بسم الله الرحمن الرحيم
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }
الأنبياء30
صدق الله العظيم
مقدمة ( تعليق من أحمد سيد إبراهيم )
أجهد المفكرون والعلماء الغربيون أنفسهم أيما جهد للتدليل على أزلية الكون وعدم وجود خالق له. لكن جهودهم تلك تمت باستخدام الأداة التي وهبها الله إياهم ألا وهي العقل البشري، وقد أوصلتهم تلك الهبة الربانية إلى طريق مسدود في أبحاثهم، فلم يعد أمامهم إلا التسليم بوجود الله وهذا لمن انجلت عن قلبه الغشاوة.
فكلنا نعرف أن العلم اليوم يفسر نشآة الكون بنظرية "الانفجار الكبير" والتي تقضي بأن الكون كله كانت مادته مندمجة في قبضة واحدة، ذات كثافة لا نهائية، ثم انشطرت تلك القبضة في كل اتجاه ليتكون منها الكون المعروف بمجراته ونجومه وكواكبه.
ووضعت تلك النظرية العلماء في مأزق لم يخطر لهم على بال، فالمفترض أن تلك القبضة ذات الكتلة اللانهائية كان وجودها لا يخضع لأبعاد المكان والزمان أو كما يترجم "الزمكان" إذ لم يكن هناك كون من الأصل حتى تنطبق عليه الأبعاد.، ولا حتى القوانين الفيزيائية ( والتي من الناحية الفلسفية لم تكن قد وجدت بعد حتى يمكن تفسير سلوك القبضة الأولية بناء عليها).
وإن كان وجود تلك القبضة الأولى يتخطى حواجز الزمان والمكان، فلماذا تغير وضعها وانفجرت؟ وما هي تلك القوة الكلية القادرة على جمع كل مادة الكون في قبضة واحدة صغيرة لا متناهية الكثافة.
إن التفكير في هذا الوضع يقود إلى أن هذه القبضة إما كانت مستقرة أو مضطربة، فإن كانت مستقرة فلابد أن يؤثر عليها مؤثر خارجي كي تنفجر ( مؤثر من خارج الكون ) وإن كانت مضطربة فكيف اجتمعت من الأصل وما هي القوة التي كانت تمنعها من الانشطار قبل حدوث الانفجار الكبير؟
في الحالتين لا مفر من التسليم بوجود قوة مؤثرة من خارج الكون كان لها فضل إحداث الإنفجار الكبير
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }
وأترككم مع المقال
ضمن الإطار القائل بأن الزمن والمكان لم يريا النور إلا مع حدوث الانفجار الكبير، يظل السؤال المطروح حول معرفة ما حدث قبل ذلك خاليًا من المعنى بنظر علماء الكونيَّات. ولكن لماذا ظهر الزمن والمكان فجأة؟ ومن أين تأتي قوانين الفيزياء؟
پول ديفيز
خلاصة:
تقول نظرية الانفجار الكبير بأن منشأ الكون الذي نعيش فيه هو تلك اللحظة الفريدة، إذ أدى "تقلُّب كوانتي"، دون سبب مسبَّق، إلى ظهور زمكان، بطاقته ومادته اللتين نرصدهما اليوم. قبل ذلك، لم يكن يوجد "شيء"، مثلما لا يوجد شيء في شمال القطب الشمالي! الزمن، في حدِّ ذاته، منتهٍ، ولكن ليس له منشأ، بما أنه قد اتخذ بالتدريج الخصائص التي يتصف بها الآن، مستغنيًا عن الخصائص المتعلقة بالأبعاد المكانية. إن علماء الفيزياء، في محاولة منهم لإيجاد السلسلة التفسيرية للعالم، ينطلقون من قوانين الفيزياء التي يطرحونها على أنها لازمنية و"خارجة" عن الكون، غير أن طبيعتها العميقة هي موضع بحث يؤول إلى أهل الميتافيزياء.
أغلب الناس اليوم يعرفون أن الكون قد نشأ عن انفجار – "انفجار كبير". ولكنهم، حالما يحاولون تذهُّن هذا الحدث، ينطرح سؤالٌ دقيق: ما الذي حدث قبل ذلك؟ بما أن فكرة حدوث أمر دون سبب مسبَّق هي فكرة غريبة عنَّا، يبدو أن هذا السؤال ينتظر جوابًا. ومع ذلك، يصر العديد من علماء الكونيَّات على عدم وجود جواب عن السؤال المتعلق بما حدث قبل الانفجار الكبير، لا لأن أصل الكون سيظل إلى الأبد عصيًّا على فكر الإنسان، بل لأن القضية، في حدِّ ذاتها، خالية من "المعنى".
