<!--


سادسًا: الحركة الصوفية في الدولة العثمانية (923-1212هـ/ 1517-1798م ):

ساد الاعتقاد أن الحكم العثماني قد أدَّى إلى ركود الحياة في شتى نواحيها في مصر والوطن العربي، بعد أن كانت الفترة السابقة لهذا الحكم – العصر المملوكي – فترة ازدهار وتقدم وابتكار، ولكن مثل هذا القول فيه الكثير من المغالاة، وإذا أخذنا الحركة الصوفية – بجانبيها العملي والنظري – كمثال؛ فقد بدأت لاسيما في أواخر العصر المملوكي تميل إلى الركود والخمول التدريجيين، كما انعدمت روح الإبداع والتجديد، واتجه الفكر نحو التقليد.

فالحالة في العصر العثماني كانت امتدادًا طبيعيًّا للحالة قُبيله، وأن الخلاف بينها كان فيما شمل التيارات من قوة وضعف، لا نقول إن الحكم العثماني قد ساء، ولكنا نقول إنه ازداد سوءًا فترتب على ازدياد السوء فيه نتائج، كان أكبرها خطرًا ما اتصل بالتصوف، وموقف الناس إزاءه(<!--) .

وعليه فقد انساق التصوف كجزء مهم في هذه الحياة تحت تأثير الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى التدهور والاضمحلال، ودخله العوام، واعتنقه الوصوليون والأدعياء، وظهر في كبار رجاله الجهلة الأميون، حتى تتلمذ الشعراني – وهو عملاق عصره – على سبعين شيخًا لا يعرف أحدهم علم النحو .. بل كان بعضهم أميين لا يقرأون ولا يكتبون ! وهم لم يستهينوا بدراسة العلوم الشائعة في عصرهم وحدها، بل أهمل بعضهم التمسك بأعظم مظاهر التصوف خطرًا وهو الزهد(<!--) .

الجانب العملي للتصوف في مصر العثمانية :

من أظهر مميزات التصوف في العصر العثماني تحوله من ظاهرة وجدانية فردية إلى ظاهرة اجتماعية تتمثل في حياة أتباعه تحت إرشاد شيوخهم ممن مكنتهم شخصيتهم من اجتذاب المريدين، ويسرت لهم ثقة المحسنين من الأمراء وغيرهم.

ومن أبرز مظاهر الجانب العملي للتصوف في هذا العصر الطرق الصوفية، التي انتشرت انتشارًا واسعًا، بلغ بالفرقة الواحدة أن يتفرع منها طرق وفرق عديدة وجديدة؛ لكل فرقة شيخها وشعارها وطريقتها الخاصة بها في الذكر والعبادة، ولقد هدت المصادفة أحد الباحثين – كما يذكر – على العثور على أسماء طرق كادت تبلغ الثمانين عدًّا، لا يتميز بعضها عن بعض إلا فيما يختص بالزى، وطريقة الذكر والعبادة فقط(<!--) .

ومن ثمَّ فقد حفلت مصر بفرق المتصوفة، وطوائف الفقراء، واكتظت الشوارع بمواكبهم، والبيوت بولائمهم، والمساجد والزوايا باجتماعاتهم، وانتشر الشيوخ والأتباع في الريف والحضر، وتغلغل نفوذهم في كل مكان وشاع في الأقاليم والقرى والمدن، وامتد سلطانهم إلى مختلف طبقات الشعب كما أسلفنا ذكره.

ولعل الموالد خير شاهد على ذلك، فقد شبهها زكي مبارك (ت1371هـ/1952م) بالضرائب السنوية؛ لأن المشايخ كانوا ينتظرون الأطعمة والذبائح والهدايا، وكانوا يغضبون كثيرًا لانقطاعها أو لتأخيرها، بل لقد كان جمع التبرعات والأموال لإقامة هذه الموالد هو الأساس للتفاضل بين مشايخ الطرق ومدى نجاحهم (<!--) .

وتتركز شرور الموالد كما يذكر أستاذنا الدكتور عبد اللطيف العبد فيما يحدث فيها من اختلاط الرجال بالنساء، واستعمال المعازف والغناء، وشرب المحرمات، والغلو في مدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، هذا مع تخلف كثير ممن يحضر هذه المناسبات عن صلاة الجماعة، بل بلغ الجهل ببعضهم أنه يعتقد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحضر مثل هذه الاحتفالات (<!--) .

الجانب النظري للتصوف في مصر العثمانية :

تكاد تتفق الآراء على أن العصر العثماني كان عصر الشروح والحواشي، وأن العلماء كانوا يتناولون المتن الذي وُضع من قبل، فيضعون له الشروح والتعليقات ثم يأتي بعدهم من يتولى شروحهم بالشرح والتعليق، فبدا ركود في الحركة الفكرية، وقلة في المؤلفات، مع كثرة الحواشي والشروح، وكان من النادر أن نجد تأليفًا مبتكرًا(<!--).

