى، حيث يصبح الكل - في النهاية- حياة واحدة قوامها أفراد متواضعون مشتركون دائماً وأبداً في عظمة دائرة أوقيانوسية هم وحداتها... "١

 

هذه الصورة الرائعة الطموح، تبدو وكأنها ينابيع تهدر بمياهها من الجبال العالية، وتسير متمايلة بخريرها العذب نحو البحار والمحيطات، حيث تصبح كُلاً موَحّداً بشكل يتلاءم مع قوانين وُجدَت منذ كان الخَلق. إنها حلم بحياة مشتركة، راود الخالق منذ فجر التّكوين. تنوّرت بصيرة المهاتما بالرؤيا الصافية، فبشّر بحياة إنسانية مشتركة تجمع الإنسان بأخيه الإنسان، كما يجتمع النّاسك بربّه. هذه البشرى، حملها غواتما بوذا رسالةً سماويّة قبل ستة قرون من ميلاد السيّد المسيح . كما يحملها آلاف الحكماء والمعلمون الهنود المنتشرون في كافّة أصقاع الدنيا لتأسيس ولرعاية جمعيات التأمل الروحي "اليوغا" ومدارسها.

 

هذا الحلم المقدّس المرتكز إلى مدنية توارثتها الأجيال الهندية على مرّ العصور، بعيد كلّ البعد عن طموحات الصناعيين الباحثين عن الأسواق في ظلّ نظام الحياة التنافسيّة المؤذية. كما انّه بعيد عن خيال أولئك الذين يستعبدهم الاستهلاك الضّرير القائم على الاعتداد بالذات، وعلى الكفر بالقوانين الطبيعية والروحية. إذ إن الفرد يتملّص من عمق إنسانيته حين يعتقد بأنّ حياته تبدأ لحظة ولادته وتنتهي لحظة موته. ويبحث عن ملذّات الغرائز المستبدة به. فيُطلق للنّفس عنان شراستها طامعاً باغتصاب حقوق الآخرين. وهو في ذلك لا يعي ولا يرنو إلى آفاق حياة مستمرة لا نهائية.

 

المهاتما غاندي في مسيرة نضاله، انطلق من إيمانه بأنّ على الإنسان أن يستحق كونه إنساناً. غاص في جذور الحقيقة التي نبض بها قلبه. درس كنه الأديان السماوية كلها وصهرها في بوتقة إيمانه الهندوسي العميق. تكشفت له أسرار تقمّص الأرواح وأزاح النّقاب عن القانون المقدّس الثابت. ابتدأ بضبط النّفس وقَهَرَ الوحوش الدّاخلية التي تكبّل الإنسان بقيودها. فاستطردت روحه في سموّها متصلة اتصالاً مباشراً بالله: النّور المطلق، الحبّ المطلق، الخير المطلق، الخير المطلق، والحياة الخالدة. فكان ناسكاً وطنياً داعياً إلى استقلال أرض ميلاده.     

 

وقد كان عبر انتمائه القومي منتميا إلى الدنيا بأسرها روحاً حيّةً حرّة منفتحة. وقد عرَّف شعوره ذاك بالقول:

 

"وطنيتي جامعة ومانعة. إنها مانعة من حيث أني بكل تواضع اركّز اهتمامي على ارض ميلادي. ولكنها جامعة من حيث إن خدمتي ليست من النوع التنافسي أو العدائي...

