عالم الأدب والنقد الأدبي- د. محمدصالح رشيد الحافظ

الموقع خاص بعالم الإبداع الأدبي والإنساني - نصوص ودراسات

تكاد أغلب قصائد الشاعرة نازك الملائكة تحتوي على إشارات رمزية للطفل والطفولة،ولا غرابة في ذلك وهي عاشقة الليل والطفولة،وجاءت تلك الإشارات على نمطين:

*النمط الأول :يتضمن لفظة الطفل والطفولة ثم تسوق الشاعرة من خلالها الدلالة الرمزية..

* النمط الثاني:وهو ما لا يتضمن أية لفظة طفل أو طفولة صريحة،لكن الدلالة تكون مأخوذة من معاني وإيحاءات خاصة بعالم الطفل والطفولة... المهم أن الشاعرة استخدمت هذه الرموز المستنبطة من عالم الطفل والطفولة للدلالة والإيحاء على معان حياتية وتجارب شعورية ودعوات للتغيير،ولم تتخوف في بعضها أن تنتقد الأنظمة السياسية وسلوك شخصيات...الخ. ومن نماذج النوع الأول ما نجده- مثلا- في قصيدتها(كوليرا)(1)،وهي من القصائد المبكرة لها أنها تشير الى مرض الكوليرا وما فعله بالناس كالغول أو اللعنة التي تلاحقهم عبر الأزقة وفي داخل البيوت،وحتى الغد سوف لن يأتي أمام هول جبروت المرض ،وهنا يجب أن ينتبه القارىء إلى أن الشاعرة تريد أن تقول:أن حزنا ومأساة جديدة حلت بالناس بالإضافة إلى ما لديهم من حزن أزلي(الفقر والجهل)...!! في صمتِ الفجْر, أصِخْ, انظُرْ ركبَ الباكين عشرةُ أمواتٍ, عشرونا لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين مَوْتَى, مَوْتَى, ضاعَ العددُ مَوْتَى, موتَى, لم يَبْقَ غَدُ في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ ورمز الطفل في القصيدة مرتبط بالغد والقادم،وإذا كان هذا حاله،بين البكاء وألم المرض والضياع والموت،فلا غد للبلد ويكون مستقبل أهله مأساويا؟؟!!.. ويرتبط الطفل والطفولة عندها بكثير من خطايا الكبار،فهذه الحرب العالمية التي أستعرت نيرانها بسبب الأطماع السياسية وأمزجة القادة الطغاة قد أتت على الأخضر واليابس،قتلت وشردت وسحقت ،وكان الطفل جزءا كبيرا من ضحاياها،وصارت الطفولة مقتولة،تلك الطفولة الدالة على الحياة والبسمة والبراءة: أسفا لم تدع لنا الحرب شيئا وتلاشى الحلم الطروب الجميل من ترى يحرث الحقول ويشدو أغنيات المراح وقت الحصاد أين لهو الأطفال عند البحيرات وفوق الثلوج في الأعياد أين؟ ضاع الخيال والحلم الفاتن ضاع الجمال ضاع الرخاء ليس إّلا دنيا من الجوع والفقر عليها يعذّب الأبرياء يا قلوب الأطفال لا تخفقي الآن حنينا لن يرجع الآباء هكذا شاءت السنين فرفقا بعيون قد عض فيها البكاء(2) وكل شيء بعد مآسي المرض والحروب والفقر إذا ظهر في الوجود فهو رمز للطفل الوليد والطفولة البريئة السعيدة،ففي قصيدة (تحية للجمهورية العراقية) تجعل نازك الطفل رمزا لهذه الجمهورية الوليدة،ويجيء وصفها لها كوصف مشاعر الأبوين تجاه وليدهما البكر،فلابد من إضفاء الحب والرعاية له: جمهوريتنا،طفلتنا الجذلى العينين مولودتنا السمراء الباسمة الشفتين سنوسدها في أذرعنا ومآقينا سنغذيها بأغانينا...(3) ونلاحظ أن الشاعرة فرحة وسعيدة بهذه الجمهورية الوليدة،ولاشك أنها كانت ترمز من خلال ضمير(نا) المتكلمين الى الشعور العام للناس في العراق،وذلك لأن هذا الوليد يرمز إلى التخلص من الظلم والفقر من جهة،وأنه رمزللغد الجديد الذي سيجلب معه الفرح والخير.. والنوع الثاني من الرمز لديها – والذي سبقت الإشارة اليه- لقد مثل الطفل لديها رمزا للبقاء المتجدد الباحث عن الضياء والسعادة والخير،وللشاعرة قصيدة وجدانية بعنوان( شجرة القمر)(4) حيث تنظر من خلالها إلى ذلك الغلام الحالم المجنون بضياء القمر:

على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ لكن من يكون هذا الغلام..؟؟!!إنه قد يكون رمزا لكل فتى صغير يحلم بغد سعيد مضيء مليء بالحب والدفء والحنان،وقد يكون القائد أو السياسي المنقذ للناس والوطن..؟؟والقمر هنا رمز آخر قد يرمز إلى العلم والتحرر والتقدم والسعادة والفرح...الخ.. ويلاحظ أن الشاعرة أحيانا تستلهم من عالم الطفل والطفولة بعضا من معالمه وتسوقها رمزا لشيء إيجابي محبوب،مثل تساؤلها عن الألم في الحياة..؟؟،فتقول: حين نعرف كيف نداري هذا الألم ونصبر عليه،فإنه ينام ويهدأ كالطفل في حضن أم دافىء حنون،ففي المقطعين التاليين سنلاحظ كيف أن الشاعرة تزاوج بين أمرين،الأول:هو الألم ؟؟ولاشك تقصد به حياة الناس التي أصبحت ألما خالدا ،والثاني:هو صفات وسلوك الطفل الذي مهما يكون مزعجا بصراخاته فيمكن التغلب عليه بالمداراة والصبر ،هذا الجمع بين الألم والطفل خلق رمزا للصراع بين السلب والإيجاب، ويكون البقاء لمن يتحمل ويفكر ويداري: أليسَ في إمكاننا أن نَغْلِبَ الألمْ ؟ نُرْجِئْهُ إلى صباحٍ قادمٍ? أو أمْسِيهْ نشغُلُهُ? نُقْنعهُ بلعبةٍ? بأغنيهْ ؟ بقصّةٍ قديمةٍ منسيّةِ النَّغَمْ? ** ومَن عَسَاهُ أن يكون ذلك الألمْ ؟ طفلٌ صغيرٌ ناعمٌ مُستْفهِم العيونْ تسْكته تهويدةٌ ورَبْتَةٌ حَنونْ وإن تبسّمنا وغنّينا له يَنَمْ(5)

الهوامش:

(1) ديوانها(شظايا ورماد) ،قصيدة(كوليرا)، ص8.

(2) ديوانها(الموت والإنسان )،قصيدة(الحرب العالمية الثانية)، ص46.

(3) ديوانها( الصلاة والثورة )،قصيدة (تحية للجمهورية العراقية) ، ص 15.

(4) ديوانها(عاشقة الليل)، قصيدة( شجرة القمر)، ص9-11.

(5) ديوانها(شظايا ورماد)،قصيدة (خمس أغان للألم)، ص 27-28.

المصدر: دواوين نازك الملائكة
  • Currently 46/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
16 تصويتات / 3417 مشاهدة
نشرت فى 4 يناير 2011 بواسطة Alhafedh

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

39,388