هو ذا موضوعٌ يشد انتباهنا. وغالبًا ما تكون الكتب والمؤتمرات حول الانفجار الكبير ميدانًا لنقاشات حادة. فالمتديِّنون يرون في جهود العلماء الذين يحاولون تفسير منشأ الكون حيلةً لإنكار الخالق. وليس قلق الملحدين بأقل، لأن مفهوم كونٍ قد نشأ من "لاشيء" يبدو مثيرًا للشبهة بقدر فكرة الخلق "من عدم" التي تنادي بها الديانة المسيحية.
قليل من علماء الكونيَّات يعارضون اليوم فكرة نشأة الكون في لحظة معينة في الماضي. والإمكانية الأخرى – أي أن الكون كان دائمًا موجودًا منذ الأزل، في شكل أو في آخر – إنما تصطدم بمفارقة حتمية. لن يكون بإمكان الشمس والنجوم أن تلمع أبدًا: فعاجلاً أو آجلاً سينفد وقودها وتزول. وهذا يصح على جميع العمليات الفيزيائية اللاعكوسة: فلمعان الشمس والنجوم هذا يتطلَّب طاقة غير متوافرة في الكون إلا بكمية منتهية، الأمر الذي يجعل استمرارها إلى الأبد أمرًا غير ممكن. هذا مثال على قانون الترموديناميكا الثاني الذي، إذا ما طبَّقناه على الكون كلِّه، لتنبَّأ بأن هذا الكون منذور للانحلال وللتراجع إلى حالة من الإنتروپيا (أو الفوضى) القصوى. وبما أننا لم نصل إلى هذه الحالة بعد، فهذا يدل على أنه من غير الممكن أن يكون الكون قد وُجِدَ منذ زمن لانهائي.
عند تخوم منشأ الكون، لا يمكن لزمكاننا أن يوصَف شأن الزمكان الذي نعيش فيه اليوم. وعلى الرغم من هذه الإعاقة الكبيرة، يحاول علماء الفيزياء الإحاطة بهذه اللحظة الأسطورية. اللوحة لرونيه ماغريت بعنوان حس الحقائق (1963).
لحسن الحظ، لدينا دعائم أخرى غير الفكر النظري تجعلنا ننسب إلى الكون منشأً معينًا في دقة. إن هنالك ثلاثة أنواع مختلفة من الأرصاد تعطينا دليلاً مباشرًا يؤيد الانفجار الكبير. السبب الأكثر تبادُرًا إلى الذهن الذي يجعلنا نعتقد أن كلَّ شيء قد نتج عن انفجار هائل هو أن الكون لا يزال يتمدَّد حتى يومنا هذا: المجرَّات يتباعد بعضُها عن بعض. وإذا ما عرضنا الشريط في الاتجاه المعكوس، يمكن لنا التخمين بأن الانفجار الكبير قد حدث منذ حوالى 10 إلى 15 مليار سنة. وإن تأريخ النشاط الإشعاعي الذي يقدِّر عمر الأرض بـ4,5 مليار سنة يعزِّز هذه الفرضية. البرهان الثاني يتمثل في الإشعاع الأحفوري الخاص جدًّا الذي يسبح فيه الكوسموس برمَّته، والذي يفسَّر تمامًا على أنه بقايا الإشعاع الحار الذي صَدَر بعد الانفجار الكبير بـ300000 عام. أما البرهان الثالث، فعلى كونه أقل مباشرةً، إلا أنه لا يقل إقناعًا. إنه يرتكز على الغزارة النسبية في العناصر الكيميائية، التي يمكن أن نقيِّمها تقييمًا صحيحًا بلغة النشاط النووي في المرحلة الحارة والمكثَّفة التي أعقبت الانفجار الكبير.
يفسَّر ضجيج القاع الكوسمولوجي في 2,7 ك، الذي يسبح فيه الكون بأسره، على أنه بقية الإشعاع الحارِّ الصادر بعد الانفجار الكبير بـ300000 سنة، حين انفصلت المادة والإشعاع واحدهما عن الآخر. وهذا الحجاب الكتيم يحول بيننا وبين رصد الحوادث السابقة عليه. خارطة للإشعاع الأحفوري تمَّ الحصول عليها بفضل تابع صنعي. وبهذا تمَّ التأكد من وجود تقلُّبات طفيفة في الإشعاع الأحفوري.