 

أنا أريد تقدُّم الهند حتى يستفيد العالم كلّه من تقدّمها. أنا لا أريد تقدُّم الهند على خرائب الأمم الأخرى. وعليه فإن كانت الهند قوّية وقديرة فسترسل إلى العالم خزائنها من الفن والمهارات الصحيّة. غير إنها سترفض إرسال الأفيون أو السوائل المسكرة وان كانت تجلب لها ربحاً مادّيا كثيراً."٢

 

رؤيا المهاتما غاندي إذا، نقلت الطّموح الفردي والجماعي من المجال المادّي المحدود إلى المجال الرّوحي غير المحدود. فتحقيق الذّات لا يتّفق مع تحقيق المكسب المادّي على حساب بؤس الآخرين. فهو قد أراد السّلام الذّاتي والشّعبي المتّفق حكماً مع القوانين الرّوحيّة النّافذة بحدّ ذاتها. والمهاتما غاندي تمكّن من سبر أغوار قوانين الطّبيعة واستطاع إلى التّوافق معها سبيلاً فتماشت تفاصيل حياته اليومية كانسان فرد مع الحركة الكونية ومع موسيقى تبعث الحياة من خلال ذبذبات ترسلها أنوار الكواكب وتستجيب لها أحشاء الأم الأرض وأمواج البحار. "السّلام المسلّح قابلٌ للزّوال في كلّ لحظة"٣ ، قال، وطرح مفهوماً لسلام دائم يعتمد اعتماداً كبيراً على طهارة الرّجل وعفّة المرأة. فمتغيرات الزمن أسفّت بالأخلاق، لكن محراث التراث العلمي الفلسفي الروحي المتوارث في الهند، لا زال يشق طريقه طارحاً الخيار أمام كلّ شخص كي يكون صالحا. إذ أن الفردوس على الأرض، لا نصل إلى أعتابه، إلاّ عبر اتباعنا لمدنية تعتمد ضبط النّفس وحسن السيرة والسلوك، لا زالت الهند تحفظها حضارة روحية وتراثا علميا منذ آلاف السنين.

 

الهند اليوم، لا زالت "أم الحكمة"، فهي تنتج للبشرية أجيالا من الحكماء، رجالا ونساء، يجوبون العالم قاطبة شارحين علوما تغوص في أسباب الخلق والوجود. شارحين ما لطاقة الفكر من مكانة تحرك مجرى تنقل الروح البشرية من حال إلى حال حتى يتم اتحادها اتحادا نهائيا بالروح الكونية الخالدة. فالمستقبل نحن نصنعه لأنفسنا مزدهرا كان أم مترديا. وخطر التردي محدق يحذرنا من عواقبه الوخيمة علماء البيئة في كل مكان. فالحياة على اليابسة مهددة بالفناء التام، في حال استمرار الجشع البشري المجنون باغتصاب الطبيعة الأم. وقد حذرنا المهاتما غاندي من >لك بالقول:"الطبيعة قاسية وهي ستنتقم انتقاما كاملا ممن ينتهك قوانينها". ٤

 

والانتهاك نتيجة جهل يبلغ من صاحبه مبلغا مأساويا. ولا د من القيام برحلة إلى داخل النفس لتنقية شوائبها. فشريعة الغاب لا تصلح قانونا يحكم البشر ووحشية الإنسان لا تنتظر إلاّ التفاتة من الإنسان نفسه كي تنقلب شرور النفس إلى خير مؤمن بالحق وبالحقيقة مفسحا المجال نحو تطور الحياة باتجاه مجتمع إنساني متكامل.

 

