إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِنْ شُرُور أنفسِنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فقد اعتنى الشرع بالمال كسبًا وإنفاقًا والتزامًا، فالمسلم مُقِرٌّ يوم القيامة عن ماله مِن أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ والمال هو: كلُّ عين مباحة النفع من غير حاجة، فليس المال هو الأوراق النقدية فقط، بل كلُّ ما ينتفع به من الأعيان المباحة، من سائر المآكل والمشارب والمركوبات والملبوسات والعقار، وغيرها، فهي أموال.
وقد عظَّم النبيُّ حرمة المال في مواطنَ كثيرةٍ، وانتهز فرصة اجتماع المسلمين من أماكن شتى - في يوم عرفة في حجة الوداع - فأكد ذلك في خطبته في يوم عرفة، فمما قال في خطبته: ((إن دماءَكُم وأموالَكُم حرامٌ عليكم، كحُرمة يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا))؛ رواه مسلم[1]، وأكد ذلك من الغد يومَ العيد.
فيجب أن يكونَ اكتسابُ المال مباحًا، وذلك بكسبه من طريق لم ينْهَ الشرع عنه، ويحرم أخْذُه من الطرُق المحَرَّمة؛ فعن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا، فإنه يُطَوَّقُه يومَ القيامةِ من سَبع أَرَضِينَ))؛ رواه البخاري، ومسلم[2].
ويشتد الأمر حينما يكون مع ظلم المسلم - بأخذ حقه - عدم تعظيم الخالق والحلف به كاذبًا، فعن أبي أمامة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا، يا رسول الله، قال: ((وإن قضيبًا مِن أراك))؛ رواه مسلم[3].
فلنتب إلى الله جميعًا، ولنتخفَّف من حقوق الخلق في الدنيا، قبل المقاصّة يومَ القيامة.
وفي هذه الخطبة أذكُر ما تمس الحاجة إليه من أحكام التعامُل مع من أموالهم محَرَّمة أو مختلطة، والتخَلُّص منها.
فكل من علِم أن ما بيد غيره محرمٌ، لأنه سرقَهُ، أو غصبه، أو قبضه بعقد محرم، أو أنه ليس له إلا كسب محرَّم؛ كمُوظفٍ يعمل في المعامَلات المحَرَّمة في البنوك الربوية، وليس له مصدرُ رزق آخر، فيحرم التعامل معه به؛ ببيعٍ أو شراء أو قبولِ هديةٍ أو غيرِ ذلك، فما بيدِه من مالٍ محرمٍ ليس مالكًا له شرعًا، ومِنْ شُرُوط صحَّة البيع وسائر عقود المعاوضات والتبَرُّعات أن تكون من مالِك أو مَن يقوم مقامَه؛ فعن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأيْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على القبر يوصي الحافر: ((أَوْسِعْ من قِبَلِ رجليه، أَوْسِعْ من قِبَلِ رأسِه))، فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بالطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوك لقمة في فمه، ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها))، فأرسلت المرأةُ، قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى النقيع[4] يُشترى لي شاةٌ، فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي، قد اشترى شاة، أن أَرسلْ إليَّ بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلتُ إلى امرأته، فأرسلت إليَّ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أطعميه الأسارى))؛ رواه أبو داود[5] بإسناد حسن.
فلمَّا كانت الشاة ملكًا للغير، وأُخِذت بغير إذْن صاحبها، فهي شاة محرمة لحرمة صاحبها، فامتنع النبي من أكلها هو ومن معه، وأمر بإطعامها الأسارى؛ لأنهم كفار، ولو رُميت لفسدت على مَن ذبحتها وعليها ضمانها.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحْسِنُ الكهانةَ، إلاَّ أني خدعتُه، فلقيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كلَّ شيء في بطنه؛ رواه البخاري[6].
أمَّا من كان ماله مختلطًا حلالاً وحرامًا، كمَن يُتاجر بالأشياءِ المباحة والأشياء المحرمةِ، وكمَن يعمل أجيرًا بعمل محرَّم، وله دخلٌ آخرُ حلالٌ، فتجوز معاملتُه بالبيع والشراء، وقبولُ هديَّته، والأكلُ من مطعمه ومشربه، فالأصل حِل المعامَلة.
فما يتمُّ التعاملُ معه به يحتمل أنه من كَسْبه الحلال، ويحتمل أنه من كسبه الحرامِ، ولا يثبُت التحريمُ بمجرَّد الاحتمالِ، فيتمسَّك بالأصل، وهو جواز التعامُلِ معه حتى يتبيَّن خلافه، هذا في باب الحل والحرمة، أمَّا باب الورع فهو باب آخر.
فعن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم –يقول: ((إن الحلالَ بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهاتِ استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حولَ الحِمَى يوشكُ أن يَرتعَ فيه، ألا وإن لكلِّ مَلِكٍ حمًى، ألا وإن حمى اللهِ محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صلُحت صلُح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلبُ))؛ رواه البخاري ومسلم[7]، واللفظ له.
