الخبرة القضائية الرقمية في الجرائم المعلوماتية
الخبرة القضائية الرقمية- دكتور خالد ممدوح
أصبحت الخبرة القضائية الرقمية Digital Forensic في مجال الجرائم المعلوماتية مهنة ومجال بحثي معترف بهما، وذلك بسبب الانتشار المستمر والمتزايد للجرائم الرقمية في جميع أنحاء العالم.
وعلى الرغم من إن مجال الخبرة القضائية الرقمية أصبح الآن راسخًا في الاستخدام- وبصفة خاصة في الدول الغربية- إلا أنه يمكن اعتبار مجتمعه البحثي والعلمي ما زال ناشئًا وحديثاً نسبيًا مقارنة بالمجالات المرتبطة بعلوم البحث الجنائي التقليدية.
ونظرًا للمزايا التي تتيحها الخبرة القضائية الرقمية، في مجال الجرائم المعلوماتية، فإنها تواصل اكتساب اعتراف هائل باعتباره تخصصًا أكاديميًا ومهنيًا في العديد من البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا وألمانيا، والسبب في ذلك إنها تهدف إلى إنشاء معرفة شاملة وتطوير المنهجيات المناسبة التي يمكن اعتمادها لهزيمة المجرم الرقمي.
الخبرة القضائية الرقمية هي فرع من فروع علم البحث الجنائي الرقمي الذي يشمل استرداد المواد الموجودة في الأجهزة الرقمية والتحقيق فيها ، وغالبًا ما تتعلق بجرائم الكمبيوتر ، وتم استخدام مصطلح الخبرة القضائية الرقمية في الأصل كمرادف للبحث الجنائي المرتبط بالكمبيوتر ولكنه امتد ليشمل التحقيق في جميع الأجهزة الإلكترونية القادرة على تخزين البيانات الرقمية.
والتعرض لموضوع الخبرة الرقمية، يقتضي إن نتناول مفهوم الخبرة القضائية الرقمية، وأهدافها، وطرق اكتسابها، ونشأتها التاريخية، وذلك على نحو ما يلي.
أولاً: مفهوم الخبرة القضائية الرقمية Digital Forensics
نتناول تعريف الخبرة القضائية الرقمية في الفقه والقانون كما يلي.
(أ): تعريف الخبرة القضائية الرقمية في الفقه
عرف بحث مقدم إلي مؤتمر أبحاث الطب الشرعي الرقمي والذى عقد بمدينة نيويورك الأمريكية عام 2001 مصطلح الخبرة القضائية الرقمية ، أو البحث الجنائي الرقمي، بأنه هو " استخدام الطرق المستمدة والمثبتة بطريقة علمية ، وذلك من أجل الحفاظ على الأدلة الرقمية المستمدة من المصادر الإلكترونية ، وتجميع الأدلة الرقمية والتحقق منها وتحديدها وتحليلها وتفسيرها وتوثيقها وتقديمها ، بغرض تيسير أو تسهيل إعادة فهم الأحداث التي يثبت أنها إجرامية أو المساعدة في توقع الأفعال غير المصرح بها والتي تبين أنها معطلة للعمليات المخطط لها".
كذلك عرف البعض الخبرة القضائية الرقمية على أنه " استخدام طرق مثبتة علميًا للحصول على أدلة رقمية من مصادر الوسائط الرقمية مثل الكمبيوتر أو الهاتف المحمول أو الخادم أو الشبكة التي يمكن أن تستخدمها المحكمة".
وهذا التعريف ذو مفهوم واسع يشمل العديد من أنشطة الكمبيوتر، حيث يشير إلى أن البحث الجنائي الرقمي لا يقتصر على أجهزة الكمبيوتر الشخصية ولكن الأجهزة الرقمية الأخرى مثل الهواتف المحمولة والمساعدات الرقمية الشخصية وحركة المرور على الشبكة وغيرها الكثير.
وأيضاً عرفها البعض بأنه " تحديد الأدلة الرقمية وحفظها وفحصها وتحليلها وذلك باستخدام إجراءات مقبولة علمياً ومصدق عليها، بغرض عرض تلك الأدلة أمام المحكمة ".
وقد عرف البعض علم البحث الجنائي المعلوماتي- أو علم المعلوماتية الحاسوبية forensics Computer بأنه " التحليل المُمنهج للتجهيزات المعلوماتية بهدف البحث عن دليل معلوماتي أو رقمي، حيث يتم عبر مرحلتين: مرحلة التحقيق - البحث عن الأدلة وتجميع الأدلة وحفظها وتحليلها، ومرحلة تقديمها أثناء المحاكمة للمحكمة المختصة.
