2012

لذّة مشاهدة العالم يفنى أمام عينيك!

يوخنا دانيال


منذ أشهر عديدة ينتظر عشّاق السينما هذا الفلم المثير. مئات الملايين من البشر شاهدوا مقاطع أولية من الفلم على الانترنيت، يظهر فيها تمثال المسيح الشهير في البرازيل وهو يتهاوى من عليائه، الكنيسة السيستينية في الفاتيكان تتصدّع قبّتها المزيّنة برسوم مايكل أنجلو ... لتنهار الكنيسة لاحقا بأكملها على آلاف المصلّين في ساحة القديس بطرس. الكعبة، يحيط بها مئات الألوف من الساجدين وهم يدعون الله أن يجنّب العالم الكارثة... والتاريخ المشؤوم لنهاية العالم هو 21 ديسمبر 2012، حسب تقويم حضارة المايا في أمريكا الوسطى.... المهم ان الكارثة حلّت، أقصد ان الفلم ظهر!

 

الفلم يؤسس "علميا" للكارثة، بوقوع مجموعة كواكب مع الشمس على خط مستقيم في حالة نادرة لا تحصل الا كل 600 ألف عام، نشاط شمسي غير مسبوق يقذف الأرض بجسيمات "نيوترينو" تؤدي الى زيادة سخونة نواة الأرض المشتعلة أصلاً، مما يؤدي الى انصهار هذه النواة، فتبدأ القشرة الأرضية بالتصدّع والتشقّق والتحرّك في معظم ارجاء اليابسة ... لتنهار لاحقا في البحار والمحيطات في المناطق الساحلية، وترتفع المياه وتتكون موجات تسونامي هائلة لتغطي قارات بأكملها!

 

الفلم يسلك على نفس مسار التصورات والمخططات للكارثة الكونية المحتملة حسب الكتب المقدسة واساطير الطوفان البابلية وغيرها، التي تجمع على طغيان المياه على اليابسة... لكن لا نهاية مطلقة للكوكب الأرضي او للانسانية على الأرض. هناك خطط إنقاذ نخب انسانية وحيوانية ونباتية ومعلوماتية وتحف وقطع فنية و...، للبدء من جديد في عالم جديد! إذ ان معظم الحكومات في الدول المتقدمة تعرف بالنهاية المشؤومة القادمة وتخطط لانقاذ ما يمكن انقاذه، وبضمن ذلك قادة هذه الحكومات نفسها. لكنهم بحاجة الى رعيّة ومحكومين في الأرض الجديدة، وهؤلاء هم أصحاب الثروات الفاحشة، البليونيرات وليس المليونيرات! فبرغم الكارثة القادمة، تبخل الحكومات في تمويل خطة الانقاذ... وتتكّل على بيع تذاكر النجاة "للقطاع الخاص" بمبلغ بليون يورو وليس دولار... ولزيادة الاثارة، يتفاصل أمير عربي في الفلم حول السعر لأن عائلته كبيرة، تشتمل على أطفال وعدّة زوجات منقّبات، عليه أن يصحبهن جميعا الى برّ الأمان ليقيم العدل بينهنّ!

 

السينما الراهنة في هوليوود، مثل معظم وسائل الاعلام المرئية، تسوّق العنف والرعب والاثارة والكوارث والدمار الشامل... لأنها جميعا تبيع أكثر وتجذب المشاهدين في كل مكان. التسويق وتحقيق الأرباح هو الهدف وهو الوسيلة أيضا. ثورة التقنيات الرقمية في مجال البصريات والغرافيكس سهّلت خلق أوهام بصرية مذهلة بشكل غير مسبوق. ولا شيء أجمل او أروع – في مناخ الصراع الثقافي والحضاري العالمي الراهن – من مشاهدة الدمار الهائل والشامل لمدن بأكملها، انهيار الأبراج العالية، تشقّق الشوارع وانهيار الجسور، تساقط السيارات بغزارة ورعونة من مواقف السيارات العالية، الحمم البركانية المقذوفة كالنيازك، الحرائق الواسعة، الأبنية الزجاجية الجميلة تنهار على الناس، الأمواج البحرية الهائلة وهي تغمر المدن والدول وحتى الجبال العالية... الخرائط الطبيعية العتيقة وهي تتغير بلحظات لتخلق عالما كابوسيا ًجديدا! من يقاوم إغراء مشاهدتها... مثل مصارعة الأسود في روما العظيمة، إلا أننا أكثر تقدماً من ناحية التقنيات والوسائل... أقل استعدادا للمغامرة، وأكثر جبناً من مصارعة فأر... لكن مقابل ثمن بسيط نستطيع الاستمتاع بكل هذه الرغبات السادية المكبوحة بضغط المدنية... المشاهدة هنا "استمناء" جمعي من نوع آخر!

 

حاولت قراءة الموقف من الفلم بين أهم نقّاد السينما في أمريكا، وبالطبع، لا يستخدم هذا المصطلح الا نادراً ... الشائع هو مستعرض او عارض الأفلام film reviewer... معظمهم متفقون على ان فلم 2012 ليس فنّاً، بل متعة بصرية حسيّة، سادية وشهوانية الى حد ما، مرتبطة بالضجر العصري، بالاحتقان السياسي والاقتصادي العالمي، بالعولمة في الاتصالات والمواصلات... وهذا هو المتوقع من مخرج مثل رولاند ايميريش، ذو التاريخ "العريق" في بيع الكوارث والمصادفات. وفي يوم واحد ينتقل البطل وجماعته الصغيرة وسط كوارث غير قابلة للتصديق، وعبر سلسلة من المصادفات المفتعلة، من كاليفورنيا الغارقة في المحيط الى الهملايا في الصين، ملاقيا العديد من الناس "المفيدين" في تحقيق مخططه "الخلاصي" المحدود... ليصل في النهاية الى "سفائن نوح" الجديدة، ليركبها مع جماعته من دون تذاكر بليونية! يا للهول... على قول فناننا العظيم يوسف وهبي.

