الواقع الثقافي في كتاب "فتنة الحاسّة السادسة- تأمّلات حول الصور" [*]
رائد الحواري| فلسطين
في الحرب تتراجع قراءاتنا، كتاباتنا، شهواتنا، رغباتنا، حتى أننا لا نفكر إلا بالتخلص من وقع الحرب علينا وما فيها من ويلات. وأن يتم إصدار كتاب في هذا الوقت والظرف، فهذا يعد إنجازا للكاتب وتحديا للمحتل وبربريته.
فراس حج محمد غزير الإنتاج، حتى أنه يصدر أكثر من ثلاثة كتب في العام الواحد، ومع هذه الغزارة إلا أنه يقدم ما هو جديد ومفيد وممتع، فرغم أن كتابه الأخير "فتنة الحاسّة السادسة- تأمّلات حول الصور" جاء بخط صغير، خط 12 أو 14، وهذا الحجم مرهق لمن تجاوز الستين، ومع هذا تمت قراءة الكتاب في جلستين فقط، وهذا يشير إلى سلاسة اللغة والأسلوب وخصب المضمون، فهناك حديث في أكثر من مجال، الأدب، المثقفين، النساء، السياسية، الكتابة، النقد، الشعراء، المجتمع، الجمهور، وكيف ينساق وراء جمال الأنثى، كما أنه يتناول علاقة الكتاب والكتابة والقراءة بالمرأة، فهذا التنوع يفتح المجال أمام العديد من القراء ليجدوا ما يرغبون به.
الأم والأب:
من هنا سنحاول التوقف قليلا عند ما جاء في الكتاب، ونبدأ من الكاتب وعائلته، فهناك الأم التي أثرت عليه وساهمت في جعله كاتبا بعد أن أرسلته إلى المدرسة وتابعت تعليمه، كما أن اهتمامها بالنواحي الجمالية ساهمت في جعل "فراس" ما هو عليه الآن، وما كان له أن يكون دون أمه: "أمي هي التي جعلتني أفهم الحياة وأحبها وأواجهها، كما هي التي جعلتني ألتفت إلى القهوة والنساء وأعضاء النساء (النهود والأرداف) وملابسهن، أمي هي التي ربطتني بالمدرسة وأجبرتني على أن أتعلم غصبا عني" (ص 32)، إذن "أم فراس" هي صاحبة الفضل فيما وصل إليه "فراس" من مكانة وإنتاج ثقافي وسلوك اجتماعي، ودونها ما كان له أن يكون، من هنا نجده يذكرها في مواضع أخرى في كتابه "فتنة الحاسة السادسة".
الأب حاله كحال الأم، فقد ذكره في أكثر من موضع في الكتاب، وكيف أنه أسس لوجود روية فراس للصورة، موضوع هذا الكتاب: "تأملات حول الصور": إن غاب اسمي فهذا رسمي" (ص 62)، من هنا جاءت فكرة الكتاب، وفلسفة الصورة، وكيف أنها تمثل وسلة تأثر وإثارة للمشاهد بصرف النظر عن مستواه المعرفي أو الثقافي، فالكل (يقع) أمام جمال الأنثى، وأعتقد ما كان لهذا الكتاب أن يكون دون حكمة الأب المتعلقة بالصور.
النساء:
الكتاب يتناول مجموعة كبيرة من النساء، فتعلق الكاتب بجمالهن، منذ جلوسه على مقاعد الدراسة. من هنا كأن تأثره بالمعلمات: "وما زلت أذكر أولئك المعلمات، وقصة شعر إحداهن وارتدائها القميص الخفيف، أو التنورة الطويلة" (ص 33)، بعدها ينقلنا إلى مغامراته وعلاقاته مع النساء وكيف كان (دون جوان) بالنسبة للعديد من الكاتبات والشاعرات، فينقل لنا بعض المحادثات وكيف أنهن يستخدمن الإيحاء في التعبير عن حاجتهن الجسدية: "أريد رجلا يقتني الزيتون من جسدي، ويصب زيت الزيتون ليمر كل شيء بسلام، ويمر غصنه بفمي، ليغدو شجر الأراك منبتا لخضابه" (ص 52)، مثل هذه اللغة الأنثوية تعبر عن الحاجة العاطفية والجسدية للرجل، وكلنا يعلم أن صوت الأنثى أو الحديث عنها مثير للمتلقي، سواء أكان رجلا أم امرأة، وهذه أحدى الوسائل/ الأساليب التي استخدمها الكاتب لجذب القارئ وجعله يتوغل أكثر في الكتاب.