بلا منشأ
إن أغلب الناس يقبلون راضين المفهوم العلمي للانفجار الكبير بوصفه منشأ الكون. ولكن أن نقوم بسبر الحدث الأصلي هو أمرٌ، في حدِّ ذاته، ينذر بالخطر: "مَن يهمه أن يعرف ما حدث بعد الانفجار الكبير بنصف ثانية؟"، كما كتب أحد الصحافيين. "ماذا عن الأمر في نصف الثانية التي سبقت؟" إن الأذهان الناقدة تحب أن تطرح هذا السؤال على العلماء الذين يغالون في التباهي بقدرتهم على فكِّ رموز الطبيعة. ولكن هذا لا يمنع أن النظرية الأساسية للانفجار الكبير ليست فيها لحظة تُسمَّى "نصف الثانية التي سبقت".
لكي أفسِّر ما أعنيه بهذه الملاحظة الغامضة نوعًا ما، عليَّ، قبل كلِّ شيء، تكذيب فكرة مغلوطة، لكنها شائعة جدًّا، حول طبيعة الانفجار الكبير. فهو، على عكس ما يُظَنُّ عمومًا، ليس انفجارًا لخثيرات من مادة كانت مضغوطة في فراغ كان موجودًا سابقًا. في كلِّ محاضرة ألقيها حول هذا الموضوع، يواجهني مستمعون مرتبكون بالأسئلة عينها دومًا: ما الذي حرَّض حدوث الانفجار الكبير؟ أين يقع مركز الانفجار؟ أين تقع حدود الكون؟ هذه الأسئلة، وإن بدت وثيقة الصلة بالموضوع، إلا أنها في الواقع ترتكز على رؤية للكون المتمدِّد مغلوطة تمامًا. إن الطريقة المثلى لإدراك ما هو عليه الوضع فعلاً هي في أن نتخيل أن سبب تمدُّد الكون ليس ابتعاد المجرات كلِّها عن مركز مشترك، وإنما لأن المكان الموجود "بين" المجرات يتمطَّط أو ينتفخ. إن فكرة مكان يتمدَّد، أو يمكن أن يبدِّل شكله، تنبئ بنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين. لقد خضعت هذه النظرية لما يكفي من الاختبارات لجعل علماء الكونيَّات الجادِّين كافة يتقبَّلونها، بِمَن فيهم النادرون منهم الذين لا يزالون يعارضون الانفجار الكبير إلى اليوم. فوفقًا للنسبية العامة، لا يشكِّل الزمن ولا المكان نطاقًا سكونيًّا يتطور الكونُ داخله، إنما هما جزءان لا يتجزآن من حقل جاذبيته؛ ويظهر هذا الحقل وكأنه تشوُّه أو "انحناء" في الزمكان. وفي الحالة التي تهمنا هنا، يأخذ هذا "التشوُّه" شكل تمدُّد تدريجي للمكان.
إن بالونًا أُلصِقَتْ على سطحه دوائر ورقية صغيرة هو تمثيل موفَّق للكون المتمدِّد. فكلما نفخنا البالون، تتباعد الدوائر الورقية، التي تمثِّل دور المجرَّات، بعضُها عن بعض. وعلينا أن نفهم أننا نشبِّه هنا سطح البالون بالمكان المنحني أو المشوَّه، وأن المناطق الواقعة داخل البالون أو خارجه لا تمثل أيَّ كيان في الكون الحقيقي.
مسلَّحين بهذه الصورة، ها نحن جاهزون للتطرق إلى قضية منشأ الكون. فلنمرِّر من جديد الشريط الكوني بالمقلوب: البالون يتقلص عوضًا عن أن يتمدَّد. وإذا كان البالون كرويًّا تمامًا (وإذا كانت رقة المطاط لامتناهية)، إذ ذاك، في لحظة ما من الماضي، يتقلَّص برمَّته في نقطة واحدة، ولن يكون بإمكانه أن يتقلَّص أكثر. هذه الصورة تمثل البدء. وعندما نعيد تمرير الشريط في اتجاه الزمن، نرى أن ما وصفناه لتوِّنا يوضح منشأً يولد فيه المكانُ نفسه من "لاشيء" لحظة الانفجار الكبير، ثم يتمدَّد ليشكِّل حجمًا أكبر يستمر في الاتساع. ولنلحظ جيدًا أن الكون لا يتمدَّد داخل "شيء": فالمكان، في حدِّ ذاته، يتخلَّق بالتدريج مع تمدد الكون. وبالطريقة ذاتها، ظهرت مادةُ الكون وطاقتُه في البدء أو في لحظة قريبة منه. وفقًا لهذا الوصف، تمامًا كما في حالة البالون، لا يوجد مركزٌ أو حدود. فمن المتعذر علينا، إذن، أن ننتزع أنفسنا من الكون لنرصد فيه المجرات يتباعد بعضُها عن بعض.
