العناق النفسي والعقلي بين المبدأ والذات المؤمنة به يفتح صفحات الواقع أمام الأفكار والمبادئ لتتجاوز رؤوس أصحابها إلى التطبيق في مجالات الحياة المختلفة، فتشارك في صناعة الواقع والتحرك به إلى نقطة أخرى بتغيير شيء من معالمه، أو رسم قسمات جديدة على وجهه.
وأحسب أن المفكرين والعلماء المتحدثين باسم الشريعة الإسلامية أو "الموقِّعين عن رب العالمين" -كما يصف ابن القيم المفتين- في حاجة لكي يتحقق لهم هذا العناق، إلى أن يتصفوا بصفات الشريعة نفسها.
فإذا كانت ربانية المصدر كان الفقيه أو المفكر المتحدث باسمها رباني المقصد، وإذا كانت شريعةَ تيسيرٍ كان عالما ميسِّرا على العباد رحيما بهم، وإذا كانت شُجاعة فيما تُقدِّم كان هذا من صفاته كذلك...
وقد يُستغرَب أن توصف منظومة فكرية أو ديانة بأنها شجاعة، إلا أننا نجد مصداق ذلك بالنسبة للإسلام فيما يُقدم لدنيا البشر من أحكام، فهو يتحدى الأعراف الفاسدة، ويقر سلطان الله المطلق في كونه، ويقدم نفسه للبشرية بشموخ على أنه خالد المصادر ولا يفقد صلاحه، ويعطي الحقوق لأصحابها دون خوف من استغلال غير سويّ لهذه الحقوق.
وكمثال على الأمر الأخير، فقد أعطت الشريعة الإسلامية المرأة حقوقها في اختيار الزوج وفي التملك والهبة والميراث والخروج من دارها -بضوابط معروفة ومطلوب من الرجال نصيبهم من هذه الضوابط أيضا– دون أن تخشى الشريعة أن تستغل النساء هذه الحقوق في مجاوزة الحد.
وقد جاء العصر الحديث والمرأة المسلمة تخضع لتقاليد اجتماعية موروثة ومخالفة للعقل والنقل، سلبتها أكثر حقوقها الإنسانية، فلا حق لها في التعلم ولا الميراث ولا الملكية المستقلة ولا إجراء العقود، فضلا عن المشاركة بقسط في الحياة العامة، كما هو شأن الكثير من نساء الأجيال الأولى من المسلمين.
ولم تكن "الشجاعة" حاضرة حينئذٍ بدرجة كافية لدى العلماء والفقهاء لانتشال المرأة من هذا الواقع، بل تركوها تئن وتتألم على مقربة منهم تحت نير أَسر ظالم، مع أن الإسلام بادر إلى قضايا الظلم الاجتماعي التي كانت متأصلة في الجاهلية، وأصر بتشريعاته على تعديل الممارسات الإنسانية في هذه الناحية وبلا تدرج.
وقد يقال اعتراضا على هذا الانتقاد لصمت العلماء على وضع المرأة المزري: إن واقع الأمة الحديث كله كان في حاجة إلى الانتشال من حالة الوهن والأسر المذلّ، وليس واقع المرأة وحدها.
فأبادر بالقول: إن واقع الأمة العام أضعفته عوامل معقدة بعضها داخلي وبعضها خارجي والكثير منها ركام تاريخي صنعته أجيال عدة، وأما واقع المرأة خاصة فهو من صناعة المجتمع الإسلامي المتراجع نفسه.
نعم قد يكون صعبا أن نَفصل بين الأمرين، باعتبار أن الواقع النسائي جزء من الواقع الاجتماعي العام، لكن من المؤكد أن المبادرة إلى إلغاء الممارسات الظالمة في الداخل، كان من شأنه أن يدعم قوَى الأمة المقاوِمة للضعف، ويوجه طاقاتها المهدورة نحو البناء.
على أية حال كان هذا هو الواقع الذي عاشته المرأة المسلمة والعلماء المسلمون حديثا -مع استثناءات قليلة في الحالين- حتى التخوم الزمنية المشتركة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد علّمتنا السنن الاجتماعية أن الأزمات إن لم تجد من يحلها حلا معتدلا، فيوما ما ستجد من يقدم لها حلولا جانحة إلى أحد الطرفين.
وهذا ما حدث بالفعل في قضية المرأة المسلمة، حيث غاب موقف علماء الشريعة، فظهر الحل المستورد على يد قاسم أمين وغيره، وكان الحل المطروح من قاسم مغريا حقا لأنه -في ظاهره على الأقل- دعوة "نبيلة" إلى رفع الظلم عن النساء بـ"تحرير المرأة" وتجديدها، لولا ما أصاب المشروع من آفة الافتتان بالغرب الصاعد، إذ كانت المرأة الغربية والمبادئ الخاصة بها حاضرة بقوة، مما جرح مشروع قاسم برمته.
