في الوقت الذي يزداد فيه إقبال السيدات والفتيات على ارتداء العباءة في
المناسبات الدينية وعند الذهاب الى المساجد، إلى جانب ارتدائها في بعض المناسبات الخاصة، يظل الجلباب المصري بخاماته القطنية المتنوعة بارزاً ومتألقاً بتصميماته المقتبسة من عبق التراث المتعدد على أرض مصر ما بين النوبي، والريفي والبدوي. وإذا كان الإقبال على الجلباب المصري يزداد على مدار أيام السنة، فإن هذا الإقبال يتضاعف في شهر رمضان ليتحول إلى عادة من العادات الرمضانية تحرص عليها المصريات خلال الزيارات وحفلات الإفطار والسحور الرمضانية في الخيام والفنادق. ولعل هذا ما دفع بعض مصممي الجلباب المصري للإبداع في هذا المجال وتصميمه بشكل يقبل عليه الأجانب والعرب والمصريون على حد سواء. في مقدمة هؤلاء تأتي المصممة شمس الأتربي التي تخصصت منذ سنوات عديدة في هذا الم
جال، وأخذت على عاتقها مهمة لفت الأنظار إلى جماله وأناقته وإمكانية إرتدائه في العديد من المناسبات. عن تجربتها مع هذه القطعة الاثرية العصرية، تقول لـ "الشرق الأوسط" التي التقتها في معملها الخاص: "بدأت مشواري مع
الجلباب المصري عندما أردت التعبير عن هويتي المصرية والتأكيد على عروبتي واعتزازي بتراثي الغني. فعلى الرغم من وحدة المجتمع المصري إلا أن كل منطقة لها جلباب يميزها عن غيرها من المناطق سواء من حيـث القمــاش او التطريز او التصميم. فجلباب النوبة في أقصي جنوب مصر، يتميز بذيل جرجار ويكون لونه أسود شفافا ومن تحته الجلباب الملون بمختلف الألوان الزاهية، بينما تشتهر مدينة إسنا بصعيد مصر، بالجلباب المصنوع من "التل الأسود" المشغول بخيوط فضية تختلط بالخيط الأحمر في بعضها، إلى جانب واحة سيوة المتميزة والمنفردة بزيها الخاص وحليها الكثيرة وأغطية الرأس التي لا يماثلها في جمالها سوى بدو شمال سيناء الذين يتميز زيهم بغناه بالتطريز ذي الألوان الجميلة المتباينة. كما يتميزون أيضا بالأحزمة والطرح المشغولة وأقنعة الوجه المليئة بالعملات الفضية أو الذهبية، فيما تشتهر منطقة مصر الوسطى بالعباءة "المَلّس" والتي ترتديها أيضا بعض قبائل العرب". وتتابع الأتربي: "ول
ا ننسى طبعا مدينة رشيد التي ينتهي عندها مصب النيل ويلتقي في مشهد مؤثر بمياه البحر المتوسط، فهي الأخرى لها زي خاص يميزها. ولهذا فالجلباب المصري لا ينتمي لأصل واحد ولا لثقافة واحدة، بل هو متعدد ومتنوع التصميمات والثقافات والإكسسوارات التي تنسق معها. ومن كل هذا التراث الجميل أستوحي أفكار أزيائي، وهذا ما يظهر في الخطوط
الأولى لرسم التصميم". الخامات التي تستخدمها شمس الأتربي جميعها مصرية طبيعية، وهو ما تؤكده بقولها: "نستخدم نوعية خاصة من القطن المصري المصمم خصيصاً لنا ليتماشى مع الطريقة التي تتطلبها تصميماتي، بالإضافة إلى الحرير الطبيعي المغزول والمنسوج يدويا مع خيوط قطن للتمكين وخيوط التطريز وتكون إما من القطن أو الحرير. أما عن الألوان فلا يوجد لون معين تتميز به منتجاتنا، وإن كان معنا دائما الأسود والأبيض والأحمر والبني والكاكي والأصفر والبرتقالي ، فضلا عن استعانتنا من حين لآخر ببعض الألوان الجديدة كالأزرق الفيروزي على سبيل المثال. وحالياً نستخدم ثلاثة وعشرين لوناً، إذ نعمل على إدخال أكثر