إذا ما عانيتم بعض الصعوبة في تذهُّن المكان ككيان منتهٍ ولكنه عديم الحدود، فلا تقلقوا! لقد تحيَّر أجدادنا بالطريقة ذاتها أمام الأرض: فقد كانوا يعتقدون أنها إما ممتدة إلى ما لانهاية في كلِّ الاتجاهات، وإما أنها محدودة، في مكان ما، بحافة يمكن لنا أن نسقط منها! وفي الواقع، وكما نعرف الآن جيدًا، لا تمتد الأرض إلى ما لانهاية، كما أنها عديمة الحدود.
من المهم أن ندرك، هنا أيضًا، أن النقطة التي ينبثق منها المكان لا تقع "داخل" شيء ما. إنها ليست شيئًا محاطًا بالفراغ. هذه النقطة هي منشأ الكون الذي ينطلق مضغوطًا إلى ما لانهاية. ولتلحظوا أيضًا أن هذه الحبيبة لا تظل هنا لمدة لا نهاية لها قبل أن تتمدد، بل تظهر فورًا "من لاشيء" دون أن تعبر الزمن. وفي الواقع، وبحسب نظرية النسبية، لا يمكن لهذه الحبيبة أن توجد داخل الزمن بأية حال من الأحوال، لأن الزمن نفسه يبدأ من هنا. وربما كان هذا هو الملمح الأكثر حسمًا في نظرية الانفجار الكبير.
|
أصل الكون وانتفاخه وتمدده، من الانفجار الكبير إلى الحاضر.
إن فكرة كون فيزيائي يولد "مع" الزمن، وليس "في" الزمن، ليست فكرة جديدة. إنها تعود، ربما، إلى القديس أوغسطينوس في القرن الخامس، بل وإلى الفيلسوف الرواقي سينيكا قبل المسيحية. ولكن كان لا بدَّ من انتظار نظرية النسبية لأينشتاين لإعطاء هذه الفكرة كامل احترامها العلمي. إن العنصر الأساسي في نظرية النسبية يكمن في كون المكان والزمن جزأين من الكون الفيزيائي، لا يمكن اختزالهما إلى نطاق خلفيٍّ ما يتَّكئ عليه الكون. من هنا، فإن كلَّ محاولة للقيام بالكشف عن منشأ الكون الفيزيائي ينبغي عليها، بالضرورة، أن تفسِّر ولادة المكان والزمن أيضًا.
يمثَّل للزمكان كلاسيكيًّا بهذين المخروطين المتلاقيين عند قمتهما المشتركة. أحدهما يصف المستقبل، بينما يصف الآخر الماضي. وجميع المعلومات الضوئية المتاحة اليوم تتجمع على سطح مخروط ضوء الماضي. والأحداث الواقعة خارج هذا المخروط غير قابلة للرصد في زماننا، بينما الأحداث الواقعة فيما يتعدى الأفق البصري قابلة للرصد دومًا.
إلاَّ أنه، وفقًا لنظرية النسبية، يصبح من البليغ أن يتمتع المكان والزمن بحواف أو حدود، يُطلَق عليها بلغة الرياضيات مصطلح التفرد. إن نقطة النهاية لانهيار نجم في ثقب أسود هي مثال على هذا "التفرد"؛ وحدود الماضي، حيث يكون منشأ المكان والزمن في انفجار كبير، هو مثال آخر عليه. وفي هذه الحالة، إذا ما عدنا بالزمن إلى الوراء، يكون الكونُ أكثر انضغاطًا وانحناءُ الزمكان أشد، حتى يصير لانهائيًّا في نقطة التفرد. يمكن لنا، إذن، أن نرى حدود الكون تلك على أنها نقطة يكون فيها حقل الجاذبية، وبالتالي انحناء الزمكان، لانهائيًّا، ولا يمكن له أن يتسع أكثر. هذا الأمر يشبه، في شكل مبسَّط، قمة مخروط ينتهي سطحُه برأس مدبب مسدَّد إلى اللانهاية يحدِّد نهايته. وبالتالي، على الرغم من أن الكون لا حدود له في المكان، نرى في الواقع أن له حدًّا واحدًا على الأقل في الزمن: الحدث الأصلي.
