-فكرة غير محددة
-حركة فكرية أم اجتماعية؟
-هل هدم القرضاوي المعبد فوق رؤوسنا؟

مع بزوغ فجر العصر الحديث في العالم الإسلامي تجاورت النقائض في كثير من جوانب حياته، فتقابل الواقع الحضاري الصعب مع الماضي العريق والسعي إلى الوحدة مع طغيان الحس القومي التفتيتي، وتقابلت عوامل الإعاقة الكبيرة مع آمال النهوض العريضة، وتجاور فعل الماضي مع فعل الواقع، وفعل النفس مع الانفعال بالغير.

وقد حاول كثير من المفكرين والسياسيين والاجتماعيين المسلمين المحْدَثين والمعاصرين تقديم حلول تتجاوز الأزمة الخطيرة، وبرزت في هذا الجانب عشرات الأسماء الكبيرة وعشرات الحركات التصحيحية أو الاستئنافية، إلا أن أكثر ما أضر المشروعات المطروحة في هذا الصدد هو أن مستوى الفعل العملي الذي قدمته كان في الغالب أضعف من مستوى الانفعال، أعني أن حركة الواقع والتاريخ كانت أقوى من مستوى الطرح العملي الذي قُدِّم في هذه المشروعات.

وإذا كان هذا الكلام مجملا، وقد يبدو ظالما في أعين بعض القراء، فلنتحاكم إلى الواقع والأمثلة. فأما الواقع فيشهد أننا ما زلنا نعالج مشكلات أولية طرحها الرواد الأوائل للإصلاح الإسلامي، أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مثل: مشكلات التعليم والمرأة وصورة الدولة الإسلامية الحديثة وعلاقتنا بالحداثة الغربية.. إلخ.

وأما الأمثلة، فأختار منها هنا فكرة التقريب المعاصرة بين المذاهب الإسلامية، والتي نشأت منذ حوالي سبعين سنة، لكنها ما زالت منذ ذلك الحين تراوح مكانها، ولا تتقدم خطوة إلا أصابتها انتكاسة أخرتها مائة خطوة، وذلك –في رأيي- بسبب الأساس والهيكلة غير الصحيح للفكرة.

فكرة غير محددة
تركزت حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية على عقد مصالحة بين السنة والشيعة الاثناعشرية خاصة، ولم تتجاوز هذين الطرفين تجاوزا يستحق الذكر، وكان الأجدر بها أن تُسمَّى حركة التقريب بين الشيعة الاثناعشرية والسنة الأشعرية، لأنها لم تشمل لا كل الشيعة ولا كل السنة، إذ إن التيار الزيدي لم يحتج إلى مثل هذا التقريب لأنه لا يعتقد سب الصحابة مذهبا، وإن خالف أهل السنة في المفاضلة بينهم ضمن مسألة تاريخية نظرية لا تقدم كثيرا ولا تؤخر.

كذلك ليست هناك مشاركة سنية سلفية يعتد بها في حركة التقريب، إذ الغالب على التيار السلفي هو الشك في جدوى هذه الفكرة أصلا في تنافر معروف بين الطرفين (يراجع كلام محب الدين الخطيب حول مؤتمر النجف).

بل إن سنة شبه القارة الهندوباكستانية –الذين يشكلون أكبر كتلة سكانية إسلامية في العالم- بعيدون كل البعد عن فكرة التقارب مع التيار الشيعي بكل أطيافه ضمن حالة تاريخية أخرى من التنافر بين الاتجاهات الإسلامية.

من حق أي ناقد لفكرة التقريب بين المذاهب إذن أن يتهمها بأنها تلبس لباسا فضفاضا أكبر من حجمها الحقيقي، ومن حقه كذلك أن ينتقد الحركة –إن استمسكت بعنوانها العريض- إهمالها ألوانا أخرى من التقريب البيني الإسلامي، فهناك إباضية وصوفية وحداثيون يحتاجون إلى هذا التقارب معهم ضمن حوار علمي حقيقي.

كذلك من حق أي ناظر في فكرة التقريب القائمة أن يتهمها بعدم الوضوح الاصطلاحي؛ إذ إن لفظ "التقريب" يحمل معنى هلاميا ليس من اليسير ضبطه، ونستطيع أن نفهم منه أحد معنيين، إما أن يغض كل فريق الطرف عن عيوب الآخر ويقبله كما هو لأجل الاقتراب منه، وإما أن يتنازل كلاهما لصاحبه عن بعض مستمسكاته القديمة لصالح التقارب يينهما. أما المعنى الأول فلا يتجاوز الحلف السياسي الذي يقع حتى مع غير المسلمين، وأما المعنى الثاني فلا نرى له واقعا يصدقه.

حركة فكرية أم اجتماعية؟
ركز النقد السابق على الفروع التي اتصلت بفكرة التقريب، إلا أن هناك إشكالية بنائية في هيكل الفكرة أضرتها كثيرا، وذلك أننا اعتبرناها فعلا اجتماعيا أو سياسيا، في حين أنها في الأصل فعل فكري، فالاختلاف القائم بين طرفي التقريب ليس اختلافا عائليا ولا حول ملكية هذه الأرض أو تلك، وإنما هو اختلاف فكري يتجه فيه كل طرف في فهم بعض المسائل اتجاها غير الآخر، وهذا يدخل ضمن القضايا الفكرية وليس الاجتماعية أو السياسية.