ويتضح من التعريفات السابقة إنها تدور حول إن الخبرة القضائية الرقمية هي فرع من فروع علم البحث الجنائي يجمع بين طرق من العلوم والتكنولوجيا والهندسة، ويركز على استعادة الأدلة والمعلومات الموجودة في الانترنت والمخزنة على الأجهزة الرقمية المتعلقة بالجرائم المعلوماتية، أي أجهزة تخزن البيانات مثل أجهزة الكمبيوتر أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة أو الهواتف الذكية أو بطاقات الذاكرة أو محركات الأقراص الصلبة الخارجية، ومن ثم التحقيق فيها وتفسيرها.
وفي رأينا الشخصي، يمكن تعريف الخبرة القضائية الرقمية بأنها هي" فرع متطور من فروع علم البحث الجنائي يختص بفحص الأجهزة الإلكترونية أو وسائط الكمبيوتر باستخدام تقنيات وبرامج معينة، بغرض اكتشاف وتحليل المعلومات المتاحة أو المحذوفة أو المخفية التي قد تكون بمثابة دليل إثبات أو نفي فيما يتعلق بجريمة معلوماتية وقعت أو محتملة الوقوع، وتقديمها بطريقة مقبولة قانونًا في أي إجراءات قانونية.
ويختلف علم الخبرة القضائية الرقمية، في جوهره، عن معظم تخصصات الطب الشرعي التقليدية، إذ ينتج علم الخبرة القضائية الرقمية معلومات وبيانات مباشرة قد يكون لها أهمية في قضية ما.
(ب): تعريف الخبرة القضائية الرقمية في القانون
عرف قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنه 2018 في المادة الأولي الخبرة بأنها" كل عمل يتصل بتقديم الاستشارات أو الفحص أو المراجعة أو التقييم أو التحليل في مجالات تقنية المعلومات". ويستفاد من التعريف السابق إن الخبرة القضائية الرقمية تُستخدم مع وجود الجرائم المعلوماتية ذات الصلة التي يتم ارتكابها باستخدام الأجهزة الإلكترونية أو الرقمية مثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر اللوحيةTablet ، وذلك عن طريق بتقديم الاستشارات التقنية أو الفحص أو المراجعة أو التقييم أو التحليل للأدلة الرقمية.
ثالثاً: تخصصات خبراء البحث الجنائي الرقمي
في الأصل، كان مجال التحليل الجنائي الرقمي يشمل فقط أجهزة الكمبيوتر، وخاصة أجهزة الكمبيوتر الشخصية، لكن الآن مع توسع مجال التحليل الجنائي الرقمي امتد ليشمل التحليل الرقمي للشبكات أيضًا، ويتضمن مجالات الخبرة مثل التحقيق في انتهاكات أمن الشبكات ومحاولات القرصنة وسرقة البيانات.
وعلى الرغم من إن علم البحث الجنائي الرقمي يركز على فحص واستعادة والتحقيق في الأدلة الرقمية المخزنة أو المخفية على أجهزة الكمبيوتر، إلا أنه من الناحية العملية فإن مجال خبراء البحث الجنائي الرقمي لا يقتصر دورهم على استرداد البيانات من أجهزة الكمبيوتر فقط ، وذلك لأن ارتكاب جرائم تقنية المعلومات من الممكن إن يتم عن طريق استخدام الأجهزة الرقمية الصغيرة مثل الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية ومحركات الأقراص المحمولة على نطاق واسع، وتحتوي بعض هذه الأجهزة على ذاكرة غير ثابتة بينما يحتوي بعضها على ذاكرة ثابتة، وتتوفر منهجيات وآليات كافية لاسترداد البيانات من الذاكرة غير الثابتة، بينما هناك نقص في منهجية مفصلة أو إطار عمل متعلق باسترجاع البيانات من مصادر الذاكرة الثابتة وذلك بسبب إنها تعتمد على نوع الأجهزة والوسائط الإلكترونية
ولذلك فإن علم البحث الجنائي الرقمي هو مجال علمي يتطور باستمرار مع العديد من التخصصات والأنواع الفرعية، وبعض هذه الأنواع هي:
1- الخبير القضائي الرقمي للكمبيوترComputer Forensics:
الخبير القضائي الرقمي المتخصص في فحص أجهزة الكمبيوتر يقوم دوره على التعرف على الأدلة الموجودة على القرص الصلب لأجهزة الكمبيوتر وأجهزة الكمبيوتر المحمولة ووسائط التخزين وحفظها وجمعها وتحليلها والإبلاغ عنها لدعم التحقيقات والإجراءات القانونية.