ما إن نقبل وجود منشأ للزمن، يتضح أن السؤال المطروح: "ما الذي حدث قبل الانفجار الكبير؟" خالٍ من المعنى. لا توجد حقبة "قبل الانفجار الكبير"، لأن الزمن قد ابتدأ مع الانفجار الكبير. إننا، للأسف، غالبًا ما نجيب عن هذا السؤال بالملاحظة الجوفاء: "لم يكن هناك شيء قبل الانفجار الكبير"، الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من الأفكار المغلوطة. لقد فسَّر الناس الـ"لاشيء"، في هذا السياق، على أنه مكان فارغ؛ ولكن، كما تبيَّن لنا من الكلام السابق، لم يكن المكان موجودًا قبل الانفجار الكبير، مثله كمثل الزمن. هل تدل كلمة "لاشيء" هنا، إذن، على شيء أدق، أشبه بمكان قَبْلي، أو بحالة مجرَّدة ما قد يكون المكان انبثق منها؟ لا. فكما أشار الأستروفيزيائي الإنكليزي ستيفن هوكنغ نفسه على سؤال: "ماذا يوجد شمال القطب الشمالي؟" يمكن لنا أيضًا أن نجيب: "لا شيء"، ليس لأن هناك أرضًا ما غامضة قوامها "لاشيء"، بل لأن المنطقة التي نشير إليها غير موجودة أصلاً. إنها عديمة الوجود، ليس فيزيائيًّا وحسب، بل ومنطقيًّا أيضًا. والأمر نفسه ينطبق على الحقبة التي سبقت الانفجار الكبير. إن هذه المرحلة، بالتعريف، غير موجودة. وبالتالي، فإن السؤال حول ما حصل فيها سؤال فارغ من المعنى بقدر فراغ السؤال حول شمال القطب الشمالي.
يبدو أن ذلك يغيظ بعضهم، إذ يظنون أنهم مخدوعون. إنهم يشكُّون في قدرة العلماء على تفسير منشأ الكون، ويتهمونهم باللجوء إلى مفاهيم غامضة ومريبة، مثل منشأ الزمن، وذلك بغرض تشويش نقَّادهم ليس إلا. إن الذهنية الكامنة وراء اعتراض كهذا مفهومة جدًّا: فأدمغتنا مدرَّبة على التفكير بلغة السبب والنتيجة. وضمن شروط الفيزياء السوية، تتبع السببية إيقاعًا تعاقبيًّا: النتيجة تتبع السبب دائمًا. إن الإنسان ميَّال، في شكل طبيعي، إلى تصور سلسلة سببية تعود في الزمن إلى الوراء، وهي إما لا بداية لها وإما توصلنا إلى سبب أولي ميتافيزيقي أو "محرِّك أول" مثل الله. ولكن علماء الكونيَّات يدعوننا اليوم إلى تصوُّر منشأ للكون لا سبب مسبقًا له بالمعنى المعتاد الذي نستخدمه، ليس لأن هذا الكيان السببي غير عادي أو فائق للطبيعة، بل لأنه لا توجد فعلاً أية حقبة سابقة يمكن له أن يعمل فيها.
التقلُّبات الكوانتية تسعفنا
مع ذلك، فإن من الخطأ الاعتقاد بأن علماء الكونيَّات يقومون بدور الانتهازيين ويفسِّرون الكون، ضاربين عرض الحائط بأية حقبة سابقة، أو حتى معتقدين أن بإمكانهم ادِّعاء تعليله بالقول بأنه كان دائمًا موجودًا. ففي كلتا الحالتين، يمكن لنا دائمًا أن نتساءل: لماذا يتصف الكون بالشكل وبالملامح التي يتصف بها؟، أو في بساطة: لماذا هو موجود أصلاً؟
إن أية نظرية فيزيائية تصل إلى أقصى حدود التحقق عندما تستطيع أن تفسِّر لنا السبب الذي أدى إلى "إقلاع" الزمن (والمكان) فجأة في انفجار كبير، بدلاً من أن تطلب منَّا أن نقبل به كأمر لا تفسير له. تقول آخر فرضية ظهرتْ بأن ولادة الزمن والمكان الفجائية تلك إنما هي نتيجة طبيعية للميكانيكا الكوانتية. إن الميكانيكا الكوانتية هي ذلك الفرع من الفيزياء الذي ينطبق على الذرات وعلى القُسَيْمات ما تحت الذرية، والذي يختص بمبدأ هايزنبرغ الشهير في "عدم اليقين"، القائل بأن تقلُّبات مفاجئة وغير متوقَّعة تحدث داخل سائر الكمِّيات الخاضعة للرصد.