ويحدثنا عن مذيعة في أحدى المحطات العربية وكيف أن شاعراً يمنياً يقع في حبال صوتها رغم أنها تتحدث عن الحرب في بلده اليمن، وبما أن هناك شاعراً فقد جاءت رسالته للمذيعة بصورة مذهلة: "أتدركين ماذا يعني أن شابا يمنيا يمقت السياسة والحديث عنها وسماعها يقف مشدوها بالنظر لك مبتسما، وأنت تتحدثين عن كوارث بلده؟... سأخبرك أيضا حينها أن فيك من السحر ما يجعل الأخبار السيئة محببة، ولك من التناقضات ما تجعل الأبكم ينطق". (ص 167). اللافت فيما قاله الشاعر اليمني، وما قالته الشاعرة، جمالية اللغة وقدرتهما على التعبير عما فيهما من مشاعر ورغبات وحاجات عاطفية وجسدية، وهذا ما يجعل كلامهما محببا للقارئ الذي ينجذب لمثل هذا الحديث وهذا الكلام.
فراس القارئ النهم، والشاعر والكاتب والناقد، يرى القراءة كالمرأة، فهي بالنسبة له جسد يفيض بالجمال والإثارة: أحب الكتب التي تغري بالقراءة، أحب الكتب غير السهلة، حبيبتي أيضا تغري بالحب وممارسة الحب، لكنها ليست سهلة، أحب الكتب التي تدفعني دائما لأعيد قراءة بعض فقراتها لأففهما أكثر". (ص 117)، ولم يقتصر الأمر على القراءة فحسب، بل طال أيضا الكتابة التي يمارسها يوميا ويريدها أن تكون: "صرت مهوسا بتأليف الكتب كبيرة الحجم والمكتنزة، لأن حبيبتي مكتنزة". (ص 118)، ثم ينتقل إلى الكتب التي يقتنيها، وكيف أنه يريدها أن تكون كحبيبته المكتنزة: "أحب اقتناء الكتب الكبيرة" (ص 120)، إذاً، فراس كقارئ وككاتب وكمقتني كتب/ حاله كحال فراس المحب، فهو يرى/ يريد أفعاله الثقافية والمعرفية مماثلة لهيئة/ لشكل حبيبته، وهذه سابقة لفراس لم يسبقه أحد عليها، فالعديد من الشعراء يحافظون ويهتمون بكونهم شعراء، لأنهم من خلال الشعر يجدون ذاتهم كشعراء، وبالشعر يستطيعون أن يعبروا عن مشاعرهم تجاه من يحبون، لكن أن تكون المرأة/ الحبيبة هي الصورة المثلى للكتابة والقراءة والكتب، فهذا أمر غريب وعجيب!
"فراس" يتوغل أكثر في نظرته للمرأة والكتابة، فيشبه الجنس بالكتابة: "ورأيت أن الفعل الجنسي هو كتابة من نوع آخر، واستشهدت بقول جبران خليل جبران: "إنما الناس سطور كتبت لكن بماء" (ص 113)، من هنا يمكننا القول إن المرأة والكتابة كيان/ شيء/ فعل متشابه ومتماثل عند فراس، لهذا نجد كتاباته فيها الفضيلة، وفيها (الإباحية)، فيها الحب وفيها الكره، فيها السلم وفيها الحرب، فيها النبل وفيها الخيانة، فيها العفة وفيها الفحش، وما قوله عن الشعر والفحولة: "فالشاعر العربي يجب أن يكون فحلا في السرير كما هو فحل في القصائد، فإن نقصت فحولته في السرير ينكسر انتصاب القصائد ويبرد حبرها، وتغدو باهتة رطبة لا تصلح للنشوة الكبرى" (ص 103)، إلا صورة عن هذا (التناقض/ الازدواجية) التي جاءت في الكتاب.
