لاشك ان هناك ارتباط وثيق بين اعتدالية الجو والصحة النفسية ، ومن هذا المنطلق فيجب ان ندرك تماماً ان ثمة علاقة ارتباطية وثيقة بين اضطرابات الطقس على مدار العام والصحة النفسية ، فافضل فصول العام صحة وتوافق فصل الربيع وعلى النقيض فصل الصيف ، وتشير الإحصائيات حول أعداد المرضى النفسيين المترددين على العيادات والمصحات النفسية في مختلف انحاء العام إلى الارتباط الوثيق بين فصول السنة المختلف وبين زيادة أعداد الحالات، وتؤكد الأرقام أن شهور السنة التي تزيد فيها نسبة الرطوبة وترتفع درجة الحرارة ترتبط بمعدلات عالية من الاضطرابات النفسية .
ويعيش العالم حاليًا عصر الاضطرابات النفسية، كما يدل على ذلك الأرقام والإحصائيات التي تؤكد أن ما يقرب من نصف سكان العالم يعانون نوعًا أو آخر من الأمراض النفسية ، وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الإصابة بحالات القلق النفسي تصل إلى 30% في بعض المجتمعات، وحالات الهلع والمخاوف المرضية بنسبة 12%، والاكتئاب النفسي بنسبة 7%، والوسواس القهري بنسبة 3%، وذلك بالإضافة إلى مرض الفصام العقلي بنسبة 1% .. وهذه مجرد أمثلة للانتشار غير المسبوق للأنواع المختلفة من الأمراض والاضطرابات النفسية التي تصيب الإنسان في مختلف بلاد العالم ، وهنا في هذا الموضوع نتناول بعض الجوانب الخاصة بالعلاقة بين الحالة النفسية وحالة الطقس بمناسبة جو الصيف الحار الذي نعيشه في هذا الوقت.
الطقس الحار والحالة النفسية:
شغلت العلاقة بين الحالة النفسية والتغييرات الجوية الأذهان منذ زمن طويل، حين لاحظ الإنسان ارتباط حالة الطقس في فصول السنة مع حالة المزاج كما يظهر ذلك في تراث الأدب والشعر والفنون، فنسمات الربيع تنفس النفس وتبعث العواطف الإنسانية الرقيقة، بينما حرارة الصيف وبرد الشتاء حالات ترتبط بالانفعالات النفسية الحادة، والخريف مرتبط في الأذهان بالذبول والهدوء والسكون، وجاء العلم الحديث ليؤكد وجود علاقة بين حالة النفس من حيث الاتزان الانفعالي، والمزاج في اعتداله واضطرابه وسلوك الإنسان، وبين التغييرات الجوية من خلال تأثيرات كهربائية ومغناطيسية كونية يتفاعل معها عقل الإنسان والجهاز العصبي، وتكون المحصلة النهائية تغييرات بيولوجية في جسم الإنسان مع حرارة الصيف وبرد الشتاء، وكذلك تغييرات نفسية في عقله تبدو في صورة اعتدال أو اضطراب في المزاج وتوتر أو استرخاء في الانفعال والسلوك .
ثبت علميًا أن الجو الحار الرطب يرتبط ارتباطًا مباشرًا باضطراب الحالة العقلية ، فالشخص العادي يصبح أكثر قابلية للتوتر وتسهل استثارته إذا كان موجودًا في طقس حار مشبع بالرطوبة، وكثير من الناس يفقدون السيطرة على انفعالاتهم وينفد صبرهم في هذا الطقس الذي يتميز به الصيف في بلادنا، كما أن الجو حار ونسبة الرطوبة الزائدة تدفع غالبًا إلى الكسل وتحد من النشاط، وهذا ما نجده في البلاد الحارة، بينما يرتبط الجو البارد في البلاد الأخرى بالنشاط والحركة وزيادة الإنتاجية، لكننا نرى أن ذلك لا يجب أن نتخذ منه سببًا نتعلل به لنبرر أن الدول المتقدمة لها مناخ بارد وأن حرارة الجو عندنا تمنعنا من الإنتاج والتقدم.
حرارة الجو وحالة الجسم والعقل:
ومن المعلومات الطبية المعروفة أن حرارة جسم الإنسان الطبيعية ثابتة حوالي 37 درجة مئوية، وفي الجهاز العصبي للإنسان وغيره من الحيوانات مراكز تقوم بضبط حرارة الجسم في مستوى ثابت بتحقيق اتزان بين إنتاج الحرارة من عملية احتراق المواد الغذائية التي نتناولها وبين فقد الحرارة من سطح الجسم، حيث يساعد على ذلك العرق الذي يتبخر فيخفض حرارة الجسم في الطقس الحار، كما أن الرعدة تسري في الجسم لينتج حرارة أكثر في الجو البارد.. ولكن يبقى السؤال عن علاقة حرارة الجسم بالحالة النفسية مدى تأثيرها على العمليات العقلية.
ومن المعروف أن المرضى الذين يعانون الحمى وارتفاع درجة الحرارة تبدأ لديهم أعراض عقلية في صورة تخاريف وهلاوس، وتتحسن حالتهم وتعود قواهم العقلية للوضع الطبيعي بمجرد انخفاض درجة الحرارة، وفى المقابل فإن العلاج عن طريق رفع درجة الحرارة أو العلاج بالحمى يعانون بعض الأمراض العقلية المستعصية بميكروب الملاريا حتى يصاب المريض بحمى متقطعة ثم يعالجهم بعقار الكينين فتتحسن حالتهم، كما أن العلاج يخفض درجة الحرارة. والتبريد يستخدم في بعض الحالات العضوية والعقلية على حد سواء.
وقد وصف بعض العلماء حالات من الهستيريا مصحوبة بارتفاع في درجة حرارة الجسم تم شفاؤها وخفض درجة الحرارة بالعلاج النفسي. وفي الطب العربي يذكر الطبيب ابن العباس المجوسي (384هـ) في كتابه «كامل الصناعة الطبية» نوعًا من الحمى سماه «حمى الذبول» من أسبابها الهم والتعب والغم والغضب. ونصح بأنه «ينبغي أن لا يدمن الإنسان الغم ولا يستعمل الغضب ولا يكثر من الهم والفكر».
ساحة النقاش