حينما تفقد وظيفتك.. فلا تعتقد أنها النهاية.. لو فكرت قليلا في قدراتك فقد تكون بداية لعمل جديد تقهر به أزماتك المالية.. فالدنيا بها فرص كثيرة، لكنها تحتاج من يسعى إليها حتى تأتي له.
و"صديق قلينيش -30 عاما- لم ييأس عندما تم تسريحه من شركته مع آخرين أثناء الأزمة الاقتصادية التركية في فبراير 2001، بل إنه قرر أن يستفيد من عمله السابق لمدة ثماني سنوات كمدير للشؤون الفنية والتسويق الداخلي في شركة لصناعة للملابس الجاهزة بإستانبول. وكان دافعه أن لديه زوجة وبنتين ومصروفات منزلية، تتطلب ما يعادل 700-1000 دولار شهريًّا.
كان تحرك "صديق" بعد تركه لعمله هو فتح ورشة صغيرة لتصنيع الملابس.. لكن العقبة الأولى التي واجهته هي رأسمال المشروع.. استطاع تكوينه من التعويض الذي أعطته له شركته عند تسريحه (مرتب شهرين طبقا لقانون العمل التركي) والذي بلغ أربعة آلاف دولار.. ثم باع سيارته الخاصة بـ 10 آلاف دولار وضم قيمتها إلى قيمة التعويض المالي ليكوّن بذلك مبلغا يمكن أن يبدأ به مشروعه.
ذهب بعد ذلك إلى منطقة "زيتين بورنو" الواقعة على ساحل بحر مرمرة بالقطاع الأوروبي من إستانبول التي تعد واحدة من مراكز صناعة وتسويق الملابس والأقمشة في تركيا.
وبمنطق "مصائب قوم عند قوم فوائد" فقد استطاع صديق استئجار مبنى من طابقين في هذه المنطقة، لا سيما أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة أدت إلى إغلاق آلاف من الورش الصغيرة التي أفلست نتيجة لانهيار الليرة التركية.
دفع مبلغا يعادل شهرين من قيمة الإيجار كمقدم، ومبلغ 500 دولار كرهن أو ضمان مالي يسترده عند ترك الورشة أو العين المؤجرة. وتم تخصيص الطابق السفلي من المبنى كورشة للقص والتقطيع، والطابق العلوي خُصص كمكتب ومكان لعرض المنتج ومقابلة الزبائن والتجار وأصحاب المحلات ومراكز بيع الملابس أو الأقمشة.
اشترى صديق عشر ماكينات خياطة بالكومبيوتر بالتقسيط على سنتين، ووظف معه في الورشة مكوجي، ومقصدار، وترزيا لقطع وتشكيل موديلات الملابس، يعاونهم عاملة للفرز وأخرى للتغليف، وثالثة للبوفيه (شاي وطعام)، إضافة إلى سائق للتوزيع وجلب احتياجات الورشة، وكذلك محاسب.
يسدد صديق 4500 دولار شهريا كمرتبات للعاملين بالورشة، يضاف إليها نفقات أخرى كالطعام والشراب للعاملين، ويتكلف حوالي 500 دولار. وبنزين السيارة وإيجار المكان والكهرباء والتليفونات تتكلف 1000 دولار.. ببساطة فإن تكاليف الورشة شهريا بالعاملين فيها تتراوح ما بين 5500-6000 دولار.
لم يواجه صعوبة كبيرة في العثور على العاملين بالورشة، حيث استطاع الاستفادة أيضا من العمال المسرحين من شركته، وكذلك استفاد من إخوته الذين ما زالوا مستمرين في نفس التخصص، لكن مهمة تسويق منتجات الورشة من الملابس ألقاها صديق على عاتقه هو.
متابعة الموديلات
سعى صديق لمعرفة متطلبات السوق الداخلي والخارجي؛ وذلك لتأمين سوق يشتري منتجات ورشته.. واستفاد في هذا الصدد من علاقاته الواسعة من عمله السابق، مع أصحاب المصانع المنتجة للملابس والأقمشة ومستلزمات صناعة الملابس (خيوط، وأزرار وأقمشة الحشو والتبطين… إلخ)، كما أنه يحصل على المطلوب من الموديلات في السوق من تلك الشركات أو من المجلات المتخصصة في الأزياء والملابس التركية أو الأوروبية، ثم يقوم صديق بعد ذلك بتقديم الموديل لأسطى القص والتقطيع بالورشة، حيث يقوم بالتنفيذ على موديل ونموذج قبل الاتفاق النهائي على بدء الإنتاج. ثم يعرض المقترح من الموديل على المحلات التجارية ومراكز التوزيع ليتم الاتفاق على الكميات المطلوبة، ويبدأ بعد ذلك الإنتاج.