والهدف من البحث الجنائي الرقمي للكمبيوتر هو فحص وشرح الوضع الحالي للأجهزة الرقمية، مثل نظام الكمبيوتر أو وسيط التخزين أو المستند الإلكتروني، وعادةً ما يغطي هذا التخصص أجهزة الكمبيوتر والأنظمة المدمجة - الأجهزة الرقمية ذات قوة الحوسبة الأولية والذاكرة المدمجة - والذاكرة الثابتة مثل محركات أقراص USB.
2- الخبير القضائي الرقمي للشبكات Network Forensics:
يهتم الخبير القضائي الرقمي للشبكة بالبحث عن أدلة من خلال مراقبة وتحليل حركة مرور شبكة الكمبيوتر، على الصعيدين المحلي وشبكة WAN الإنترنت، لأغراض جمع المعلومات أو جمع الأدلة أو كشف التسلل، عادةً ما يتم اعتراض حركة المرور على مستوى الحزمة، وإما تخزينها لتحليلها لاحقًا أو تصفيتها في وقت مناسب ، باستخدام أدوات مثل جدار الحماية أو نظام كشف التسلل.
وهدف الخبير القضائي الرقمي من مراقبة أنشطة الشبكة أو الأحداث، والتقاطها، وتخزينها، وتحليلها هو من أجل اكتشاف مصدر الهجمات الأمنية، أو التطفل، أو حوادث المشاكل الأخرى مثل فيروس الديدان، أو هجمات الفيروسات أو البرامج الضارة، وحركة مرور الشبكة غير الطبيعية، والانتهاكات الأمنية.
3- الخبير القضائي الرقمي للأجهزة المحمولة Mobile Devices Forensics
البحث الجنائي الرقمي للأجهزة المحمولة هو تخصص يهتم بالأدلة الجنائية الرقمية المتعلقة باستعادة الأدلة أو البيانات الرقمية من جهاز محمول، بما في ذلك جهات الاتصال والرسائل النصية الواردة والصادرة والصور وملفات الفيديو، أي يهتم بعملية استرداد الأدلة الإلكترونية من الهواتف المحمولة والهواتف الذكية وبطاقات SIM، وأجهزة المساعد الرقمي الشخصي وأجهزة الملاحة GPS والأجهزة اللوحية ووحدات تحكم الألعاب.
ويعتبر أهم فروع الخبرة الرقيمة هو فرع الخبرة القضائية المتنقل، والذي يتعلق بفحص وتفتيش الأجهزة المحمولةmobile devices وكيفية الحصول على الأدلة الرقمية واستخراجها من هذه الأجهزة بطريقة سليمة ، ويرجع سبب ذلك إلي زيادة استخدام الأجهزة المحمولة على مستوى العالم في المعاملات، وقد اختار غالبية مجرمو الإنترنت استخدام الأجهزة المحمولة في تنفيذ الجرائم بسبب طبيعة هذه الأجهزة وسهولة الحركة عند استخدام هذه الأجهزة.
4- الخبير القضائي الرقمي للصورة الرقميةDigital Image: يعمل هذا الفرع على استخراج وتحليل الصور الفوتوغرافية المكتسبة رقميًا للتحقق من صحتها من خلال استعادة البيانات الوصفية لملف الصورة للتأكد من تاريخها.
5- الخبير القضائي الرقمي للفيديو / الصوت Digital Video/Audio: وظيفة هذا الفرع هي جمع وتحليل وتقييم تسجيلات الصوت والفيديو، بغرض إثبات صحة ما إذا كان التسجيل أصليًا وما إذا كان قد تم العبث به، سواء بشكل ضار أو عن طريق الخطأ.
6- الخبير القضائي الرقمي للذاكرة Memory forensics: يختص هذا الفرع باستعادة الأدلة من ذاكرة الوصول العشوائي للكمبيوتر قيد التشغيل، وتسمى أيضًا الاكتساب المباشر
7- الخبير القضائي الرقمي للبريد الإلكتروني: استعادة وتحليل رسائل البريد الإلكتروني والمعلومات الأخرى الموجودة في منصات البريد الإلكتروني، مثل الجداول الزمنية وجهات الاتصال.
8- الخبير القضائي الرقمي للبرامج والفيروسات الضارة: فحص وتصفية التعليمات البرمجية لتحديد البرامج والفيروسات الضارة المحتملة وتحليل حمولتها. ويمكن أن تشمل هذه البرامج أحصنة طروادة ، والفدية أو الفيروسات المختلفة.