تمثيل لتقلُّبات الزمكان التي تحرضها تقلُّبات طاقة الفراغ. من واحدة منها ربما انبثق كوننا المتمدِّد.
ليس للتقلُّبات سبب على الإطلاق: إنها فعلاً تلقائية ومن صلب الطبيعة، في أعمق مستوياتها. وبالتالي، فإن تراكمًا من ذرَّات اليورانيوم يخضع لتحلُّل إشعاعي ناجم عن العمليات الكوانتية داخل النوى. ويتم هذا التحلُّل ضمن فترة معيَّنة تمامًا. لكن، على الرغم من ذلك، من المتعذر، حتى من حيث المبدأ، أن نتكهن متى ستتم هذه العملية داخل نواة معطاة. يمكن لكم أن تتساءلوا ما شئتم لماذا تمَّت عملية تحلُّل نواة ما في هذه اللحظة وليس في تلك، لكنْ ليس هناك سبب عميق – أو سبب خفي مبطون – يمكن له تفسير ذلك. التحلُّل يتم وحسب.
لقد أضحت المرحلة الحاسمة فيما يخص منشأ الكون، تقوم، من الآن فصاعدًا، على أساس تطبيق الميكانيكا الكوانتية، ليس على المادة وحسب، بل وعلى المكان والزمن أيضًا . تذكَّروا أن الزمكان هو مظهر من مظاهر الجاذبية، مما يعني أن علينا أن نطبِّق النظرية الكوانتية على حقل الجاذبية. فـ"النظرية الكوانتية للحقول" إنما هي فرع من الفيزياء أثبت جدارته، لكن علينا أن نعترف أن هناك مشكلات تقنية خاصة بحالة الجاذبية لا تزال تنتظر حلاً مُرضيًا. فالنظرية الكوانتية حول منشأ الكون تقوم على أسُس ما تزال هشَّة.
على الرغم من هذه العوائق التقنية، يمكن لنا أن نقول، في شكل عام نوعًا ما، إنه حين يخضع المكان والزمن للمبادئ الكوانتية، يصبح في إمكانهما أن "يقلعا"، وذلك دون معونة من سببية سابقة، بالتوافق مع قوانين الفيزياء الكوانتية. أما تفاصيل "إقلاع" الزمن فتظل دقيقة وموضع جدل. لقد وضَّح أينشتاين في نظريته في النسبية أن المكان والزمن مرتبطين ارتباطًا وثيقًا: علينا فعلاً أن نفكر بلغة الزمكان الرباعي الأبعاد، وليس بمفردات مكان ذي ثلاثة أبعاد وزمن وحيد البُعد. وهذا لا يمنع أن المكان يبقى المكان وأن الزمن يبقى الزمن. ولكن هنا تُمِدنا الفيزياء الكوانتية بضوء جديد.
قوانين أبدية
يمكن لهويتَي المكان والزمن المنفصلتين والمتميِّزتين أن تصيرا ضبابيتين على السلَّم المجهري الفائق عندما تخضعان لمبدأ عدم اليقين. ففي بساطة، إبان برهة وجيزة، يمكن للزمن أن يتصرف كالمكان، والعكس بالعكس. وتقول النظرية التي طوَّرها جيمس هارتل (جامعة كاليفورنيا، سانتا باربارا) وستيفن هوكنغ (جامعة كمبريدج) بأن هذه "الغمامة" الكوانتية تعني أننا كلما اقتربنا من المنشأ أضحى الزمنُ أكثر قابلية للاتصاف بصفات المكان والتخلِّي عن صفاته الخاصة. وهذا الانتقال لا يتم بطريقة فجائية، ولكن عدم اليقين الذي تقول به الفيزياء الكوانتية هو الذي يجعله غامضًا. وهكذا، وفقًا لنظرية هارتل وهوكنغ، نجد أن الزمن لا "يقلع" فجأة، ولكنه ينبثق في استمرار من المكان، خلال فترة وجيزة. ليست هناك، إذن، "لحظة أولى" خاصة لإقلاع الزمن، كما أن الزمن لا يمتد أزليًّا في الماضي. وبالتالي، فإن الفيزياء الكوانتية توافق على النتيجة المتناقضة ظاهريًّا التي تقول بأن الزمن منتهٍ في الماضي، وإن يكن من المتعذر تحديد بداية فعلية له.
