جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بين الحين والاخر .. خاصة عندما امّر بمشكلة ما .. او اعانى من حالة مزاجية غير مناسبة .. استعين بصديق ما .. اثق فى قدرته على اخراجى من هذه الحالة مهما كانت صعوبتها او تأثيرها .. تعوّدت ان اجلس مع احد زملاء العمل ممن يقترب عمرهم من الستين او اكثر .. اشعر نحوهم بالفة وطمانينة لا حدود لها .. ابادر احدهم بحديث عام فى الحياة .. انصت اليه .. وعندما اتعلم شيئا مما يقول .. استخرج دفترى واسجل فيه ما تعلمت .
عم طه كبير العاملين فى البوفيه .. اراقبه وهو يستمتع بتدخين سيجارته بين الحين والاخر .. اتخيله فى بعض الاحيان يتحدث اليها .. يجلس صامتا فى معظم الاحيان .. لا يهتم الا بعمله .. عمله فقط .. لاحظت غيابه فترة طويلة عن العمل .. سالته عن السبب فاجابنى " زوجتى اشتد عليها المرض .. نقلتها الى المستشفى الحكومى فى منتصف الليل .. جلست بجانبها .. فلا احد بجوارها " كان يتحدث معى بحزن عميق احسسته من نبرة صوته وشعوره بقلة حيلته .. فى اليوم التالى سالته عن تطورات الموقف فاجابنى " الحالة كما هى .. ولكننى واجهت مشكلة اخرى مع صاحب المنزل يريد طردى وابحث عن محام ليتولى القضية " احسست بضألة قيمتى وهمومى مهما كانت امام هموم واحزان هذا الرجل .. ومع ذلك فهو لا يفقد ابتسامته .. ولا يفتر حماسه لحظة عن العمل بمنتهى الاخلاص والهمة .. لاحظت غيابه فيما بعد .. وعندما يجئ اتوقع ان يحادثنى عن تطورات الاحداث لديه الا انه يفاجئنى دائما باحداث جديدة متلاحقة " ابنى – الولد الذى خرجت به من الدنيا .. هرب تاركا لى البيت بمشاكله وبامه المريضة " لم استطع الصمود امام هموم واحزان هذا الرجل فسالته " كيف تعيش اذن يا عم طه وسط هذه الهموم والاحزان؟ " اجابنى قائلا " انها الحياة يا سيدى .. تكون حلوة فى فترات من العمر و مُرّة كـ العلقم فى فترات اخرى .. ولا نملك سوى حمد الله وشكره فى كلتا الحالتين حتى تستقيم الحياة وتستمر " صدقت بالفعل يا عم طه .
عم سالم .. قارب على الثانية والستين من العمر .. يعمل سائقا .. متمرسا .. يحترف وظيفته يؤديها بمهنية شديدة .. اتحين الفرص بين الحين والاخر للنزول معه فى مهام عمل متنوعة .. اتركه يتحدث بلا حدود .. "اين نحن الان يا عم سالم ؟ " فيجيب منطلقا سعيدا سعادة غامرة بمثل هذا السؤال " انه شارع كذا سُمّى بهذا الاسم نتيجة لـ كذا .. وينحدر منه شارع كذا وكذا " وهكذا تجده موسوعة هائلة فى اسماء وتواريخ الشوارع .. دائما ما يذكر " الخديوى اسماعيل " بمنتهى الفخر والاعتزاز والتقدير على رقيه وتحضره فيما تركه من مبان وشوارع تماثل احياء وعمارات باريس .. كنت اجده فى اوقات فراغه ينهمك فى " حل الكلمات المتقاطعة " او قراءة الصحف .. ومتابعة الاخبار اولا باول .. ابتسامته لا تفارقه .. طيبته ونصائحه المخلصة التى يسديها الى العاملين الجدد فى الوظائف الدنيا .. يعاملهم كاولاده .. بادرته بحديث لاتقرب منه " حدثنى عن حياتك يا عم سالم " ابتسم لى قائلا " جربت كل شئ .. واشتغلت فى كل شئ .. حياتى كلها فى الشارع .. تزوجت ثلاث مرات .. وانجبت من الاولاد والبنات الكثير .. لم افكر يوما فى المال .. رزقى سياتى لى .. ربيت وعلمت اولادى بقدر المستطاع وفى ظل امكانياتى .. اقف بجابنهم واساعدهم بالراى والنصيحة .. يعملوا بها او لايعملون .. لا يهم .. الاهم ان انصحهم وفى النهاية القرار لهم " اجبته قائلا " هى نظرية جديدة فى التربية اذن يا عم سالم " رد مبتسما " ليست نظرية ولا يحزنون .. انها تجربة حياة .. لا يمكن ان تفرض سيطرتك ورأيك على اولادك .. اتركهم يجربون .. يحاولون ويخطئون .. يواجهون وحدهم الحياة بكل ظروفها ومشكلاتها .. فقط عندما يطلبونك يجدونك بجانبهم فتنصحهم ثم تمضى .. فلن تعيش لهم طوال عمرهم يا سيدى " صدقت ايضا يا عم سالم .
الاستاذ محسن .. رئيس الحسابات بالشركة .. فى بعض الاحيان نتجاذب حديثا جانبيا عن الكرة .. هو زملكاوى اصيل .. كانت هوايته فى شبابه ان يذهب الى ملعب الكرة ويشاهد المباريات على الطبيعة وسط الجماهير .. اتفقنا على ان نشاهد معا على المقهى مباراة مصر وغانا فى نهائى امم افريقيا انجولا .. كنت اشاهد المباراة كأى مشاهد عادى .. يتحمس لهجمات فريقه .. ويتمنى الفوز بالطبع .. اما هو فقد احسسته يتحرك مع كل هجمة لفريقنا .. كنت اشاهده يحرك قدميه مع اللاعبين .. وعندما تاخر هدف الفوز كنت اجده متوترا .. ومع مرور الوقت ومع اية هجمة على فريقنا كنت اجده ينظر الى الارض فى ذعر خوفا من ان نخسر البطولة .. و عندما احرزنا هدف الفوز فلم اجده سوى واقفا مهللا حاضناً لى معبرا عن فرحة لا شعورية هائلة وصرخة مدوية بالهدف وكانه هو بالظبط الذى احرزه .. وقد تناسى شعره الابيض وقام مصفقاً ومسايراً شباب المتفرجين مردداً مصر مصر .. استغربته هذا الشخص الوقور وهو يقوم بمثل هذه الممارسات التى يقوم بها شباب العشرين .. كُنت احسب ان حبه للكرة ومبارياتها هو مجرد حب عادى لم اكن اعرف انها تعيش بداخله وتحتويه لهذه الدرجة .. فى اليوم التالى عبّرت له عن اندهاشى لحالته تلك بالامس فاجابنى " لقد كنت فى شبابى لاعبا ماهرا فى شوارع عابدين .. كنت احد نجوم الدورات الرمضانية التى كانت مشهورة جدا فى ذلك الوقت .. كانت امنية حياتى ان العب فى نادى الزمالك .. حلماً سيطر على طوال فترة شبابى .. مهما امتد العمر ستظل احلامنا هى التى تتحكم فينا وتسيطر علينا للابد "
المصدر: من كتاباتى
ساحة النقاش