9- الخبير القضائي الرقمي للمركبات الذكية self-driving cars
الخبرة القضائية الرقمية للمركبات الذكية والسيارات ذاتية القيادة هو مجال حديث نسبياً وغير مدروس، ولكنه مهم في مجال الجرائم التي تقع علي السيارات ذاتية القيادة حيث يمكن أن توفر هذه المركبات ثروة من المعلومات مثل الأماكن التي يتم السفر إليها وزيارتها ، وعنوان المنزل والعمل ، والأرقام التي تم الاتصال بها، والمكالمات الهاتفية المستلمة وما إلى ذلك، والتي يمكن استخدامها عند التحقيق في الجرائم التي تستهدف المركبات الذكية أو ذاتية القيادة مثل القرصنة أو جرائم أخرى حيث يمكن استخدام المعلومات التي تم الحصول عليها من هذه المركبات كدليل على جريمة.
كذلك إذا افترضنا، مثلاً، أن شخصاً استخدم السيارة الآلية ذاتية القيادة وأثناء السير دهست السيارة أحد المارة في الطريق، فمن المسئول عن الحادث، الراكب أم مبرمج السيارة أم مصمم مجمع السيارة أم المالك، في هذه الحالة يظهر دور الخبير القضائي الرقمي، والذي سوف يستخدم خبرته التقنية في تحديد الشخص المسئول جنائياً، وهذه نقطة هامة يجب بحثها جيداً لأن المسئول يجب إن يكون الانسان وليس البرامج التي تعمل على أنظمة الكمبيوتر.
10- الخبير القضائي الرقمي لإنترنت الأشياء Internet of Things
يشير إنترنت الأشياء IoT إلى شبكة مترابطة وقابلة للتشغيل البيني من الأجهزة التي تدعم الإنترنت، على سبيل المثال لا الحصر، الكاميرات وأجهزة التلفزيون والثلاجات والأفران والأضواء وعدادات الطاقة والملابس والألعاب والملحقات، والتي تسهل رصد الأشياء والأشخاص والحيوانات والنباتات، وجمع وتخزين وفحص ونشر البيانات على نطاق واسع لأن إنترنت الأشياء يمكن أن توفر قدرًا كبيرًا من المعلومات حول مستخدمي هذه الأجهزة.
11- الخبير القضائي الرقمي للذكاء الاصطناعي artificial intelligence
تستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي على نحو متزايد في المجتمع بجميع أنواعها ، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم يتواجد في شتي المجالات من رعاية صحية ووسائل الانتقال والتعليم ووسائل التواصل الاجتماعي والزراعة وغيرها من المجالات ، بل أنه اقتحم أغلب جوانب حياتنا سواء كمساعد في الهاتف المحمول Siri ، وروبوتات الدردشة Chat bots ، وكذلك نتائج البحث المخصصة لصفحات الويب وتوصيات التسوق عبر الإنترنت ، وغيرها من خدمات الترجمة والاستثمار والتجارة وغيرهم ، وتسعي جميع القطاعات إلى الحصول علي أقصي استفادة ممكنه من التطور العلمي في أنظمة الذكاء الاصطناعي وجني ثماره. <!--
ولقد أفلتت آلات الذكاء الاصطناعي من حدودها الضيقة وبدأت في إظهار قدرات واسعة في المجالات الصناعية والعسكرية والطبية والعديد من المجالات الأخرى التي كانت تقتصر على البشر، وإذا كان استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في حياتنا له مظاهر إيجابية، إلا أنه من ناحية أخري له بعض الجوانب السلبية، لعل أهمها من الناحية القانونية، عدم وضوح الأطر القانونية المنظمة للمسئولية على الجرائم المرتكبة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
ولذلك فإن الاعتماد التام على أنظمة الذكاء الاصطناعي دون تدخل عنصر بشري يفتح باب الاجتهاد الفقهي أمام قضية هامة وهي المسئولية عن جرائم تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبصفة خاصة، في حالة وجود فراغ تشريعي يحدد الأطر القانونية نحو إسناد المسئولية الجنائية عن الأفعال غير القانونية للذكاء الاصطناعي، ومما لا شك فيه إن الخبير القضائي الرقمي سوف يساعد في تحديد المسئول عن جرائم تقنيات الذكاء الاصطناعي وبالتالي إمكانية إسناد المسئولية الجنائية ومحاكمته جنائياً.
للتواصل مع المؤلف: دكتور خالد ممدوح
البريد الالكتروني: [email protected]
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
<!-- - د. خالد ممدوح إبراهيم، التنظيم القانوني للذكاء الاصطناعي، دار الفكر الجامعي، 2022، ص137.
ساحة النقاش