أما معاملة سائر المسلمين، سواءٌ ظهرت لنا عدالتهم، أو كانوا مستورين الحال، لا نعرف لهم عدالةً، فتجوز معاملتُهم بالبيع والشراء، وقبولُ هديَّتهم، وأكلُ طعامهم، فالأصل أن ما بيد المسلم له، فالسؤال عن مصدر ما بأيديهم تنطعٌ في الدين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم على أخيه فأطعمه طعامًا، فليأكلْ منه ولا يسألْه عنه، وإن سقاه شرابًا، فليشربْ منه ولا يسألْه عنه))؛ رواه الحاكم[8]، وقال: حديث صحيح الإسناد، وله شاهد صحيح على شرط مسلم.
لكن إذا كانتْ هناك ريبةٌ في يد هذا المستور، الذي لا نعرفه، كمن يريد أن يبيعَ سلعة، وقد ظهر عليه أثرُ الخوف والعجلة، أو يريد أن يبيعها بسعر زهيد، أو يجهل طريقةَ عملِ هذه السلعةِ ومواصفاتها، ونحو ذلك من الأشياء التي تجعل الشخصَ يرتابُ في أن الشخص سارقٌ وليس مالكًا للسلعة، فهنا يتوقف ولا يُشترى منه، إلا إذا زالت الريبة، فعن الحسن بن علي، قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك))؛ رواه الترمذي[9]، وقال: حديث حسن صحيح.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.
وبعد:
على مَن اكتسب مالاً حرامًا أن يتوب إلى الله، ويُقلعَ عن طرق الكسب المحرمة، أما ما عنده من مال محرم، فإن كان يعرف صاحب المال كمن سرق من شخص يعرفه، فالواجب عليه أن يردَّه إليه، ولا تبرأ ذمتُه إلا بذلك، فإن كان صاحب المال ميتًا وجب ردُّ المال إلى ورثته؛ لأنَّ المال قد آل إليهم، ويَطلبُ العفوَ عمَّا بدر منه، فإن خاف حصولَ مفسدة - كمن سرق من قريبه - ردَّه إليهم، ولن يعدم طريقةً يوصل بها الحقَّ إلى أهله دون علمهم بحقيقة الأمر أو شخصية السارِق.
أما إذا كان لا يعرف صاحب المال، لطول الزمان أو لكثرتهم، كمن يغُشُّ في البيع، ويدلِّس ويحتال على الناس في أخذ أموالهم بغير حق، فيصرفه لفقراء المسلمين، أو في وجوه البر العامَّة أو الخاصَّة، ينوي بذلك أن يكونَ برُّها لأصحابها.
أمَّا إذا كان أخْذ المال برضاءِ صاحبه مقابل عملٍ محرم؛ كرشوة، أو ثمن معازف، أو أشرطة محرمة، أو مسكرات، أو مخدرات، فلا يُعاد المالُ على صاحبه - وإن كان معروفًا - بل يُصرفُ في وجوه البر.
قال ابن القيم في "زاد المعاد"[10]: "إن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمَن عاوض على خمر، أو خنزير، أو على زنا، أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره واستوفى المحرم، فلا يجوز أن يُجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانةً له على الإثمِ والعدوانِ... لكن لا يطيبُ للقابض أكله، بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمامُ التوبة بالصدقة به، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينًا كان أو منفعة"؛ ا هـ.
أمَّا مَن كان مالُه حلالاً، لكن يُخالطُه مال حرام، كصاحب بقالة يبيع الطيباتِ من الرزق، ويبيع معها الدخان المحرمَ، فيبقى ماله حلالاً، ولا يحرم بسبب هذا البيع المحرَّم، لكن يجب عليه إخراجُ مقدار الحرام، ويبقى سائر ماله حلالاً، وإذا كان لا يعلم قدرَ المال المحرم الذي في ذمته - فيما تقدم - فليجتهدْ في التقدير ويتحرَّى إبراء ذمتِه.
إخوتي على مَن تعامَلَ مع غيره مُعاملة محَرَّمة، ودفع مقابل العين المال، وهو جاهل بالحكم، فعليه أن يرد العين، وعلى البائع أن يرد المال؛ فعن أبي سعيد - رضي الله عنه – قال: أُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم – بتمر، فقال: ((ما هذا التمر من تمرنا))، فقال الرجل: يا رسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا الربا، فردُّوه، ثم بيعوا تمرَنا، واشتروا لنا من هذا))؛ رواه مسلم[11]، فلم يعذرهم النبي بجهلهم، وأمر بردِّ التمر؛ لأن هذه المعاملة ليست بيعًا شرعيًّا، فلم ينعقد البيع.
عبادَ الله:
كيف يرجو مَن يأكل الأموال المحرَّمة رحمة الله وعفوه، وهو مُصرٌّ على معصيته؟! كيف يعتني بوقاية بدنه من الأذى في الدنيا ويتناسَى عذاب الآخرة؟! كيف يلحُّ على ربِّه ويطلبه وهو مقيم على معصيته، فجسده ينمو على المكاسب المحرمة.
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس، إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجلَ يطيل السفرَ أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ يا ربِّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وَغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!))؛ رواه مسلم[12].
ساحة النقاش