على أية نظرية مكتملة حول منشأ الكون، بالطبع، أن تفسِّر أكثر من مجرد ظهور المكان والزمن: عليها، بالقدر نفسه، أن تعلِّل خصائص إضافية، مثل منشأ الطاقة وأصل المادة، وبنية الكون على السلَّم الكبير، ونسبة التمدد المرصودة. لقد تمَّ إحراز تقدم كبير في السنوات العشرين الأخيرة؛ وذلك أيضًا بفضل النظرية الكوانتية للحقول. هذه النظريات أوحت لبعضهم بسيناريو أكثر تفصيلاً، يقول إن المنطقة التي نطلق عليها تقليديًّا اسم "كون" ليست سوى "فقاعة" صغيرة من المكان داخل تجمُّع كبير لمناطق متمدِّدة، مرارًا ما تتجمَّع تحت اسم "الكون المتعدِّد". وهناك نظرية جديدة جدًّا – تُعرَف باسم "النموذج الإيكپيروتي" – تفسِّر ولادة الكون على أنها نتيجة اصطدام كونين يفصل بينهما "بُعد خامس". لكن، مهما يكن مبلغ الإبهار في هذه النظريات، سأكتفي فيما يلي بحدود الصورة التقليدية القائلة بأن الكون المرئي هو الوحيد الموجود.
باتت فكرة وجود "كون متعدد" مقبولة اليوم في الكوسمولوجيا الكوانتية. ثلاثة أكوان متصل بعضها ببعض بواسطة "ثقوب دودية" (النموذج السكوني).
ليس علينا أن نذهب بعيدًا لنتصور بأن قوانين الفيزياء، وبأن الحالة الكوانتية التي تمثل الكون، كانت موجودة كلها، في شكل أو في آخر، قبل الكون؛ إذ ليس الأمر كذلك، تمامًا كما أنه لا يوجد أيُّ شيء في شمال القطب الشمالي. إن قوانين الفيزياء ليست موجودة بأية حال في المكان والزمن؛ إذ إن وجودها مجرد، تمامًا مثل الرياضيات. إنها تصف العالم، ولكنها ليست "داخله" (على الرغم من أن بعضهم يخالف هذه الرؤية مخالفةً عميقة). إلا أن هذا لا يعني أن قوانين الفيزياء قد نشأت مع نشأة الكون. فلو كان هذا هو الوضع – لو كان مجموع الكون الفيزيائي والقوانين قد نشأ من لاشيء – لن يكون في إمكاننا، والحالة هذه، اللجوء إلى هذه القوانين لتفسير منشأ الكون. وبالتالي، حتى تكون لدينا فرصة لفهم ظهور الكون فهمًا علميًّا، لا مناص لنا من الاعتراف بأن للقوانين، في حدِّ ذاتها، صفةً مجردة، لازمنية، أبدية. ويقوم الحل الآخر على إحاطة منشأ الكون بـ"الغموض" والتخلِّي عن أيِّ تفسير. ويمكن لنا أن نرد السؤال، فنقول بأن القبول بقوانين الفيزياء كما هي ليس هدفًا في حدِّ ذاته. من أين أتت هذه القوانين؟ ولماذا "هذه" القوانين بالذات وليس قوانين أخرى؟ إن هذا اعتراض حصيف. علينا قطعًا تلافي السلسلة السببية التقليدية، والاستعاضة عنها بالبحث عن سلسلة تفسيرية؛ لكننا عندئذٍ نجد أنفسنا حتمًا وجهًا لوجه أمام المعادِل المنطقي للعلَّة الأولى، أي بداية السلسلة التفسيرية عينها. إن عمل الفيزياء عبارة عن تفسير العالم انطلاقًا من مبادئ تعمل عمل القوانين. أما الأسئلة المتعلِّقة بطبيعة القوانين في حدِّ ذاتها فهي تعود إلى الميتافيزياء. يكتفي بعض العلماء بهزِّ أكتافهم، قائلين إن علينا قبول القوانين في بساطة كما هي. ويقترح آخرون أن القوانين هي على ما هي عليه لضرورة منطقية بحتة. وهناك آخرون أيضًا يقترحون وجود عوالم أخرى عديدة، لكلٍّ منها قوانينه الخاصة، ووحده عدد محدود بينها يختص بالقوانين الضرورية لانبثاق الحياة وظهور كائنات تتحلَّى بالفكر، مثلنا نحن.