وقد ساعدت على نجاح المشروع الأخير في مصر أولا عوامل أخرى خارج حيثياته نفسها، لعل من أهمها: وجود الاحتلال، وتصاعد تأثير التيار الليبرالي في الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، فكانت رائدات العمل النسائي عاملات في الحياة السياسية ضمن هذا التيار، كما كان قاسم أمين صديقا حميما لسعد زغلول زعيم الوفد الشهير.
وللأسف ما زال الحس المتدين العامي ونصف المثقف عندنا يرى أن بقاء المرأة المسلمة رهينة محبِسها ومضطهَدها القديم خير لها ولمجتمعها من أن تتأثر بموجة المد الغربي المتصاعد.
وهذا -في الحقيقة- ليس مجرد خطأ في الرأي، بل خطيئة في الرؤية، ووضع منكس للعلاقة بالقدر، حيث يتصور بعض الناس أننا أسرى لأحد النقيضين ولابد، أما أن يبادر الإنسان الأقدار برؤية ثالثة لا تنزع إلى أي من التطرفين فهذا موقف غائب عن الاعتبار.
لقد تعقدت مشكلة المرأة في العالم الإسلامي بعد أن فرض الحل المستورد نفسه على الساحة، فأصبح لزاما على عالم الشريعة أن يواجه تطرفين، تطرف التقاليد وتطرف الحلول الوافدة، وهو أمر كلفنا جهودا كبيرة جدا على مدى عقود وإلى الآن.
ولكن لعل التطرف الوافد هو الذي قوّى التوجه إلى الوسط الشرعي فيما بعد، حيث لم يكن ممكنا أن تُوَاجَه عاصفة الأفكار القادمة من الغرب حول المرأة -ولها شيء من الوجاهة ومنطق يمكن أن يقنع بعض العقول- بفكر متخلف يلغي آدمية مخلوق أبدع الله وجوده.
يمثل ما عُرف بـ"الحقوق السياسية للمرأة" مستوى لعله الأخص بين مجموعة الحقوق التي يُطالَب بها للمرأة، بل قد يعد البعض أي صلة للمرأة بالسياسة لونا من الترف الزائد.
وقد شابه موقف العقل المسلم الحديث من الحقوق السياسية للمرأة موقفه السابق من قضية التحرير عموما، حيث غاب العقل الفقهي والفكري المبادر، وحضر العقل المدافع والرافض بلا تمحيص كافٍ.
وتقصد الأدبيات الدولية بالحقوق السياسية للمرأة حقها في التصويت في جميع الانتخابات، والترشح لها، وتقلد المناصب والوظائف العامة، مع مساواتها بالرجل في كل ذلك، وفقا لما جاء في "اتفاقية الحقوق السياسية للمرأة" في الأمم المتحدة سنة 1954.
ونحن بداية لا نستطيع أن نأخذ كل ما يقرِّر الغرب أنه حقوق -ولو من خلال المنظمات الدولية- ونعطيه الوصف نفسه، وإنما تدرس المسألة دراسة شرعية وفكرية قائمة على المفاهيم الإسلامية والقواعد الفقهية والأصولية في عصر مختلف في وسائله وصورةِ الحياة التي يقدمها عن عصر نزول الوحي.
وقد مثل ما سمي بـ"الحقوق السياسية للمرأة" مشكلة عند طرحه أمام العقل الفقهي والحركي الإسلامي منذ أكثر من نصف قرن، فحين شاركت المرأة المصرية قبل ذلك بعقود في ثورة 1919 وقبل أن تحسر الحجاب عن وجهها، لم تلق – فيما أعلم- معارضة من العلماء على هذا؛ لأن الأمة المقاومة حينئذٍ كانت في حاجة إلى كل قواها الدافعة، كما أن مجموع الشعب كان منشغلا بالثورة على الاحتلال، وعلى رأسهم علماء الأزهر أنفسهم، الذين سجلوا في هذه الثورة صفحة من صفحات مجدهم.
وقد كانت الحياة الحزبية المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين حياة ثرية جدا من الناحية السياسية، على الرغم مما شابها من قصور، وضياع الغاية في الكثير من مراحلها، وفي الوقت نفسه كانت موجة تحرير المرأة تزداد تصاعدا، وللأسف جنوحا نحو التطرف.