المجتمع:
يتناول الكاتب حال المجتمع، إن كان في مجال عمله كمشرف تربوي، أم ككاتب وكشاعر وناقد، يعطينا صورة عن المعلمين والتربويين، وكيف أنهم فئة لا تقرأ، رغم أن عملها يفترض أن يكون أساسه القراءة والكتابة: "لم أجد أحداً في هذا المحيط قارئا جديا سوى أربعة قراء أو خمسة على أبعد تقدير". (ص 50)، وهذا يعكس تخلف وتراجع التعليم في فلسطين، فإذا كان المعلم والمشرف لا يقرأان فيما بالنا بالعامل أو الفلاح أو حتى الموظف العادي؟
أما المثقفون وكيف يتعاطون مع الثقافة، فيتحدث عن إطلاق كتابه والكاتبة التي أجرت اللقاء معه، وكيف أن أحد العاملين في محطة تلفزة يطلب من الكاتب أن يجري لقاء مع تلك الكاتبة للتحدث عن كتاب فراس: "أعجبته صورتها ليجري معها لقاء بخصوص كتابي أنا... هنا يمكن العهر والوقاحة معا". (ص107)، وهذا يعطي صورة قبيحة عن المثقفين وعدم نزاهتهم في التعامل مع الحدث الثقافي والمثقفين، فهم ينساقون وراء إشباع غريزتهم أو ميلهم للجنس الآخر، دون أن يراعوا الحيادية والموضوعية في سلوكهم ونجاح عملهم.
من هنا نجد العزلة تمثل أحد أشكال التعبير عن رفض هذا الواقع: "وهذا بالضبط المعنى الحرفي لخروجي من دائرتي الزمان والمكان الذين كانا يحيطان بي، اليوم لا شيء يحيط بي، ريشة تطير دون أي هدف". (ص 204)، فالنفاق والركض خلف أسماء بعينها، خاصة الإناث، تجعل الكاتب النبيل ينعزل ويعتزل الناس ليكون صادقا مع ذاته.
الصورة:
الكتاب يتحدث عن الصورة وأثرها، إن كانت صورة مصورة، أو صورة أدبية/ شعرية، من هنا نجد الكاتب يقدم أفكاراً حول الصورة وأهميتها ودورها: "الصورة هي أكثر جمالا من الشخص، المرأة في الصورة أجمل من الواقع... صورة المرأة في الشعر أهم منها... أنا اخترت الانحياز إلى الرسم لا إلى الشخص، لذلك أحب صور النساء أكثر من النساء". (ص 60 وص 61)، وهذه حقيقة في الأدب والفن، فالتخيل، والتأمل في الصورة يفتح آفاقاً أمام المشاهد/ القارئ أكثر من اللقاء الشخصي، لأن الأول متخيل، والثاني حقيقي/ كامل لا يترك أي مجال للتفكير، فكل ما يريده المشاهد/ القارئ يجده أمامه. ويوضح الكاتب الفرق بين الحقيقي وبين المتخيل/ الصورة: "فكل ما لا يمس ولا يشم ما هو إلا صورة في نهاية المطاف". (ص 204)
الشعر:
ينقل لنا الشاعر مجموعة قصائد لمجموعة من لشعراء، منها قصيدة للشاعر المصري "علي سلامة" باللهجة المحكية، تعبر عن سوء الواقع والناس، وبما أنها جاءت بصورة ساخرة حيث تجعل "إبليس" يهرب، لتفوق الناس عليه، ولخباثتهم ودهائهم، مما يجعلها تصلح لكل المنطقة العربية، كما ينقل لنا قصيدة "آلاء القطراوي" التي ترثي فيها أبناءها الشهداء في غزة:
"أمسح بكف فوق دمعي علها
تشفى بكفك يا نبي موعي
هي غصة في القلب تثقل كاهلي
أريت أشجارا بدون فروع؟
أريت شمسا كيف تبكي ضوءها
حين ارتدت ثوب الحداد شموعي؟
أريت كيف غدت جنائن ضحكتي
قمحا يعذبه الأسى من جوعي؟
ليست تضيق الأرض لكن إنها
ضاقت عليّ من الفراق ضلوعي"
(ص 190)
وهذا التشكيل والتنوع هو الذي أثرى الكتاب، وجعله سهل التناول، رغم ما فيه من مآسٍ وأوجاع، إن كانت وطنية أم اجتماعية.
وقبل أن أغادر أذكر أن الكاتب يتناول الفنانة الكورية الجنوبية "شين إيه كيم" ولوحتها الفنية التي تتحدث عن غزة، وما يفعله البربري المحتل فيها من جرائم ومجازر، كنا نتمنى على الكاتب أن يضع صورة اللوحة التي رسمتها الفنانة الكورية، حتى نستطيع فهم التفاصيل أفضل، والتعرف على اللوحة أكثر.