نتطلع نحو الحضارة الغربية المسيطرة على العالم اليوم، فنراها تقوم على منتج ومستهلك. كلاهما يلوث الماء والهواء والتراب من حوله بنسب متفاوتة. نستعرض تاريخ الحضارات فنرى بروز أمم واضمحلالها عبر الأزمان. أما الحضارة الروحية فلا زالت تخفق بها القلوب مبشرة بحرية لا يفقدها الإنسان إلاّ من خلال ضعفه هو. إنها حرية طاهرة نقية تحترم عناصر الوجود من ماء وتراب ونور وهواء وأثير. كما إنها تقدس حياة كل ذي حياة. وتقدس الحقيقة والقوانين الكونية والكتب والأم والأب والمعلم والضيف. إنها حضارة تعي كون الجسد الآني ثوبا ما أن يبلى حتى ترتدي الروح سواه. ذلك بحسب قانون لا يخطئ سيرشقنا حتما بأوزار السلوك أو بثمارها. فالإنسان إذا، قد يترك غناه كي يولد في بيئة فقيرة مدقعة أو العكس. وهو بذلك لا يتمكن من الاحتفاض بمقتنياته. فالجسد ملك للأرض وليست الأرض ملكا للجسد الحي المتحرك الفاني. والروح تحث السير نحو موطنها الحقيقي، عبر ولادات وولادات. لذلك فنحن لم نرث عن غاندي سوى ثوبه وحاجاته الشخصية القليلة. فهو عملاق كامل الحرية هب فركل العاصفة العاتية بقدمه العارية، معاملا الصديق والعدو على حد سواء. تلقت بلاده صفعة على خدها، فصدح صوته مطالبا بحقه وأدار الخد الآخر دون أن يتنازل عن حركة المغزل المتوارث الذي أعطاه اكتفاءه الذاتي. لم يطلب نجدة الله في صلاته كي يجابه عدوه بحد السيف. إنما طلب نجدة الله كي ينتصر على شرور نفسه مواجها الأعداء بصدق إنسانيته. فلقن ملوك الأرض دروسا ومهد دروبا لنساك بلاده لا يزالون يسلكونها بدأب ونجاح. وهو كان واعيا لهذه الحقيقة إذ قال:"الهند مرساة كبيرة لنا ولآمالنا. إنها باقية بثبات وصمود لأن المجتمع لا يغير ما اختبره فوجده صحيحا بالتجربة" ٥.

 

والتجربة الهندية  آمنت بإمكانية وصول الإنسان إلى وعي الحقيقة المطلقة واستيعابها. والنشيد الوطني الهندي الذي كتب كلامه وموسيقاه رابيندرانات طاغور، المرشد الروحي للمهاتما غاندي، هو أبرز البراهين على ذلك. انه صلاة  للفرد وللجماعة تؤمن بأن مصير الهند في يد أمينة، وتوضح بأن  أحلام قديسي البشرية الحديثة لا بد أن تتحقق:

 

أنت حاكم عقول الناس مقرر مصير الهند

 

 

أسمك يوقظ قلوب: بنجاب والسند وغوجرات

 

ومهاراشترا ودارافيدا واوريسا وبنغال

 

انه يرجع الصدى في جبال فيندهاس والهمالايا

 

ويمتزج في موسيقى يامونا وغانغا

 

وتنطق به أمواج البحر الهندي

 

هي تمدح على أفضالك وتغني في ثنائك

 

نجاة الشعب في يدك انت مقرر مصير الهند

 

النصر لك، النصر لك، النصر لك

 

النصر النصر النصر لك.....

 

مراجع:

 

 

١- رؤياء الهند، المجلس الهندي للعلاقات الثقافية، دلهي الجديدة، 1983، تعريب: عبد الحق بن شجاعت علي، الصفحة 103.

 

٢- نفس المرجع ، الصفحة : 114.

 

٣- نفس المرجع ، الصفحة : 122.

 

٤- نفس المرجع ، الصفحة : 134.

 

٥- نفس المرجع ، الصفحة : 97.

 

المصدر: المصدر: مقال بقلم ندى أمين الاعور حول فكر وسلوك ورؤيا المهاتما غاندي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 180 مشاهدة
نشرت فى 11 مارس 2022 بواسطة Nadamine

ند ى أمين الاعور

Nadamine
الشهادات العلمية تموز، 1988 الجامعة الأميركية في بيروت، بيروت، لبنان ماجستير في الآداب الخبرات المهنية شباط 1995 –حزيران 2001 مؤسسة ومنسقة نشاطات النادي البيئي المدرسي "بلو اند غرين" ، مدرسة يسوع ومريم، الربوة، لبنان. حزيران 1999 - نيسان 2001 مديرة البرامج، شريكة المركز الدولي للتنمية، المتحف، شارع اوتيل ديو، بناية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

124,591