لكي يظلَّ حبْلُ الأخوة موصولاً، وشجرةُ المودة مثمرةً، بين مَنْ يريدون أن تنعقد بينهم أواصرُ الأخوة في الله؛ فإن عليهم أن يتحلَّوا بمجموعة من الصفات التي تحفظ لهم أخوتَهم ومودتهم، وفي مقدمة هذه الصفات: قلةُ اللَّومِ والعتابِ.
إن الإنسان خطَّاء بطبعه، أما الكمال فللَّه وحده، وأما العصمة فلرسل الله وأنبيائه فقط، فمن طلب صديقًا بلا عيب، ظلَّ طول عمره بلا صديق!
ثم إن الإنسان مَلُولٌ قليلُ الصبر، فهو قد يقبل النصيحة مرة أو مرتين أو ثلاثًا؛ لكنه حتمًا لن يظل مستعدًّا لأنْ يقبل النصح باستمرار، والخطورة: أن تأتي مرة يجد فيها الشيطان منفذًا إليه، فيزيِّن له العناد والمكابرة، ويحرِّضه على التعالي ورفض النصيحة، حتى لو كانت حقًّا.
وهذا الخُلُق الرفيع الذي نحن بصدده - قلة اللوم - تفتقر إليه العلاقات الإنسانية باختلاف طبائعها وصورها؛ فيحتاج إليه الإنسان في معاشرته لزوجه، وفي تربيته لولده، وفي سلوكه مع جاره، وفي صحبته لصديقه. فكثرة اللوم تجعل الطرف الآخر غيرَ مكترث بما يُوجَّه إليه من نصح وإرشاد؛ فهو قد (تعوَّد) على سماع النصائح وكثرة الكلام، ومن ثم تذهب المهابة من قلبه تجاه من ينصحه، وتهتز الثقة بينهما. فلا تُعِنْ - أخي الحبيب - الشيطانَ على أخيك، أو زوجك، أو ولدك، ولا تُكْثرْ له اللوم والعتاب؛ فمن اللَّوم ما قَتَلَ المودة والوصال؛ بل كُنْ ذكيًّا فَطِنًا، وَجِّه النقد بأدب ورفقٍ عند المهم من الأمور (فقط)، وتخيَّر الوقت المناسب، والحال المواتية، والساعة الهادئة، ثم استعمل الكناية والتعريض؛ ففيهما غُنْيَةٌ ومندوحة، وكلُّ لبيب بالإشارة يفهم، ولا تكن كمن يصرُّ على أن يقف في مهبِّ الريح، ويواجه الغضب المتصاعد بالنصح المتتابع؛ فإن النصح عندئذٍ لن يزيد الغضب إلا نارًا من الحنق والغيظ.
ضَعْ نصب عينيك حكمة بشار بن برد وهو يرشدنا في أبيات تفيض رقَّةً وحكمةً وأخوةً، فيقول:
فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أَخَاك ********* فَإِنَّهُ مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَارًا عَلَى القَذَى ظَمِئْتَ،******** وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ؟!
وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كلُّهَا؟! ******* كَفَى المَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ!
ولما قيل لخالد بن صفوان: أيُّ إخوانك أحب إليك؟ أجاب هو الآخر مؤكدًا على ما نريد، فقال: الذي يسدُّ خُلَّتي، ويغفرُ زلَّتي، ويُقِيلُ عَثْرتي.
فيا مَنْ تحرص على أُخوتي لك، ومودتي بك، أَقْلِلْ من اللوم، وأعنِّي على نفسي و على الشيطانِ بحسن توجيهك، ورُقِيِّ عبارتك، وهَمْسِ إشارتك؛ فإني إلى الرفقِ أحْوج، وعلى حبِّك أحرص
ساحة النقاش