من جهة أخرى فإن ورشة صديق لا تقوم بصبغ الأقمشة لأنها تصبح مع الإنتاج الصغير عملية غير اقتصادية، لكن الورشة تشتري الأقمشة المصبوغة والجاهزة للقص والتقطيع، فمثلاً يشتري قماش الكاوبوي، ويسمى في تركيا "كُوت قماشي"، ويتم القص والتقطيع طبقاً للموديل المطلوب.
أما عن منتجات الورشة فهي ملابس الأطفال والملابس الصيفية الخفيفة التي يُطلق عليها في أوروبا "Sportswear" أما في تركيا فيطلقون عليها "Sport Giyimleri"، ومن أبرز المنتجات: ملبس بدون أكمام من قماش القطيفة الناعم والمخلوط بالأقطان ترتديه الفتيات الصغيرات بالمنزل في الطقس الحار أو أثناء النوم، كما يتم إنتاج ملابس البحر من الشورتات والأطقم الخفيفة للأطفال والفتيات صغيرات السن.
رغم أن إمكانات ورشة صديق لا تسمح له بالتصدير، حيث يركز كل منتجاته في السوق المحلي، حيث يسوق منتجاته لمحلات ومراكز بيع في مناطق بايزيد، وآق سراي، والسوق المغطى (سوق المصنوعات والمشغولات المعدنية من الذهب والفضة والمسمى عند الأتراك بـ قبالى شارشيى) -فإن صديق يشير إلى أن جزءا كبيرا من بضاعته تذهب إلى الخارج من خلال تجار الشنطة، من روسيا وآسيا الوسطى ورومانيا، مثلما هو الحال مع الورش والمصانع الصغيرة الأخرى.
ويقوم صديق بنفسه بتسويق منتجات ورشته، وينقلها من خلال سيارة ميكروباص، تجمع بين النقل والاستخدام الخاص. فهو يستخدم هذه السيارة في الذهاب والعودة لمنزله، كما يستخدمها في نقل وتوزيع الملابس المنتجة على السوق الداخلي، ولم يواجه صديق صعوبة كبيرة في التسويق والتوزيع؛ نظراً لسابق خبرته وتعامله مع السوق التركي ومعرفته بالتجار العاملين في مجال تجارة الملابس.
ولم يقتصر صديق على بيع منتجات ورشته، بل إنه استغل مهاراته في التسويق لصالح شركات تبيع الأقمشة للورش الصغيرة مقابل عمولة .
أرباح معقولة
استطاع أن يجني أرباحا معقولة يؤمِّن بها مستقبل أسرته ومستقبله، ورغم الصعوبة التي يواجهها بسبب الركود في السوق التركي فإنه يعوض بأرباح تجارة وبيع الأقمشة، وكذلك تجارة بواقي الملابس المنتجة في الشركات الكبيرة، لكي تساعده في مواجهة أي عجز في بيع الملابس.
ويشير صديق إلى أن السوق الداخلي بدأ يشعر بالانفراج تدريجيًّا، بعد مرور أكثر من سنة على الأزمة الاقتصادية الأخيرة، واقتراب موسم المدارس في سبتمبر 2002 كما أن حركة السياحة وتجارة الشنطة المعتمدة على الملابس بالدرجة الأولى تساهم بنصيب لا يقل عن 10- 15% من منتجات الملابس الجاهزة في تركيا، هذا علاوة على الأعياد الدينية ووجود أربعة مواسم مناخية في تركيا، تدفع الناس لارتداء ملابس متنوعة طوال السنة.
أما عن المستقبل فيرى صديق أنه يرتبط بمزيد من الاستقرار الاقتصادي في تركيا، والتخفيف من حدة الديون الداخلية والخارجية لكي ينفرج السوق وترتفع القوى الشرائية للمواطن.
ويشير إلى أن التطوير في الوقت الحالي لورشته ينصب على أداء العمل، وسرعة الإنتاج بجودة تنافسية، ومتابعة السوق والموديلات والأزياء العصرية. ويقول: إنه يخطط في المستقبل لشراء مكان خاص؛ لكي يكون مصنعاً صغيراً بدلاً من الورشة الإيجارية، والقيام بجولة في العواصم الأوروبية، وخاصة برلين وباريس لكي يحصل على بعض التعاقدات لتصنيع ملابس وتصديرها لمراكز البيع والتسويق في أوروبا.
وبعيدا عن المستقبل فإن أهم النصائح التي يوجهها صديق للشباب عامة وخاصة التركي هي البعد عن قروض البنوك؛ لأن شقيقه الكبير خسر مصنعاً كبيراً؛ نتيجة عجزه عن سداد الفوائد البنكية مع وقوع الأزمة الاقتصادية، وعدم استقرار العملة التركية، ويعتبر أن الاعتماد على مدخرات قليلة في بناء مشروع صغير هو أفضل الأمور من وجهة نظره.
ساحة النقاش