وكان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن تُطرَح قضية الحقوق السياسية للمرأة ومشاركتها في هذا المعترك الساخن –حتى قبل إقرارها في الأمم المتحدة– ولكن لم يستجب العقل الفقهي والفكري الإسلامي لهذه المسألة بالقدر الكافي على الأقل حينئذٍ، ففرضت القضية نفسها على الجميع من خلال "بنت النيل"، المرأة والصحيفة والحزب.
وبنت النيل هي الدكتورة درية شفيق إحدى أهم الناشطات في مجال العمل النسائي العربي في القرن العشرين، ولدت في العام الذي مات فيه قاسم أمين 1908، وتعلمت منذ البداية تعليما فرنسيا خالصا حتى التحقت بالسوربون (درس قاسم أيضا القانون في جامعة مونبلييه الفرنسية)، وحصلت درية شفيق على الدكتوراه في الفلسفة على أبواب الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أنها كانت تطمح إلى أن تكون طه حسين السربوني كذلك للعمل النسائي فتميزت طروحاتها بالجراءة والمفاجأة، فطالبت في عام 1948 بإعطاء المرأة حق الانتخاب، واقتحمت البرلمان المصري بمئات النساء عام 1951 في تظاهرة انطلقت من إحدى قاعات الجامعة الأميركية بالقاهرة تطالب بمساواة المرأة بالرجل.
وأصدرت صحيفتها النسائية "بنت النيل" كما أسست حزبا نسائيا بالاسم نفسه وقد انتهت حياة درية شفيق منتحرة بعد ذلك بأكثر من عقدين سنة 1975، وسجل مصطفى أمين هذا في كتابه "شخصيات لا تنسى".
لقد بدأت الحركة النسائية العربية في هذه الأثناء تضغط في الاتجاه السياسي باحثة للمرأة عن دور في هذا المعترك الصعب، وكانت هذه مفاجأة غير متوقعة للعقل الفقهي والحركي الإسلامي الذي كان يمتلك في عهود ازدهاره قوة كاشفة للحراك الاجتماعي من حوله.
وقد زاد من حدة المواجهة بين الجانبين تلك الصبغة الغربية الصريحة التي ميزت شخصية درية شفيق وأفكارها دون أن تلاحظ حساسية القضية التي تتعرض لها، فقام في وجهها "الاتحاد العام للجمعيات الإسلامية" الذي ضم أكثر التشكيلات الحركية الإسلامية في مصر حينئذ تدعمه لجنة الفتوى بالأزهر ومفتي الديار المصرية وجبهة العلماء.
وهذا شيء صحي في أصله، أقصد أن تكون القضايا والآراء المطروحة محل جدل وتمحيص بحثا عن جودتها وصلاحياتها للتطبيق أو عدم ذلك، لكن الإدراك الجيد من الطرفين لقضية الحقوق السياسية النسائية، كان يمكن أن يختصر الكثير من الأخذ والرد الذي ما زال يشغل الساحة الإسلامية بأطيافها إلى الآن حول هذا الموضوع.
ومما يدلك على غياب هذا الإدراك ما قاله أمين "الاتحاد العام للجمعيات الإسلامية" في مؤتمر عُقد في شهر رمضان سنة 1371هـ يونيو/حزيران 1952م لمواجهة ضغوط درية شفيق واتحادها النسائي على الدولة المصرية لإقرار الحقوق السياسية للمرأة وإصدار قوانين وتشريعات للتسوية التامة بينها وبين الرجل، إذ قال: "إن الذي يفهمه الاتحاد من هذه الحركة أن النساء يردن الوصول إلى البرلمان ليتمكنّ بتأثيرهن وفتنتهن من سن قانون يلغي القرآن بتقييد الطلاق وتحريم القعود".
وتكرر هذا بشكل ما في المشهد الإسلامي في الكويت خلال فترة الجدل البرلماني حول "الحقوق السياسية للمرأة الكويتية" أخيرا (1999 – 2005).
إننا نتخذ من الحقيقة أحيانا موقفا سلبيا لأسباب خارجة عن الحقيقة نفسها، فالمرأة لن تصل في يوم من الأيام لتمثل أغلبية برلمانية في أي دولة من دول العالم حتى ولو كان الناخبون كلهم من النساء.
ومعروف أيضا أن أغلبية النساء في العالم الإسلامي يمثلن رصيدا متميزا للحركة الإسلامية، خاصة في البلاد التي تنشط فيها الكوادر النسائية للحركة، فلماذا نتأخر عن علاج قضايانا من منظورنا الأصيل، ونترك بعض قوانا معطلة انتظارا لمن يأتي فيعكر برأيه البحيرة كلها؟!
ساحة النقاش