من لون في الجلباب الواحد، لكننا نحرص أن تكون الألوان متناغمة". وعلى الرغم من محدودية عدد القطع التي تنتجها المصممة شمس الأتربي من كل تصميم جديد، إلا أن التنفيذ يستغرق وقتا طويلا، حيث يقوم بالمهمة أكثر من مطرز وقد يصل الأمر في بعض الأحيان للاستعانة بأربعة أو خمسة أفراد للقطعة الواحدة. ورغم التشابه الشديد للقطع المنتجة من تصميم واحد، إلا أن كل قطعة تأخذ سحرها وشخصيتها الخاصة من روح مطرزها الذي ابتدعتها يده وتتأثر بمزاجه النفسي، وهذا ما يفرقها عن مثيلاتها فتصبح كل واحدة فريدة من نوعها، وهذا التفرد يجعل العديد من النجمات وسيدات المجتمع يقبلن عليها، فعلى سبيل المثال لا الحصر تعتبر الفنانات نبيلة عبيد، ليلي علوي ، يسرا، رغدة ، سميحة أيوب، هالة سرحان وغيرهن من بين زبونات شمس المخلصات. ما يحسب لشمس الأتربي انها رغم كل إغراءات الموضة وموجاتها المتقلبة، لا تهتم بالصرعات او ركوب الموجات، وتبرر ذلك بقولها ان "اتباع خطوط الموضة خطة استهلاكية بحته لتسويق بضاعة تفرض علينا من الغير، فلماذا أخضع لذوق غيري؟ ومن الذي فرض أو قرر أن هذه هي الموضة؟ فالموضة هى بمثابة تذوق جمالي بحت وما يناسبني هو الذي يعبر عني وعن شخصيتي، بمعنى انه يجسد اسلوبي لا اسلوب شخص آخر". وتأسف
شمس لما تتعرض له الأزياء التقليدية من تجاهل في غمرة اتباع الموضة العالمية، فعلى الرغم من الإقبال الكبير على الجلابيب المصرية سواء داخل مصر أو خارجها، إلا أنها ترى أن الجلابيب وغيرها من الأزياء التقليدية التي تتميز بها مصر متعرضة للاندثار . تقول: "في بدايات القرن العشرين كانت هناك تسع مناطق في مصر ترتدي فيها النساء أزياء تقليدية، تشمل بعض قرى الصعيد، الدلتا، النوبة، الواحات الخارجة والداخلة والبحرية وواحة سيوة وشمال سيناء والساحل الجنوبي من البحر الأحمر. وتميزت هذه الأزياء بجمالها الواضح والحشمة والراحة والتوافق مع المناخ، كما كان تطورها شديد البطء، فلم تعرف حتى في القرن العشرين التحولات الموسمية والشطحات التي تتميز بها الموضة، ولهذا لم تدفع من يقبل عليها إلى اتباع نمط استهلاكي تتبدل فيه التصميمات والألوان والتطريزات
والتقاليد حسب الأهواء والأمزجة، بل ظلت زيا تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل". وتشير إلى انه من ضمن مزايا هذه الظاهرة أنه كان لكل قرية أو مجموعة من القرى نمط رئيسي يرتديه الأغنياء والفقراء على حد سواء. ففي المناسبات العامة مثل الأفراح والعزاءات لم يكن من الممكن التمييز بين السادة من علية القوم ومن يعملون لديهم . "أما حاليا فالأمر يبدو مختلفا حيث اختفت هذه الأزياء من كافة جوانب حياتنا، وأعتقد أن الاختفاء يعود إلى الاغتراب الثقافي. وأذكر أنه في عام 1981 وعندما كنت مديرة لمشروع العريش للتطريز الذي صمم بهدف الحفاظ على فن التطريز
البدوي في شمال سيناء، لاحظت أن التجار والهواة الإسرائيليين يقومون بزيارة الأسواق البدوية وإخلائها من أفضل منتجاتنا من الأكمة والحلي الفضية إلى جانب الأثواب البدوية ولم يتبق على أرض سيناء سوى أفقر النماذج الخالية من الإبداع والخيال. لذا وأمام واقع اختفاء المراجع قمت بالاستعانة بالأثواب الأصلية التي كنت قد جمعتها على مر السنين من هذه المنطقة ووضعتها تحت تصرف العاملات معي لتكون بمثابة مصدر للإلهام والاستلهام. إذ من خلالها يمكنهن مشاهدة وحدات التطريز المختلفة ويتعرفن على كيف كانت جداتهن يوزعنها على الأثواب. ومع الوقت تعلمنا معا، فن مزج الخيوط الملونة وانتهينا إلى تكوين "بنك للوحدات" يضم مئات إن لم يكن آلافا من قطع القماش الصغيرة التي تحمل كل منها تطريزة منقولة عن أثواب قديمة