 

هذا البطل هو مجرد حجة او ذريعة لتوالي سلسلة الأحداث الفلمية في الخلفية... لكن الخلفية في الفلم، اي الكارثة الكونية بتفاصيلها الغرافيكية المذهلة هي البطل الحقيقي، هي المركز... ويتراجع البطل وغيره من البشر الى الوراء... الكوكب في لحظة عنفوانه وتغيّره وإعادة ترتيب ذاته يصبح هو البطل الوحيد... وربما كان دائما هو البطل وما نحن الا ملحقات مغرورة... هذا ما ينجح الفلم في عرضه. وربما يمكن اعتبار العمل برمّته فلما عن الكوكب الغاضب المعرّض لتهديدات جديّة، على الرغم من ان الفلم مبني على علم "كاذب" وملفّق. ولذا يلجأ احيانا الى ميتافيزيقيا "كاذبة" ايضا، خصوصا في أجزائه الاخيرة من أجل إعطاء أمل باستمرار الجنس البشري.

 

وللأسف يستعير الفلم موعدا مقدساً من حضارة المايا، يحاول الاقتراب شكليا من البوذية، واحيانا من المسيحية بطريقة صورية، لكن من دون اي اضافة عميقة للفكرة او الأحداث، ويبقي العمل متشبثا بالمستوى البصري والحسي المباشر الذي تدور فيه الاحداث الراهنة. وحتى عملية اكتشاف الكارثة قبل 3 سنوات والتعامل معها لايعطيها المخرج اي أهمية لصالح البصريات والغرافيكس... محاولا مداعبة اكبر كمية من الغرائز التدميرية الكبوتة لدى سكان المدن العصرية. تبدو المشاهد الرومانسية مثل محاولة انقاذ طفل او كلب مفتعلة، صعبة التصديق، خفيفة الوقع وسط الكارثة الكبرى... الخطابات الانسانية تبدو صعبة القبول، خصوصا في نهاية الفلم عندما يسمح للآلاف من الناس – وبينهم اصحاب تذاكر – بالصعود الى سفن النجاة... لأنها ببساطة لا تتماشى مع روح الفلم القاسية والباردة... اذ يحاول المخرج تقديم تنازلات غير متقنة من اجل قوة جذب اكبر.

 

ومن السخف ان بعض النقّاد في أمريكا، اهتموا او أشادوا بأداء بعض الممثلين الرئيسيين وبأدوارهم المرسومة وبناء الشخصيات، علما انها شخصيات نمطية. وبالطبع، توجد دراما كبرى في الفلم، لكنها دراما مفتعلة، لا قيمة لها بمعزل عن الدراما الحقيقية لكوكب الأرض. وهناك قول شائع في السينما "الحركة تطغي على الأداء" وبالانكليزية " Action overwhelms acting "، ويضاف الى الحركة هنا بعضا من أروع وأقوى المؤثرات الخاصة المتفوقة والمقنعة. ولو وضعوا مجموعة ممثلين مغمورين او هواة ، لن يؤثر ذلك على سير الفلم واحداثه ونجاحه في شباك التذاكر، لأن البطل هو الفكرة الجريئة والمؤثرات الخاصة التي تحقق الفكرة بصريا وحسيا.

 

وقبل أكثر من عام دعا المخرج إيمريش – ألماني الجنسية – والكاتب هارالد كلوسر شركات الانتاج السينمائي الكبرى في هوليوود، وعرضا عليهم مشروع الفلم فيما يشبه مزاد التعهدات او المقاولات، فجفل العديد من الكلفة العالية "200 مليون دولار" ومن أفكار ايمريش المخيفة السابقة – يوم الاستقلال، جودزيلا، اليوم الذي يلي الغد وغيرها.... ورسا الفلم على سوني وذراعها السينمائي كولومبيا. وفي الفلم لقطات لكومبيوترات محمولة من طراز ViO وجهاز ألعاب بلاي ستيشن محمول PSP من صنع عملاق الالكترونيات سوني. والحقيقة ان أداء الفلم متعثر في شباك التذاكر الأمريكي، لكن حوالي 75 % من عائداته التي تجاوزت 600 مليون دولار جاءت من الاسواق العالمية... اذ يبدو ان مشاهد الدمار في أمريكا تجذب المشاهدين حول العالم بقوة. وأكد الكاتب كلوسر في لقاء صحفي انه غير مستعد "لفتوى" تطال رأسه، فاقتصرت مشاهد التدمير على معالم مسيحية، وذلك لضمان رواج الفلم عالميا من دون مشاكل او احتجاجات ذات طابع ديني.

 

وفي النهاية يجمع معظم المراقبين على صعوبة مشوار المخرج، اذ يتساءلون... ماذا سيدمّر في المرة القادمة، بعد أن دمّر الأرض طبيعيا واقتصاديا وسياسيا وبشريا. سيكون من الصعب عليه تحقيق اختراق جديد... والكثير من أمثاله من مخرجي افلام الاثارة والحركة والمؤثرات الخاصة يواجهون مراحل من الانتظار والتأمل بعد منجزات "تجارية" و"تقنية" كبرى من هذا النوع.         

سينماتك في 27 أغسطس 2009
 
 

المصدر: بقلم يوخنا دانيال
Cinema

SFG

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 661 مشاهدة
نشرت فى 31 أغسطس 2010 بواسطة Cinema

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

46,745