ورغم مؤلفات الإمام عبد الوهاب الشعراني (ت973هـ/1565م)، والتي بلغت السبعين مؤلفا – مزجت بين الأذواق الروحية والأنظار العقلية والأساطير الخيالية – فإن أكثرها ليس إلا ملخصات لبعض مؤلفات ابن عربي (ت638هـ / 1240م) أو تعقيبات على مذهبه فيها، ومن هذا القبيل؛ كتاب " الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر " في جزأين، فهو تلخيص لكتاب "الفتوحات المكية "، وكتابه " اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر " في جزأين فهو إما تلخيص لبعض المذاهب الصوفية السابقة، ولمذهب ابن عربي بنوع خاص، وإما عرض لها وتعقيب عليها (<!--) .

وقد اتجهت حركة التأليف في التصوف في مصر في أواخر العصر العثماني إلى عدة اتجاهات، وانصبت في عدد من الموضوعات، أهمها:

- شرح مؤلفات ابن عطاء الله السكندري، وخاصة " الحكم العطائية "، وكذلك شرح "إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي.

- شرح آداب الطرق الصوفية المختلفة.

- مهاجمة المبتدعة من الصوفية، وفضح أحوالهم الشيطانية.

وقد بلغ عدد المؤلفات في علم التصوف آنذاك حوالي (192) كتابًا موزعة كالآتي :

(90) كتابًا عبارة عن شروح وحواشي، (75) كتابًا تأليفًا خالصًا، (14) كتابًا عبارة عن أوراد وأحزاب وصلوات، (13) منظومة(<!--) .

غير أن المطَّلع على هذه الكتب الدينية التي كتبها أهل هذا العصر، يعرف كم هم تقيدوا باللفظ، لدرجة أن مؤرخي الآداب المصرية يسمون هذا العصر كما سبق أن ذكرنا، عصر الحواشي والشروح، والكتب التي وضعت فيه تبرر هذه التسمية، وقد كانت الحواشي على المتون قائمة على أمرين؛ هما: التقييد بظاهرة الكلام، واللف والدوران حول الألفاظ.

وجملة القول في هذا المدخل أنه يمكن إجمال حال التصوف في مصر في عصوره المختلفة في عدة نقاط :

- اتخذ التصوف في مصر منذ ظهوره وحتى الآن اتجاهًا سنيًا معتدلاً.

- تجاوبت مصر مع النزعة الغزالية بانعطاف المدارس الصوفية نحوها، وسيطرة الاتجاه السني على التصوف سيطرة كاملة.

- شهدت مصر انحدار الاتجاه الفلسفي في التصوف، بل وأسهمت فيه من خلال مواقف متصوفيها، ورفضهم لنظريات ابن عربي (ت638هـ / 1240م )، وابن سبعين (ت669هـ/1270م) ومن تبعهما.

- بموت ابن الفارض المصري (ت632هـ/1234م) دخل التصوف دور الترديد والتقليد، ولم يشهد بعده قيام مذاهب جديدة مميزة.

- انصراف أغلب أهل الطرق الصوفية إلى الشكليات والرسوم، كما ابتعدوا عن جوهر التصوف الحقيقي، وبالغوا في التحدث عن الكرامات، ومناقب شيوخهم، مع عدم وجود مصنفات مبتكرة لهم في علم التصوف الإسلامي.

- مال طابع التأليف في التصوف في عصوره الأخيرة إلى الشرح والبسط والاختصار للمذاهب السابقة؛ سنية كانت أو فلسفية، وهو ما حدث بالنسبة لمؤلفات ابن عطاء الله السكندري(ت709هـ/1309م)، والشروح العديدة لحكمه، وعلى نحو ما فُعل بكتب الغزالي (ت505هـ/1111م) وبخاصة الإحياء، وكما حدث لمؤلفات ابن عربي (ت638هـ / 1240م)، ثم أخيرًا تراث ابن الفارض (ت632هـ/1234م)، وبخاصة ديوانه الشهير .

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

(1)  د/ توفيق الطويل: التصوف في مصر إبان العصر العثماني، ص 158، و طه عبد الباقي سرور: التصوف الإسلامي والإمام الشعراني، ص 138-139، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، د/ عبد الله الغرباوي: الفكر المصري في القرن الثامن عشر بين الجمود والتجديد، ص 184-185، ط1، 1428هـ/2007م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

(2)  د/ توفيق الطويل: التصوف في مصر إبان العصر العثماني، ص 48-49، 150- 151، عزت إبراهيم دسوقي: الحياة الدينية الإسلامية في مصر في العصر العثماني، ص 96-105، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، إشراف د/عبدالرحمن سالم، 1427هـ/2006م.

(3)  د/ توفيق الطويل: التصوف في مصر إبان العصر العثماني، ص 75-77، 79-87.

(4)  د/ زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، 1: 389-390.

(5) د/ عبد اللطيف العبد: التصوف في الإسلام ، ص 120.

(6)  د/ محمد مصطفي حلمي: الحياة الروحية في الإسلام، ص 156 وما بعدها، د/ توفيق الطويل: التصوف في مصر إبان العصر العثماني، ص 164، 175، د/ أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص 299، د/ عبد الله الغرباوي: الفكر المصري في القرن الثامن عشر، ص 181 وما بعدها. 

(7)  د/ محمد مصطفي حلمي: الحياة الروحية في الإسلام، ص 157.

(8) د/ عبد الله الغرباوي: الفكر المصري في القرن الثامن عشر بين الجمود والتجديد، ص 49. 

 

المصدر: مصطفى فهمي:رسالة دكتوراه-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 67/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
22 تصويتات / 825 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

501,971