ابنى عمر ذو السنوات السبع  .. منذ ان بلغ الرابعة حرصت على ان يقوم ببعض الاشياء البسيطة بمفرده .. ان يتناول طعامه دون مساعدة احد .. وان يحاول ارتداء ملابسه كذلك دون طلب تدخل احد .. وعندما كنا نسير فى الشارع كان يسعى لان يمسك بيدى فاتركه قائلا " لقد كبرت يا عمر ويمكنك ان تسير فى الشارع بمفردك " وكنت اتركه مترقبا ماذا يفعل وكأنه يسير وحيدا .. واقوم بارشاده بين الحين والاخر" ان تسير محازيا للرصيف وان تنظر يمينا ويسارا " وهكذا كنت حريصا على ان يشعر بالاستقلالية والمسئولية .. رغم معارضة بعضهم على انه ما زال صغيرا .. الا اننى كنت اصّر دائما على ان اردد امامه " لقد كبرت يا عمر " .

عندما بلغ السادسة من عمره  كنت اختبر معلوماته فاطلب منه ان يذكر لى اسماء اربعة انواع من اية سلعة قد حرصت على ان ترتبط معلوماته بالواقع فيربط بينهما فى ذهنه .. وعندما نذهب معا الى الـ " سوبر ماركت " كنت اجده يسجل فى ذاكرته انواع جديدة من اية سلعة انتظارا لسؤالى عنها فيما بعد ......  

عمر الان  فى السابعة .. شجعته على ان يمارس الرياضة .. اية رياضة .. كنت احلم به بطلاً .. ولكننى خفت من انعكاس ذلك عليه فيسبب له ضغطا عصبيا وتوترا .. اقنعت نفسى " ان ممارسة الرياضة فقط تكفى "

اختار عمر الاشتراك فى رياضة العاب القوى " العدو " وبدأ فى التدريب مع اقرانه فكنت اتابع اخبار التدريب بين الحين والاخر ..

بادرنى ذات يوم قائلا "  توجد مسابقة فى النادى مخصصة لمن هم عمرهم عشر سنوات ويمكن الاشتراك فيها لمن هم فى سن اقل وان عددا من اعضاء فريقى سوف يشاركون , فهل اشارك؟ " اجبته قائلا " لابد ان تكون الرغبة فى الاشتراك من داخلك انت .. انه قراراك انت وليس قرارى انا " وتابعت قائلا " ولكنك اذا قررت الاشتراك فى السباق عليك ان تضاعف من ساعات التدريب " ثم قررت مفاجأته فقلت " اذا اشتركت – مجرد الاشتراك – فى السباق سوف اكأفك مكافاة قيمة "

قرر عمر الاشتراك فى السباق ..واصل تدريبه المكثف متحمساً .. كنت اخشى عليه من الفشل فى تجربة هى الاولى له .. سوف يكون تأثير الفشل اكبر واعمق اثرا .. " لا يهم يا عمر ان تفوز بالمراكز الاولى .. يكفيك فقط ان تخوض التجربة " " اذا حلمت بالفوز تأكد انك ستحققه ".. ومع اقتراب موعد السباق كنت اشعر برهبة وخوف شديدين .. ليس من عدم الفوز .. ولكن من تداعيات عدم الفوز .

جاء يوم السباق ..  امتلآ " مضمار السباق " بحشود كبيرة  من اهالى المتسابقين .. وقد سمعت احدهم قائلا " ان السباق يفوق قدرات الاولاد تماما " عندما سمعت ذلك قررت تنفيذ شيئا ما .. رأيت التوتر باديا على عمر ناديته قائلا " اسمعنى جيدا يا عمر ونفذ ما اقوله لك بالحرف .. عندما تقف على خط البداية قبل بدء السباق اغمض عينيك .. خذ نفساً عميقا .. تخيل انك قد وصلت الى خط النهاية .. وانك تحمل كأس البطولة .. اسمع فى خيالك تصفيق وآهات كل هؤلاء .. ركز مجهودك وطاقتك فى الجزء الاول من السباق .. لا تنظر بجوارك ولا خلفك ابداً " واقتربت من وجهه وفعلت شيئا ما .. ابدى اندهاشه واستغرابه ولكننى لم اهتم .

وبدأ السباق

وقد رأيته يغمض عينيه فشعرت حينئذ بالاطمئنان .. وانطلق بكل قوته .. كان اهالى المتسابقين يهللون فرحا وينادون باسماء اولادهم يشجعونهم ويبادلونهم النظرات والابتسامات .. اما عمر فلم اجده سوى ناظرا امامه وبقوة .

عندما انتصفت المسافة .. كان قد تعب من تعب .. وتراجع من تراجع .. وانسحب من انسحب .. وانخفضت طاقة الكثيرين من المتسابقين .. وقد انعكس ذلك على اهليهم .. فقل التشجيع او ندر .. ومع انسحاب متسابق تلو الاخر انعكس ذلك فى احباط اهليهم فبدأ بعضهم يوجه عبارات التنديد والاستنكار للقائمين على امر السباق نظرا لطول المسافة مقارنة بقدارات وامكانيات اولادهم .. بل ان هناك من اطلق صفارات الاستهجان والاستنكار ملوحين بايديهم معبرين عن اعتراضهم على ذلك بل وازداد الامر مع انسحاب معظم المتسابقين قبل الوصول الى خط النهاية .

اما عمر فما زال منطلقا .. بكل قوة وحماس .. ومعه ثلاثة فقط .. كانوا يفوقونه سناً وتدريباً .

انتهى السباق .. استمر عمر حتى النهاية .. وهذا بالنسبة لى يكفى .. فاز بالمركز الثالث .. لاقى تحية كبيرة من المشجعين ممن ابدوا استغرابهم واندهاشهم من استمراره حتى النهاية مقارنة باولادهم الاكبر منه سناً والاكثر منه تدريباً .. اقترب منى احدهم معبرا عن استغرابه اكثر من اعجابه متسائلا " كيف حدث ذلك " اجبته سعيدا وكأنى اكشف له سراً " انه لم يسمع يا سيدى " ان معظم المتسابقين قد انسحبوا من السباق بعد ان سمعوا عبارات الاستهجان والاستنكار والاشفاق عليهم من طول المسافة .. لقد وضعت فى اذنيه قطناً جعله لا يسمع اى شئ مما يدور حوله " فقد توقعت ما حدث وقد حدث .

كانت مكافاتى له ان اشتريت لوحتين فارغتين .. كتبت له على الاولى " ومن يتهيب صعود الجبال .. يعش ابد الدهر بين الحفر" ( ابو القاسم الشابى ) وعلى الثانية كتبت " عليك ان تفعل الاشياء التى تعتقد انه ليس باستطاعتك ان تفعلها " ( روزفلت ) .. طلبت منه ان يعلق اللوحتين على جدران غرفته .. وقد ابدى استغرابه من هذه المكافاة التى خالفت توقعاته " عندما تكبر وتفهم معنى هاتين الجملتين ستعرف انها مكافاة قيمّة حقا "

وانت ايضا – يا صديقى – عندما يشكك احدهم فى قدراتك وامكانياتك واصرارك على تحقيق هدف ما .. ضع فى اذنيك قطنا .

المصدر: من كتاباتى
  • Currently 79/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
26 تصويتات / 390 مشاهدة
نشرت فى 2 يوليو 2010 بواسطة AshrafSalah

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

4,771