إن جميع الفيزيائيين تقريبًا ممَّن ينكبون على المشكلات الأساسية يقبلون بحقيقية قوانين الفيزياء. وإذا ما قبلنا، نحن، فعليًّا بهذه الفكرة، يمكن لنا عندئذٍ أن نقول إن قوانين الفيزياء قد سبقت منطقيًّا الكونَ الذي تصفه؛ أي أن قوانين الفيزياء هي في الأساس من العلاقة التفسيرية العقلانية، كما أن مسلَّمات إقليدس هي في الأساس من منظومة منطقية نسميها "هندسة". بالطبع، لا يمكن لنا أن نبرهن على أن قوانين الفيزياء تشكِّل بالضرورة نقطة الانطلاق لمخطَّط تفسيري، ولكن علينا أن نبدأ من مكان ما لكي نحاول فهم العالم فهمًا عقلانيًّا. وبالتالي، فإن قوانين الفيزياء تشكِّل، في نظر أغلب العلماء، خيارًا مُرضيًا. وبالطريقة نفسها، لسنا مجبرين على قبول مسلَّمات إقليدس كنقطة انطلاق للهندسة؛ فمجموعة من النظريات، مثل نظريات فيثاغوراس، يمكن لها أن تقوم بالمهمة نفسها. لكن العلم (والرياضيات) يهدفان إلى تفسير العالم تفسيرًا على أبسط وأوجز ما يكون التفسير. وتأتي مسلَّمات إقليدس وقوانين الفيزياء لتؤدي هذا المطلوب.
من الممكن، في الواقع، أن نقدِّر درجة كثافة هذه المخطَّطات التفسيرية وفائدتَها، مستعينين بفرع من الرياضيات يُطلَق عليه "النظرية الخوارزمية للمعلومات". إن قانونًا فيزيائيًّا ما هو، في صراحة، وصفٌ للعالم أكثف من الظاهرات التي يصفها. يكفينا، مثلاً، أن نقارن إيجاز قوانين نيوتن بتعقيد الأزياج الفلكية التي تُفَهْرِس مواقع الكواكب. فكلما تطورت الفيزياء قام توحيدُ القوانين وتعميمُها بتقليص التعقيد الخوارزمي الإجمالي لوصفنا للكون. إن من الشائع في العلم أن نعتبر أن الوصف الأكثف، والأشمل في الآن نفسه، هو الوصف الأكثر أساسية.
أسئلة مفتوحة
هناك أناس لا يكتفون بقبول قوانين الفيزياء كمجموعة مسلَّمات، بل يحاولون الذهاب إلى أبعد من ذلك. ويكون هذا الموضوع في نظرهم هو الفرصة المرجوَّة للإفاضة في "المعنى" أو "الغاية" التي قد ينطوي عليها الكون. ويمكن لهم بذلك البحثُ، بمصطلحات رياضية، عن إمكان وجود مجموعة أخرى من القوانين تكون، في شكل منطقي، ذاتية التماسُك. ويمكن لنا أيضًا أن نتساءل عن إمكانية انطواء مجموعة القوانين التي يتصف بها الكونُ المرصود على شيء ما غير اعتيادي أو خاص يميِّزه عن أكوان أخرى ممكنة الوجود. وما أدراك أن القوانين المرصودة لا تشكِّل، بطريقة ما، مجموعة مثلى، تكون منبعًا لغنًى كبير ولتنوع لانهائي في الأشكال الفيزيائية؟ ومن الممكن حتى أن يكون وجودُ الحياة والوعي مرتبطًا، بطريقة ما، بهذه الخصوصية. تلكم أسئلة مفتوحة؛ ولكن يبدو لي أن من الأجدى لنا أن نتأمل في هذه المفاهيم العلمية واللاهوتية من أن نتحيَّر حول ما حدث قبل الانفجار الكبير.
*** *** ***
ترجمة: ليلى خيري النشواتي
ساحة النقاش