لكن ما الضرر الذي نتج عن تغليب الصبغة الاجتماعية في حركة التقريب على الصبغة الفكرية؟ أخطر النتائج هي عدم استقرار الحركة، وصعودها وهبوطها وفقا لما يحيط بها، وليس وفقا لعوامل ذاتية فيها، كأن يكون التقريب نفسه مستحيلا أو ممكنا بوسائل أخرى.

ومن هنا أثرت عوامل سياسية وشخصية في مسار عملية التقريب، حتى ضاعت الحقائق وسط المجاملات والتقديرات الشخصية في حال الرضى، وضاع كل شيء في حال الغضب!!

مهما يكن، فإننا إن اتفقنا على أن حركة التقريب بين المذاهب أو الفرق الإسلامية هي حركة فكرية قبل أن تكون أي شيء آخر، فلا بد أن نرتب على ذلك نتائجه:

أولها: أن الفكر يستلزم الحرية التامة في تناول القضايا والمسائل المتنازع عليها والمتفق عليها على السواء، بحيث لا تكون هناك محظورات بحثية.

ثانيا: الموضوعية والعلمية الدقيقة التي لا بد منها في كل فكر جدير بالبقاء والتأثير الإيجابي.

ثالثا: لأجل مصلحة التقريب الحقيقي لا بد من انفصال الفعل الفكري عن سلطة صاحب القرار في كلا الجانبين، وكذلك لا بد من الفصل –ولو مؤقتا– بين التناولات الفكرية وبين نتائجها الواقعية، ليس لأننا نريد حوارا فكريا مجردا، ولكن رغبة في الوصول إلى نتائج علمية دقيقة تؤسس للتعاون الحقيقي بين أكبر الكتل التي يحويها الجسد الإسلامي.

ومن هنا أقول: مخطئ في مذهبي من يقول إننا لا نريد حوارا ولا تقريبا بين مكونات الأمة الإسلامية، ومخطئ مثله من يريد أن يقيم الحوار على أسس هشة تتلاعب بها رياح الأحداث من وقت إلى آخر، كالتي نراها الآن.

هل هدم القرضاوي المعبد فوق رؤوسنا؟
جاءت كلمات الدكتور يوسف القرضاوي لإحدى الصحف المصرية منذ عدة أسابيع وكأنها اختبار لفكرة التقريب ومدى صلابتها، وتركزت مؤاخذاته للاتجاه الشيعي في تعرضهم للصحابة بالسب واختراقهم المذهبي للمجتمعات السُّنية.

وكانت الردود على الحوار الصحفي عاصفة، حتى من أناس لهم تقدير كبير في العالم الإسلامي عموما، مثل العلامة محمد حسين فضل الله، مما يكشف عن التلفيق الذي أسِّست عليه فكرة التقريب، وأن النقد لا مكان له في إطار هذه الفكرة، وفكرة لا مكان فيها للنقد لا يُرجى منها أن تتقدم، ولا ينتظَر منها أن تثمر ثمرة نافعة.

ودخلت كثير من الأقلام السنية على خط "المواجهة" مؤيدة لموقف الشيخ القرضاوي أو معارضة له، وبرز في هذا مقال الأستاذ فهمي هويدي "أخطأت يا مولانا"، وأشار فيه إلى أن فقه الأولويات "الذي تعلمناه من القرضاوي "يلزمنا أن نتجنب إشعال المعارك الجانبية التي تشتت الأمة لحساب خصومها التاريخيين والعقائديين".

ولعل الاتفاق مع الأستاذ فهمي على هذا موضع نظر، لأن مواجهة الخصم الأصيل لا تفلح بجبهة ملفقة بين أطرافها هذه الحساسية المفرطة، وتغض الطرف عن الأسباب التي تحول دون الانسجام بين جنودها وكتائبها التي تتولى المواجهة في هذا الميدان أو ذاك.

إن استعانتك اليوم بمن يخالفك في بعض الأصول بدون تفاهم حقيقي، وترك المصارحة معه حول تصرفات خطيرة تريبك منه، ستطرح عليك في المستقبل عبئا قد لا تتحمله، فقبولك له بخطئه وصوابه يجعلنا نتعامل مع الواقع بمنطق: حُلَّ أزمة اليوم الأولى، وأجِّل غيرها إلى الغد، وهذا يُراكم علينا أزمات اليوم والأمس في المستقبل كما هو الحال الآن.

إن الحوار بين جناحي العالم الإسلامي مسألة لا يمكن أن تكون تحالفا آنيا يترك في العلاقة بين الطرفين ندوبا يؤجَّل علاجها إلى مرحلة أخرى، ولهذا من حق كل طرف –إضافة إلى ما سبق من ممارسة الحوار العلمي الحقيقي- أن يسأل الآخر عن شكوك تحوم حول بعض تصرفاته، إذ ما معنى أن تُقام أكبر جامعة شيعية في العالم في كابل إحدى العواصم السنية العتيقة، في وقت تقع فيه أفغانستان تحت الاحتلال الغربي؟ وما معنى أن تُمارس الدعوة إلى التشيع في الأوساط السنية في الغرب والساحة واسعة لدعوة غير المسلمين؟ وما المقصود بالجهود الشيعية المذهبية والمنظمة في دول سنية عتيقة مثل باكستان وبنغلاديش وغيرهما؟

وهذا كله لا لهدم مساعي التقريب ولكن لإنقاذها وتصحيح مسارها، واعتبارها مقدمة يعبر بها المسلمون جميعا إلى مستقبل أقوى.

 

المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 95/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
31 تصويتات / 381 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,748